"الزنانة" و"أم كامل".. كيف نتجاوز تأثيراتها النفسية والبيئية؟
في عصر الثورة التكنولوجية، حيث تُستخدم الطائرات بدون طيار كرمز للتقدم، يبرز وجه آخر مظلم لهذه الأداة. إنها ليست مجرد ابتكار هندسي، بل سلاح نفسي مروّع، يزرع الخوف ويخلخل السلام الداخلي للبشر والبيئة.
في القرن الحادي والعشرين، تحوّلت الطائرات من دون طيار إلى أحد أبرز رموز الثورة التكنولوجية. كأداة متعددة الاستخدامات، تُوظف في التصوير الجوي، المراقبة، إيصال الطرود، بل وحتى في إدارة الحروب.
وعلى خلاف ما يعتقده كثيرون، فإن هذه الطائرات ليست حديثة الاستخدام، فقد ظهرت الطائرة المسيّرة (ار بي في) كان خلال الحرب العالمية الثانية عام 1943، واستخدمها وطوّرها اليابانيون بشكل بدائي، لتحمل مواداً متفجرة للوصول إلى أهدافها على سواحل الولايات المتحدة.
لكن، كما لكل أداة وجهان، فإن الطائرات من دون طيّار تحمل في طياتها جانباً أكثر قتامة، حيث تتجاوز دورها المادي لتغوص عميقاً في زوايا النفس البشرية، وتلقي بظلالها الثقيلة على البيئة المحيطة، كما فعل الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية ولبنان.
في التصنيف القانوني الدولي، يقول الدكتور أبو بكر الديب في دراسته، "لا ريب أن مجتمع المعلومات والتكنولوجيا لم يمهل مجتمعي القانون والسياسة كي يقننّا القواعد اللازمة لمجابهة المخالفات الجسيمة التي ترتكبها الطائرات المسلحة من دون طيار، بذرائع منها مواجهة الإرهاب، فقد أزهقت هذه الطائرات أرواح الكثيرين بضغطة "زر" تحت غطاء "الحرب على الإرهاب".
وفي دراسته المنشورة في مجلة " الإنساني" التابعة لـ "الصليب الأحمر الدولي" يورد "مثّل تباعد المشغلين عن أهدافهم – عند استخدام الطائرات المسلحة من دون طيار ، أو الدرون – DRONES – أخطر المحاذير التي يمكن لفت الأنظار إليها".
Israeli drone targeted a van in the town of Tar Dibba, Tyre district, Lebanon pic.twitter.com/aeuFkBjH4f
— Sprinter Observer (@SprinterObserve) January 10, 2025
ويضيف "الاستهانة بالإصابة والقتل، والطمأنينة لانعدام الدفاع والرد، بل وعدم مشاهدة المصائب التي يتكبدها المحيطون من المصابين والقتلى والسكّان المحليين، كل ذلك يدفع إلى المزيد من القتل وارتفاع مستوى الانتهاكات".
بداية، الطائرات المسيرة يمكن أن تكون آلية (يو إيه في) أو تعمل عن طريق التحكم عن بعد (آر بي في)، أو بالوسيلتين معاً. وهي تحمل أجهزة استشعار واستقبال إلكترونية وأجهزة إرسال وذخائر هجومية. وتُستخدم للاستطلاع الاستراتيجي ومراقبة ساحة المعركة، كما يمكنها التدخل في ساحة المعركة إما بشكل غير مباشر عبر تحديد أهداف للذخائر الموجهة بدقة، أو بشكل مباشر عن طريق إسقاط أو إطلاق هذه الذخائر بنفسها. وذلك وفقاً لتعريف دائرة المعارف البريطانية.
في هذا السياق، قالت الدكتورة هيلجا علاء الدين، أستاذة علم النفس في جامعة بيروت العربية، بنبرة واثقة وأسلوب يجمع بين التحليل العلمي والعمق الإنساني،حول أثر الطائرات من دون طيار على الأفراد والمجتمعات.
“الطائرات بدون طيار ال"Mk"، أو كما يُطلق عليها في فلسطين "الزنانة" وفي لبنان "أم كامل"، ليست مجرد أدوات تقنية. إنها رمز مزدوج: من جهة هي ابتكار هندسي مذهل، ومن جهة أخرى، سلاح نفسي قاتل".
سلاح الضوضاء: الحرب النفسية الجديدة
في الاعتداءات التي شنّتها الاحتلال الإسرائيلي على غزة ولبنان، لم تكن الطائرات بدون طيار مجرد أداة للاستطلاع وإطلاق النار، بل كانت جزءاً من استراتيجية متقنة تهدف إلى زعزعة الاستقرار النفسي للمجتمعات.
تُصدر هذه الطائرات أصواتاً رتيبة ومزعجة، وكأنها لا تراقب فقط، بل تُذكر الجميع بأنها موجودة دائماً.
بما أن الليل قد حل في غزة فالزنانة بدأت بالضجيج.
— د. خالد الشموسي 🇴🇲 اللهم انصر غزة🇵🇸 (@DAlshmwsy) May 3, 2024
الصهيوني ينشر الضوضاء في كل ليالي غزة
واليوم تسألني طفلة في احد المخيمات وهي كثيرة جدا (خيام من النايلون او القماش مترين في مترين او اقل ومن غير لوازم العيش كالمطبخ ودورات المياه وفيها اطفال ونساء ورجال يتكدسون) تسألني الطفلة… pic.twitter.com/lN5YyC6JSD
تقول الدكتورة (مساعدة عميد) التي قدّمت العديد من الأبحاث والحائزة على جائزة "جمال عبد الناصر للتميز الأكاديمي": "الـMK ليست مجرّد صوت مزعج. إنها رسالة خفية، تقول لك: أنت تحت المراقبة، حياتك ليست ملكاً لك بعد الآن".
هذا النوع من الضوضاء يمتد تأثيره إلى أعماق النفس البشرية. "فالصوت الذي يصدر في أوقات الليل، حين تكون المدينة مغطاة بظلام الحرب، يتحول إلى نوع من التعذيب النفسي. إنه يوقظ فينا أسوأ مخاوفنا: الخوف من المجهول، من المراقبة، ومن فقدان السيطرة".
التلوّث السمعي: تهديد للصحة النفسية والجسدية
تشير الدراسات إلى أن الضوضاء التي تصدرها الطائرات من دون طيار تقع في نطاق الترددات الأكثر إزعاجاً للبشر (2000-4000 هرتز). "هذه الأصوات، خاصة عندما تتكرر أو تطول، ليست مجرد إزعاج سمعي. إنها تؤثر على الجهاز العصبي، وترفع من مستويات هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.”
في فلسطين ولبنان، حيث تتحوّل الليالي إلى فصول متواصلة من الأصوات المزعجة، يعاني السكان من اضطرابات نفسية عميقة. "الأطفال، مثلاً، قد يصابون بنوبات هلع، والكبار قد يعانون من الأرق المزمن. الجميع يعيش تحت ضغط نفسي هائل يجعل الحياة اليومية أكثر صعوبة".
بما أن الليل قد حل في غزة فالزنانة بدأت بالضجيج.
— د. خالد الشموسي 🇴🇲 اللهم انصر غزة🇵🇸 (@DAlshmwsy) May 3, 2024
الصهيوني ينشر الضوضاء في كل ليالي غزة
واليوم تسألني طفلة في احد المخيمات وهي كثيرة جدا (خيام من النايلون او القماش مترين في مترين او اقل ومن غير لوازم العيش كالمطبخ ودورات المياه وفيها اطفال ونساء ورجال يتكدسون) تسألني الطفلة… pic.twitter.com/lN5YyC6JSD
"الأمر لا يتوقف عند التأثير النفسي"، تتابع هيلجا: "هناك أدلة على أن التعرّض المستمر للضوضاء يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، ضعف المناعة، وحتى زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب".
التأثير على البيئة والطبيعة
التلوّث السمعي الناتج عن الطائرات من دون طيّار لا يقتصر على البشر، وهذا ما أكدته بأنها "نوع من أنواع التلوث السمعي الذي يهدد صحتنا الجسدية والنفسية".
@beirut.arab.university احدى وسائل الحرب النفسية…الصوت يعود مجدداً #beirutarabuniversity #bau #psychology #mk ♬ original sound - Beirut Arab University
“حتى الحيوانات، التي تعتمد على الأصوات للتواصل والبقاء، تتأثر بهذه الضوضاء. الطيور قد تهجر أعشاشها، والحيوانات البرية قد تغيّر أنماط حركتها"..
كما يتحدّث ال عمران روتي عن "ما يمكن الآثار البيئية لهذه المسيرات زيادة انبعاثات الكربون، وتوليد النفايات من استخدام المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد وغيرها من المواد التي يمكن التخلص منها، والأضرار المحتملة للموائل الطبيعية والنظم البيئية من استخدام المعدات و البنية التحتية اللازمة لدعم المسيرات".
بالإضافة إلى ذلك، قد تكون هناك بصمة كربونية مرتبطة بإنتاج اللافتات واللافتات والمواد الأخرى المستخدمة أثناء المسيرات. يمكن أن تختلف هذه التأثيرات اعتمادًا على المسيرة المحددة والتدابير المتخذة لتقليل الأضرار البيئية.
و يُصنع وقود الطائرات النفاثة التقليدي من النفط الخام الغني بالكربون الذي يتم استخراجه من الأرض. وعندما يحترق في محركات الطائرات، ينبعث هذا الكربون في الغلاف الجوي.
كيف نقاوم؟ رؤى من تجربة الحروب
بينما تسرد د. علاء الدين تجربتها مع المجتمعات التي عايشت هذه الحروب، تتوقف للحظة وتقول: “التحدي الأكبر ليس التخلص من الطائرات من دون طيار، بل معرفة كيفية التعايش مع وجودها دون أن تستهلك أرواحنا.”
الحلول النفسية:
1. إعادة توجيه الانتباه
• عندما نركز على الضوضاء، فإننا نعطيها قوة. بدلاً من ذلك، يمكننا أن نحول طاقتنا نحو الأنشطة الإيجابية، مثل الدراسة أو العمل أو ممارسة الرياضة.”
2. الاستفادة من الطبيعة
• التواصل مع الطبيعة، حتى ولو لبضع دقائق في اليوم، يمكن أن يساعد في إعادة ضبط الجهاز العصبي.”
3. التضامن المجتمعي
• في الحروب، يصبح التضامن هو السلاح الأقوى. الاجتماع مع الأصدقاء أو العائلة ومشاركة التجارب يساعد في تقليل أثر التوتر.”
من المهم أن نفهم أن الطائرات بدون طيار ليست شرًا بحد ذاتها. “إنها أداة، واستخدامها يعتمد على نوايا الإنسان. في بعض الأماكن، تُستخدم لإنقاذ الأرواح، وفي أماكن أخرى، لتدميرها.”
الخاتمة: بين الأمل والتحدي
"الحرب تحاول دائمًا أن تكسر أرواحنا قبل أن تدمر أجسادنا. لكن داخل كل منا قوة للمقاومة، لإعادة بناء ما هُدم، ليس فقط في مدننا، بل في قلوبنا أيضاً، تختم الدكتورة بكلمة لافتة.
امتزجت الترانيم مع صوت "الزنّانة" التي لا تُفارق سماء غزّة
— Raseef22 (@Raseef22) April 29, 2024
برغم استمرار الغارات الإسرائيلية، أحيا أرثوذوكسيو غزّة، #أحد_الشعانين، في كنيسة القدّيس برفيريوس في حي الزيتون، وهي أقدم كنيسة في القطاع.
ومع تواصل صوت الزنّانة (الطائرة الإسرائيلية التي لا تُفارق سماء غزة)، ردّد… pic.twitter.com/GNPos37U6Y
تظل الطائرات من دون طيّار رمزاً مزدوجاً لعصرنا: ابتكار مذهل يحمل في طياته إمكانيات هائلة، لكنه في الوقت ذاته، يكشف عن قدرة الإنسان على تحويل التكنولوجيا إلى سلاح نفسي وبيئي.
اقرأ أيضاً: المسيّرات الإسرائيلية.. أداة استخباراتية متعددة الأبعاد في مرحلة ما بعد الحرب
ويبقى التحدي الحقيقي في كيفية استخدام هذه الأدوات بشكلٍ مسؤول؟ وكيفية حماية أنفسنا وبيئتنا من آثارها الجانبية؟