"أودّ اليوم أن أكون شجرة": تحدّي التدمير بمعرضٍ فني
بعدما أتى الدمار على معظم لوحاته، الفنان عبد القادري يتحدى نتائج انفجار بيروت.
في الرابع من آب/أغسطس الماضي، وقع انفجار مرفأ بيروت. لم يكن قد مضى على افتتاح معرض "رفات آخر وردة حمراء على وجه الأرض" للفنان عبد القادري في غاليري تانيت، سوى أيام قليلة. لحق دمار كبير في الغاليري، تساقط زجاجه، وتهاوت جُدرانه، وكم كانت الصورة قاتِمة على فنانٍ أدرك في لحظةٍ أن أعماله صارت تحت الرُكام.
"عشت لحظة صدمة في تلك العشيّة"، بهذه الجملة يُعلِّق القادري على لحظة الحَدَث، ويُضيف للميادين الثقافية "كم كانت الصدمة كبيرة عند تفقّدي له، والوقوف على المشهد المأسوي الذي حلّ عقب الانفجار. تخيّل كيف يكون شعور الفنان وهو يشاهد أعماله تحت الردم. في اليوم التالي، عدت إلى الغاليري، وحاولنا إنقاذ ما أمكن".
ثم يروي قصة معرضه الحالي "أودّ اليوم أن أكون شجرة"، حيث المشهد المؤلِم جعله يُفكِّر بأهميّة الفن ورسالته في هذه الظروف، وتولّدت لديه فكرة أنه لا بدّ من فصلٍ جديدٍ لمشروعٍ فني. يقول عن ذلك: "شعرت للحظة بهول ما حدث، وكم كان حقيقياً كجزءٍ من صورةٍ أوسع.. وبعد أسبوع، توضَّحت أكثر أحوال الناس، والعائلات التي تركت بيوتها".
ويتابع الفنان البيروتي المُتخصِّص في الأدب العربي والفنون الجميلة معاً: "كأني رفضت أن أصدِّق ما شاهدت. تلمِّست إمكانية مشروع بأبعاد مُتعدِّدة، أولها الفني، وفي مُقدِّمة الاهتمام، تكريم وتحيّة للمعماري الذي قضى في الانفجار وهو جان مارك بونفيس، مُصمِّم الغاليري الذي احتضن المعرض، وثانيه، العاطفي تحسّساً لأوضاع الناس الموجودين في المنطقة في ظلّ ما تعرَّضوا له في لحظة غير مُنتظرَة"، مُعلّقاً: "كان إحساساً لا يمكن تخيّله أو تحمّله، أن تقف في مكانٍ قضى فيه خمسة أشخاص، بينهم بونفيس".
علاقة القادري بالأشجار تعود إلى ما قبل مشروعه الأخير في غاليري تانيت، فقبل عامين قدَّم معرضه "قصة شجرة الكاوتشوك" في متحف سرسق.
وعن حبّه للشجرة، وهاجِسه بها، يحكي القادري رؤيته لها: "الشجرة بالنسبة لي هي كائن استثنائي تتمتَّع بالقُدرة غير الاعتيادية على امتصاص الوَجع، والألم، والكره، والشجرة الآن تروي قصص وذاكرة بيوت العائلات البيروتية التي هجرت منازلها، وتركت الكاوتشوك شاهِداً على الخواء، فأفضل خيار هو أن أكون شجرة عندها قُدرة على تحمّل الظروف الصعبة، في الأزمة المحلية والعالمية، وقُدرة أيضاً على العطاء، وفي كل صفاتها ما لم يعد لنا كبشر قُدرة على تحمّله".
بعد أسبوعٍ تبلورت الفكرة، فاتصل بصاحبة الغاليري موضحاً رؤيته، ومشروعه المُلخّص بتعليق جداريّتين كبيرتين على جدارين صمدا في الغاليري، كل منهما بطول عشرة أمتار.
ويقول القادري موضحاً أن صاحبة الغاليري "أعطتني حرية التصرّف، وبدأت أبلور الفكرة بالعمل على رَسْم أشجار، بوجهة تجسِّد الوحدة والتضامن الذي يجب أن نعتمده، ونعيشه دائماً في حياتنا، تشبّها بوحدة المباني، والنواحي التي دُمِّرت في الانفجار".
كل جدارية تتضمَّن أربعين لوحة من كرتون، وكل منها بطول متر وعرض سبعين سنتمتراً، تشكِّل هذه الرسومات المشهد العام للجدارية، ومفروض، بحسب القادري، أن "تُباع بشكلٍ إفرادي، والمبلغ الذي نجمعه يعود رَيْعه لمشروع مؤسّسة "بسمة" غير الربحيّة، وهي منظمة مُلتزِمة بإعادة بناء وترميم منازل العاصمة الأكثر تضرّراً جرّاء الانفجار وهدفه إعادة تأهيل بيوت العائلات المُتضرّرة".
أما معرض "رفات آخر وردة حمراء على وجه الأرض"، فقد كان بدوره "كتحدٍ بالفن، لظروف البلاد الصعبة على مستوى كورونا، والأزمة الاقتصادية، العنصران اللذان ألقيا بضغوطٍ كبيرةٍ على الحياة الفنية"، بحسب القادري الذي أضاف: "رأيت أن أدخل في المُغامرة، وأفتتح المعرض، ليكون بمثابة مبادرة إيمانية بالحركة الفنية، وما يمكن أن تلعبه في الظروف الصعبة".
ضمَّ المعرض لوحات اشتغل القادري عليها لمدَّة سنتين ونصف السنة بدءاً من العام 2018، وطغى اللون الأسود على الأعمال بسبب "الظروف الصعبة الشخصية والعامة السائِدة في البلاد"، كما يقول الفنان الشغوف بمسألة الحريات.
ويُدير المعرض الحالي مارك معركش، وتشترك به على مستوى الإعلام والترويج مؤسّسة "ميروس"، بالترافُق مع إطلاق موقع لترويج عملية البيع بهدف خدمة الناس بصورةٍ أسرع.
القادري الذي بدأ أول معارضه عام 2006 بمعرض "أبو غريب"، يخلص إلى القول "إننا بهذا المشروع نكون قد خلقنا صورة مختلفة للواقع، أولاً، وأوجدنا فُرَص التأثير لصالح الناس، ثانياً، وبذلك أشعر أنني قدَّمت الشيء البسيط كفنان، وإنسان في هذه المحنة التي نمرّ بها".
يُذكَر أن القادري شارك في العديد من المعارض الجمعيّة في إسطنبول، وباريس، وكمبريدج، وبودابست، والبحرين، وقطر، وأبو ظبي، ومُنِحَ جائزة لجنة التحكيم في الدورة ال32 لـــ "صالون الخريف" في متحف سرسق 2017، بالإضافة إلى مُساهمات وأعمالٍ فنيةٍ عديدة.