ماكرون والجزائر: الإنكار والاستعلاء قطعا الشَّعرة الرفيعة مع الجزائريين
يطلب ماكرون من الجزائر وقف ما يُسميه "كراهية فرنسا"، بينما يُنكِر الجرائم البشعة والمجازر والتدمير الممنهج لدولة وشعب، ولا يرفّ له جفن حين يتعلَّق الأمر بحق ملايين الشهداء والجرحى والمعوقين.
يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "مصالحة الذاكرة" مع الجزائر، من دون أن يدفع الثّمن الفعليّ لاستعمار استمرّ 132 عاماً بمآسيه وخسائره الهائلة على الشعب الجزائري. المبادرات التي قام بها سيد الإيليزيه، كالاعتذار عن التعذيب الذي مورس بحقّ الجزائريين، لا تصل إلى عتبة ما تطلبه الجزائر من اعتذار عن حرب استعمارية والتعويض للشعب الجزائري في جميع المجالات، ولا سيّما تلك التجارب النووية في الأراضي الجزائرية، والتي تستمر نتائجها السلبية حتى اليوم.
يطلب ماكرون من الجزائر وقف ما يُسميه "كراهية فرنسا"، بينما يُنكِر الجرائم البشعة والمجازر والتدمير الممنهج لدولة وشعب، ولا يرفّ له جفن حين يتعلَّق الأمر بحق ملايين الشهداء والجرحى والمعوقين، ويستسهل إنكار وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
بهذه الروحية الاستعمارية، "يشعل ماكرون النار في البارود"، كما جاء في مقال في موقع "ميديا بار" الفرنسي، دافعاً العلاقات مع الجزائر إلى أزمة عميقة بلا أفق؛ أزمة تستكمل الأزمات المتلاحقة بين الدولتين المرتبطتين بعلاقات اقتصادية وثقافية وسياسية متنوعة، لم تكن يوماً مدخلاً لتوازن يضمن استقلال الجزائر وسيادتها.
في الواقع، إنَّ التدهور الذي تسبَّب به ماكرون عبر تصريحاته الفجة خلال لقائه مع شباب يحملون الجنسيتين الجزائرية والفرنسية لم يبدأ من الاتهامات التي وجّهها إلى الرئيس الجزائري، والانتقادات والتهديدات التي أطلقها في وجه النظام القائم في الجزائر. آراء ماكرون معروفة في هذا الاتجاه، وهو في كل مرة يدّعي فيها الودّ مع الرئيس الجزائري، يحاول تعريته من الشرعية، إلى درجة أنه لم يجد حرجاً في التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر، مناصراً الحراك الشعبي تارة، ومقدماً المساعدة لمعارضي النظام تارة أخرى.
نفي ماكرون وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار، ومهاجمته "التاريخ الرسمي" الجزائري، الذي، وفق قوله، "أُعيدت كتابته بالكامل"، و"لا يقوم على الحقائق"، بل على خطاب "قائم على كراهية فرنسا"، لم يمر مرور الكرام على الشعب الجزائري المعروف بتمسّكه بتاريخه ووطنيته وكرامته، فجاء الرد العاصف دبلوماسياً، وعبر وقف التنسيق العسكري والسماح للطائرات الحربية الفرنسية بالمرور في أجواء الجزائر، ليكمل الانتفاضة الإعلامية التي وصلت إلى حد وصف ماكرون بـ"جلاد التفرقة وعرّاب المحارق".
الصدام الدبلوماسي والإعلامي، وعبر وسائل التواصل، غير مسبوق، وليس مرشحاً إلى التراجع، رغم إعلان ماكرون توجّهه إلى التهدئة. وليس من السهولة بمكان النهوض من السقطة، لكونها حالة مستمرة لسقطات متكررة، بحسب وسائل إعلام جزائرية، وليس من المستبعد أن تتسبّب بعواقب خطيرة، إذ إنَّ كل شيء توقف بين البلدين، وتُسجَّل قطيعة مشحونة بالتوتر والغضب.
صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية تكاد تطلق رصاصة الرحمة بقولها: "لم يعد شيء يعمل بين فرنسا والجزائر"، في إشارة إلى أنَّ التعقيدات متشابكة ويصعب حلّها في الأيام المقبلة، ولا سيما أن اجتماع اللجنة العليا المشتركة بين البلدين ما زال معلقاً منذ العام 2017، ولا توجد مشاريع لتحريك عجلة دبلوماسية واحدة بين البلدين.
الشعرة التي قطعها ماكرون مع الجزائر كانت مصابة بالتّلف منذ سنوات. وإذا كان سيد الإيليزيه يزعم أنَّ إرادته الدائمة هي "المصالحة مع الذاكرة والتاريخ"، فقد بات عليه أن يجري مراجعة للخطاب السياسي الفرنسي الَّذي لم تتغيّر فيه اللغة الاستعمارية وممارستها تجاه الدولة والشعب في الجزائر.