الشرق الأوسط الجديد على أجندة النظام الإقليمي الجديد
هي لحظة سياسية تاريخية، وهي مرحلة دقيقة وحساسة، تشخص لها الأنظار، وتحتبس معها الأنفاس. هي البداية، لا النهاية. لا نزال في بداية التحولات الكبرى. يمر الإقليم بأوضاع صعبة وظروف عصيبة.
الكثير من الأرباح والخسائر تم رصدها وتسجيلها، في هذه الجولة وفي هذا الشوط، في خضم هذا المخاض من لعبة الأمم، في رصيد العديد من الفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين، الكبار والصغار.
هذا وتنطوي مثل هذه المغامرة أو هذه المقامرة بمصير شعوب وبلدان المنطقة العربية ومستقبلها على الكثير من المخاطر والمحاذير، كما الفرص والإمكانيات والاحتمالات.
بين الشرق الأوسط الجديد والنظام الإقليمي الجديد، ما الذي يمكننا أن نقوله عن المعادلات والتوازنات والترتيبات، الجديدة والمستجدة، السياسية والدبلوماسية والإستراتيجية والأمنية والاقتصادية والتجارية؟
انهيار الأمن القومي العربي
تشهد المنطقة العربية حالة نادرة، ربما غير مسبوقة من حيث السوء والخطورة. من المؤسف أن تعيش البلدان العربية هذا القدر من الضعف والوهن، وهذا المقدار من التشرذم والتشتت، كما هذه الوضعية من التلبّك والتخبّط والتشظّي، بل التيه.
وقد انزلق البعض بل الكثير من العرب في غياهب الانهزام وأتون الاستسلام. مع الأسف، تستمر "إسرائيل"، حتى تاريخه، بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وتقوم بضرب المقاومة الفلسطينية، وإن كانت، حتى حينه، تتلقى منها الضربات.
في المقابل، هي تريد وأد القضية الفلسطينية. كما خاضت "إسرائيل" حربها المفتوحة على لبنان، وشنّت على إثرها حربها الغادرة والخاطفة على سوريا.
كل ذلك على مرأى ومسمع من العرب. وأصبحت احتمالية ضياع الحقوق والمصالح والقضايا العربية، المشتركة والمتبادلة، مرتفعة ومتقدمة، ومشهدية تفسخ التضامن العربي وتفتته، وانحسار العمل العربي المشترك وانكساره صارخة وفاضحة.
انفراط عقد النظام الإقليمي العربي
لقد بلغت سيرورة ترهّل النظام الإقليمي العربي وتحلّله القعر أو الدرك بعد كل ذلك التراجع وكل هذا الاضمحلال. وقد سبق هذه الحالة أو هذه الوضعية تواطؤ النظام الرسمي العربي وتخاذله، حتى ضد الشعوب العربية والحقوق العربية، وليس البلدان العربية والقضايا العربية فحسب.
أصبح شلل النظام الإقليمي العربي وعجزه بالغين ودامغين، كالإصابة بالمرض العضال على شاكلة السلطنة العثمانية في الطور الأخير من حياة "الرجل المريض".
ومن إرهاصات هذا الواقع وهذه الحقيقة، الملموسة أو المحسوسة، الفشل الذريع لجامعة الدول العربية وإخفاقها المتكرر والمتواصل في القيادة والإدارة والتدخل والمعالجة والحماية والدفاع بالنسبة إلى العرب، لا سيما الفلسطينيين. لقد خسر العرب الكثير، وربما خسروا كل شيء.
وخسارة العرب هي بمعايير ومقاييس وموازين التاريخ والجغرافيا على حد سواء، وعلى صعيد كل من الوجود والمكانة والمرتبة، كما على صعيد كل من الحضور والنفوذ والدور، وكذلك في حسابات وتقديرات المصالح كافة، السياسية وغير السياسية.
التركيبة الهجينة للنظام الإقليمي الجديد
يبدو واضحاً وثابتاً أن النظام الإقليمي العتيد هو هجين بالتأكيد، غير متجانس وغير متماسك. فالنظام الإقليمي السابق قد انتهى حتماً، وإلى غير رجعة في الواقع وفي الحقيقة، والنظام الإقليمي الحالي أو اللاحق قد بدأ حكماً، في إشارة إلى كل هذه الترتيبات الإقليمية، الجديدة والمستجدة.
هو لم يعد منذ الآن، ولن يكون بعد الآن، نظاماً إقليميّاً وقوميّاً عربيّاً خالصاً، بحيث تعود أميركا من خلاله إلى المنطقة بقوة، كقطب عالمي، مركزي ومحوري، ومعها أيضاً، تفرض "إسرائيل" نفسها من خلاله على المنطقة بقوة، كقطب إقليمي، مركزي ومحوري، في حين تتراجع روسيا شيئاً فشيئاً، وهي تكاد تخرج منه، وتبقى فيه إيران في مواجهة تحديات وتهديدات عديدة، بينما تدخل تركيا عبره – في طور وفي زمن العثمانيين الجدد في المرة الثانية، كما في طور وفي زمن العثمانيين القدامى في المرة الأولى، وعلى طريقة المحافظين الجدد في أميركا – وتتدخل من خلاله في شؤون بلاد العرب.
من سايكس - بيكو 1 إلى سايكس - بيكو 2
تقف المنطقة برمتها على أعتاب مرحلة جديدة، سياسية وتاريخية وزمنية، وهي تجد نفسها أمام احتماليتين لا ثالثة لهما: الاحتمالية الأولى، ومعها الفرضية الأولى، ربما تبدو مستبعدة حتى إشعار آخر، وتبقى واردة أو قائمة من الناحية النظرية، وهي تحيلنا إلى عملية إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة، وضمنها عملية إعادة ترسيم الحدود السياسية وتحديد الكيانات السياسية؛ أما الاحتمالية الثانية، ومعها الفرضية الثانية، فتبدو مرجحة حتى إشعار آخر، وتبقى متجسدة وقائمة من الناحية الواقعية، وهي تحيلنا إلى عملية إعادة توزيع مناطق النفوذ السياسي في المنطقة، وفق الحدود السياسية المرسومة، وضمن الكيانات السياسية الموجودة، وإن كانت كلها مصطنعة، وبالتالي غير ثابتة وغير مستقرة. فيبقى السؤال، ما بين الاحتماليتين أو الفرضيتين الأولى والثانية، عن بقاء الحدود السياسية الحالية أو سقوطها، كما استمرار الكيانات السياسية القائمة أو انهيارها، بمعنى انفجارها من داخلها؟
موازين القوى الدولية والإقليمية
تتسارع وتيرة الأحداث والمستجدات والتطورات الطارئة بطريقة دراماتيكية، وتنقلب معها الوقائع والحقائق والمعطيات بصورة راديكالية، وكذلك ربما المعادلات والتوازنات.
ما يعني أن ماهية موازين القوى الدولية، العالمية والإقليمية، تتغير وتتبدل، أو بالأحرى تتطور باستمرار ومن دون استقرار، كما ماهية شبكة أو خريطة التموضعات والاصطفافات والتحالفات الدولية، العالمية والإقليمية.
فـ"تل أبيب"، ها هي تتقدم من جديد على حساب حلفائها وأصدقائها، وليس على حساب أعدائها وأخصامها فقط، وواشنطن تعيد تموضعها الإستراتيجي راهناً، بعد أن كانت أعادت تموضعها الإستراتيجي سابقاً، وقد تعيد تموضعها الإستراتيجي لاحقاً، وها هي تتقدم أيضاً، بينما تتراجع موسكو، وقد تنسحب، وتقترب بكين بمصالحها هنا من دائرة الخطر، وكذلك طهران التي يتقلص حضورها وينحسر نفوذها، وليس بالضرورة أن يتراجعا، وتبقى المقاومة كحلف، لا كمحور، يضم مجموعة من القوى.
هي لحظة سياسية تاريخية، وهي مرحلة دقيقة وحساسة، تشخص لها الأنظار، وتحتبس معها الأنفاس. هي البداية، لا النهاية. لا نزال في بداية التحولات الكبرى. يمر الإقليم بأوضاع صعبة وظروف عصيبة.
وهي مرشحة لأن تتفاقم أكثر في المستقبل القريب غير البعيد. الثابت من الاتجاهات والمسارات، قيد التشكل والتبلور، التراخي الإقليمي في أكثر من مناسبة أو محطة، وفي أكثر من موضع أو مقام، والترهل والتحلل الإقليميان في البنى والمؤسسات والأنساق والأنظمة والآليات الإقليمية.
هو الانحطاط الإقليمي، وهي نقطة الانعطافة الإقليمية. فأين هي المنطقة من العرب؟ وأين هم العرب في المنطقة؟