صمت العراق الرمضاني والانسداد السياسي!
حلفاء الصدر سواء السنة أو الكرد ما زالوا مقتنعين إلى حد كبير بأنَّ المخرج المناسب والممكن للأزمة هو بتوافق التيار وتفاهمه مع الإطار لأنهم وإن نجحوا في تأمين أغلبية الثلثين، لا يريدون أن يفرّطوا بعلاقاتهم الإيجابية مع بعض.
أشارت مهلة الأربعين يوماً التي منحها زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر لقوى الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة إلى عمق وخطورة الأزمة السياسية التي يواجهها العراق، بعد مرور ما يقارب 6 شهور على إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي أريد لها أن تكون مخرجاً مناسباً للواقع المتأزم في البلاد، فإذا بها تزيد الأمور تعقيداً وتأزماً.
وفي ما قاله الصدر في بيان مهلة الأربعين يوماً، الذي حدَّده ببداية شهر رمضان وحتى العاشر من شهر شوال، أي بعد عيد الفطر بأيام قلائل: "لأجل أن لا يبقى العراق بلا حكومة، فتتردّى الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخدمية وغيرها، أمنح الثلث المعطل (الإطار التنسيقي) فرصة للتفاوض مع جميع الكتل بلا استثناء، لتشكيل حكومة أغلبية وطنية من دون الكتلة الصدرية، والفرصة ستكون من أول يوم رمضان حتى التاسع من شوال المقبل".
وأكثر من ذلك، وجّه الصدر أعضاء الكتلة الصدرية بالتزام الصمت الكامل خلال المهلة المحددة، فضلاً عن عدم المشاركة في أي حوارات أو اجتماعات أو مباحثات سياسية تتعلق بتشكيل الحكومة.
جاءت مهلة زعيم التيار الصدري بعد إخفاق التحالف الثلاثي (إنقاذ وطن) المؤلف من التيار الصدري، وتحالف السيادة بزعامة كلٍّ من رئيس البرلمان محمد الحبلوسي وخصمه السابق خميس الخنجر، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، في تأمين أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان العراقي البالغ عددهم 329 نائباً لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، بعد أن نجح الإطار التنسيقي في حشد الثلث المعطل وتأمينه.
هذا يعني أن الصدر ما كان له أن يقدم على تلك الخطوة لو نجح مع حلفائه في تمرير مرشح الحزب الديمقراطي ريبر أحمد لرئاسة الجمهورية، ومن ثم تكليف أو تسمية سفير العراق الحالي في المملكة المتحدة محمد جعفر الصدر لتشكيل الحكومة الجديدة، ولأنه أدرك أن الأمور ستبقى تدور في حلقة مفرغة، في ظل إصراره على تشكيل حكومة أغلبية وطنية مقابل عرقلة قوى الإطار التنسيقي لمساعيه.
لذا، قرر إلقاء الكرة في ملعب الإطار التنسيقي، مع وجود قناعة كاملة لديه بأنه -أي الإطار التنسيقي- لن يحقق شيئاً خلال مهلة الأربعين يوماً، إما لأنه لن ينجح في تأمين أغلبية الثلثين، وسيواجه بثلث الصدر المعطل، وإما لأنه سيظل متمسكاً بخياره المتمثل بتشكيل حكومة توافقية يشارك فيها التيار والإطار بعد إعلان الكتلة الأكبر من قبلهما، لينبثق منها رئيس الوزراء المقبل والبرنامج الحكومي للحكومة المرتقبة، وبما يضمن حق المكون الأكبر بالإمساك بزمام العملية السياسية.
ولأن قوى الإطار تدرك أيضاً أن المشهد معقد وشائك، ومن الخطأ أن تسير بالطريق الموصد نفسه الذي سار فيه الصدر مع حلفائه السنة والكرد، راحت تتحرك لكسر الجمود، بما يفضي إلى حلحلة الموقف المتصلب للصدر، من خلال التواصل مع مختلف الأطراف، وفي مقدمتهم الصدريون وحلفاؤهم السنة والكرد، إذ تم تشكيل لجنة خماسية من الإطار، وتحالف "عزم" المنشق عن جماعة خميس الخنجر، والاتحاد الوطني الكردستاني، ومجموعة المستقلين، وتحالف بابليون الذي يمثل المكون المسيحي.
كذلك، طرحت مبادرات توفيقية، كما هو الحال مع مبادرة النقاط التسع التي أعلنها رئيس تيار الحكمة السيد عمار الحكيم في خطابه الأسبوع الماضي، بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة عشرة لرحيل والده رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي السابق السيد عبد العزيز الحكيم.
وبينما يعوّل الإطار على عامل الوقت لحلحلة العقد والخروج من عنق الزجاجة، تداولت وسائل الإعلام المحلية تصريحات لقيادي في التيار لم يفصح عن هُويته، كشف فيها "أن زعيم التيار السيد مقتدى الصدر أبلغ حلفاءه في تحالف إنقاذ وطن بعدم نيته الذهاب إلى المعارضة، والمضي بمشروع تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية، وأنه سيكمل هذا المشروع بعد انتهاء مهلة الأربعين يوماً التي منحها للإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة المقبلة، وأن السيد الصدر يدرك عدم قدرة الإطار على تشكيل أي حكومة من دون مشاركة التيار الصدري ودعمه. ولهذا، سيكمل التحرك نحو تشكيل الحكومة بعد عيد الفطر".
من الطبيعي أنَّ هذا المسار يقتضي حدوث متغيرات من شأنها إضعاف أو تفكيك قوى الإطار التنسيقي بالشكل الذي يفضي إلى خروج أطراف منها وانضمامها إلى التحالف الثلاثي، حتى يذهب بأغلبية الثلثين إلى البرلمان، ويمرر مرشحه لرئاسة الجمهورية، ولكن حتى هذه اللحظة لا توجد مؤشرات بهذا الاتجاه، بل ربما العكس هو الصحيح.
إنَّ حلفاء الصدر، سواء السنة أو الكرد، ما زالوا مقتنعين إلى حد كبير بأنَّ المخرج المناسب والممكن للأزمة هو بتوافق التيار وتفاهمه مع الإطار، لأنهم، وإن نجحوا في تأمين أغلبية الثلثين، لا يريدون أن يفرّطوا بعلاقاتهم الإيجابية مع بعض -أو أغلب- قوى الإطار، لما تشكله تلك الأطراف من ثقل سياسي وميداني، ولما تملكه من امتدادات إقليمية مهمة، ناهيك بأنَّ ذهاب الإطار إلى المعارضة رغماً عنه سيجعل الحكومة ضعيفة وهشة وعرضة للانهيار، وبالتالي لن يُكتب لها البقاء طويلاً.
من جانب آخر، إنَّ المواقف والاتجاهات المتغيرة للصدر قد تخلق حالة من التردد لدى حلفائه السنة والكرد، تجعلهم يترددون في السير معه فقط وترك أطراف المكون الشيعي الأخرى، ولا سيما أنه لم يتبنَّ مواقف إيجابية واضحة لمصلحتهم، وخصوصاً بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي تؤكد مصادر خاصة أن زعيمه مسعود البارزاني أبدى استياء وامتعاضاً كبيراً من التعاطي السلبي للصدر حيال قرارات المحكمة الاتحادية العليا، بمنع القيادي في الحزب هوشيار زيباري من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وثم قرارها ببطلان قانون النفط والغاز الخاص بإقليم كردستان، وبعد ذلك القصف الصاروخي لحرس الثورة الإيراني على مواقع في مدينة أربيل، قيل إنها عبارة عن مقرات لجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد).
وبالنسبة إلى تحالف "السيادة"، فإن عدم دخول زعيم التيار الصدري على خط الخلافات الحادة بين رئيس البرلمان محمد الحبلوسي ونائبه الأول القيادي في التيار حاكم الزاملي بشأن توزيع الأدوار والصلاحيات والمهام، أحدث حالة من اللغط والتذمر، ولا سيما أنّ الحلبوسي بعث رسائل إلى الصدر يطالبه فيها بالتدخل قبل أن تستفحل الخلافات مع الزاملي، وتنعكس سلباً على وحدة التحالف الثلاثي وتماسكه.
وهناك جانب آخر يعبر عن "أزمة" التحالف الثلاثي، يتمثل بافتقاد أطرافه المحورية والتأثير الكافيين في فضاء المكونات التي تنتمي إليها؛ فالتيار الصدري، وإن نجح في الحصول على 73 مقعداً من مقاعد البرلمان في انتخابات العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، محرزاً المركز الأول بفارق كبير عن صاحب المركز الثاني في إطار المكون الشيعي، المتمثل بائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلا أنه عجز حتى الآن عن توجيه دفة السفينة بالشكل والاتجاه الذي يراه مناسباً وصحيحاً، في الوقت الذي تتحدث بعض الأوساط والمحافل السياسية عن تبلور قناعات لدى قيادات من التيار الصدري بأن الخيار الأخير سيكون بالذهاب إلى التفاهم والتوافق، ولو بالحد الأدنى، مع قوى الإطار.
قد لا يكون الحزب الديمقراطي الكردستاني أفضل حالاً، بعد أن تعرض لصدمات متلاحقة خلال فترة زمنية قصيرة لم تتعدَّ 3 شهور، ناهيك بإخفاقه في استمالة الاتحاد الوطني الكردستاني، وإقناعه بالحل الوسط في ما يتعلق بترشيح رئيس الجمهورية، رغم ما يعانيه الاتحاد من ضعف وارتباك وتشتّت في قياداته المخضرمة.
أما بخصوص تحالف "السيادة"، فهو في وضع لا يُحسد عليه في خضم الحملات المحمومة من قبل جهات سياسية وعشائرية في محافظة الأنبار، التي تعد مركز ثقل الحبلوسي ضد الأخير، حتى وصلت إلى تدخل الإمارات من أجل احتواء الموقف ورأب الصدع بين أطراف النزاع، بيد أنها فشلت في ذلك، رغم قيامها بترتيب لقاء بين الحبلوسي ورئيس مجلس الصحوات المقيم في دبي الشيخ أحمد أبو ريشة.
وقد بلغت الأمة مستوى خطراً، حين وجه كل من الشيخ سطام أبو ريشة، نجل الشهيد الشيخ ستار أبو رشيه، والشيخ علي حاتم السلمان، "اتهامات علنية إلى الحلبوسي والخنجر وبعض أنصارهما بتورطهم بالإرهاب، ودخول تنظيم داعش إلى الأنبار، ومتاجرتهم بدماء أبناء السنة، وسرقة أموال النازحين، وتوعدوا بالتصدي لمحاولاتهم إعادة المحافظات السنية إلى زمن المنصات التكفيرية والإرهاب".
وهناك تسريبات أيضاً تقول بانشقاق عدد من نواب تحالف السيادة وانضمامهم إلى تحالف "عزم"، ما يعني ارتفاع عدد نواب الإطار التنسيقي، في مقابل تراجع عدد نواب التحالف الثلاثي، في حال صحَّت تلك التسريبات.
ويبدو أن الحلبوسي الذي نجح في البقاء متربعاً على كرسي رئاسة البرلمان لأربعة أعوام أخرى، تاركاً الفرقاء يتصارعون على رئاستي الجمهورية والوزراء، بات مهدداً بفقدان الرئاسة، سواء جراء تفاقم تصدعات وخلافات المكون السني الموجهة في مجملها ضده وضد تحالف السيادة، أو عند الذهاب إلى أسوأ الخيارات، المتمثل بحل البرلمان، كما راح يلوح البعض، وهو أمر غير مستبعد في ما لو بقي زعيم التيار الصدري متشبثاً بمواقفه، من دون أن يتمكن من التحرك إلى الأمام.
وفي هذا الصدد، يقول النائب السابق في البرلمان العراقي هوشيار عبد الله في تغريدة في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "بما أنَّ هذه الدورة البرلمانية أنجزت انتخاب رئاسة البرلمان فقط، ونظراً إلى الحساسية الكبيرة وعدم التوافق بين الرئيس والنائب الأول، فمن الضروري أن تشمل مفاوضات الكتل إعادة انتخاب رئاسة المجلس مرة أخرى"، متسائلاً: "ما لم يتمكن تحالف إنقاذ وطن من الاتفاق على إدارة البرلمان، فكيف سينقذ الوطن؟!".
ويرى رئيس تيار الحكمة السيد عمار الحكيم "أن التحالف الثلاثي يعيش شهر عسل، وهو حالة الاهتمام بتشكيل الحكومة، لكنه لم يخض تحديات مشتركة ليظهر تماسكه، مثل القضايا الحساسة والمنطقية. وإذا نجح بتشكيل الحكومة، فكيف سيواجه القضايا البنيوية والمحورية؟".
وكلما بدا أن الإطار التنسيقي يقترب من حلحلة العقد المستعصية، عاد السيد الصدر ليؤكد ويشدّد على خيار حكومة الأغلبية الوطنية؛ فقبل حوالى أسبوعين، غرّد مخاطباً قوى الإطار: "لن أتوافق معكم، فالتوافق يعني نهاية البلد. لا للتوافق بكل أشكاله، فما تسمونه بالانسداد السياسي أهون من التوافق معكم، وأفضل من اقتسام الكعكة معكم، فلا خير في حكومة توافقية محاصصاتية".
وفي ظلّ هذا المشهد القاتم الملبّد بسحب التشاؤم، يمكن الإشارة إلى 3 مسارات لكسر الجمود؛ الأول يتمثل بحصول تراجع مفاجئ للصدر والقبول بمبدأ التوافق وفق اشتراطات جديدة، والثاني يتمثل بتدخل المرجعية الدينية، علماً أنَّ هناك محاولات من قبل بعض الأطراف لدفعها إلى قول قولها، وخصوصاً أنها غالباً ما تتدخّل حين تصل الأمور إلى النقاط الحرجة والمنعطفات الخطرة. وقد يتداخل هذان المساران، ليجنبا البلد خيار الانسداد والذهاب إلى المجهول. أما المسار الثالث، فهو حلّ البرلمان والذهاب مجدداً إلى صناديق الاقتراع، وهذا لن يقرره إلا الكبار، بعد أن تُغلق أمامهم كل أبواب الحوار!