عن أميركا التي تشبه ترامب
لم يكن ترامب استثناء أو صدفة تاريخية، فهيئته وسلوكه لم يكونا سوى تجسيد أكثر وضوحاً للغطرسة الأميركية الممتدة.
في طريقهم إلى مبنى الكابيتول، حيث يقع "حصن الديموقراطية الأميركية"، حطَّم أنصار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشبابيك والأبواب، وعاثوا فساداً في مكاتب المشرّعين. وبعد ثلاث ساعات، انتهت المواجهة، ووُضعت العاصمة واشنطن تحت حظر للتجوّل شمل المدينة بأسرها لاثنتي عشرة ساعة.
وبينما احتلّ الحدث المشهد العالميّ وأثار ردود فعل تراوحت بين الفزع والتندّر من أولئك الذين اعتادوا تلقي المحاضرات حول الديموقراطية الأميركية، تركز جلّ الغضب داخل الولايات المتحدة على أن ذلك المشهد كان "غير أميركي".
كان ذلك التعبير العميق عن الحسرة يصدر عن الجميع تقريباً، سياسيين وإعلاميين ومعلقين وغيرهم، وهو سلوك يكشف عن كيفية تحول "فقدان الذاكرة التاريخية" إلى وجه من وجوه الثقافة السياسية الأميركية.
"تصوّروا كيف يبدو هذا الأمر لبقية العالم!"، تساءل بن روديس، المساعد السابق للرئيس باراك أوباما. الفكرة ذاتها كانت وراء عملية عزل ترامب ومحاكمته قبل خروجه من واجهة المشهد. كان ثقيلاً على النظام السياسي الأميركي أن يغادر ترامب من دون أن يحمل صفة المخلوع، فالعملية في أحد وجوهها كانت محاولة للقول إن زمن ترامب كان زمناً "غير أميركي".
ثمة ظواهر تستحق، بفعل جاذبيتها، أن يُجهد المرء نفسه بالتأمل فيها، لا لمعرفة أسبابها والنتائج المترتبة عليها فقط، بل كي لا يقع ضحية فقدان الذاكرة التاريخية. وفي إطار الحديث عن الظاهرة هنا، يبرز سؤال له وجاهته المنطقية: هل كان زمن ترامب "غير أميركي" حقاً؟ وهل كان ترامب ذاته استثناء وصدفة تاريخية؟
الشخصية الأميركية
منذ لحظة تشكّلها، تميزت الشخصية الأميركية بإقصاء الآخر وتهميشه، مقابل التأكيد على "الأنا" و"الذات الأميركية المتفردة"، فضلاً عن أنها عُرفت بميولها الواضحة نحو المغامرة والجنوح إلى العنف.
وهكذا، ثمة مفردات تحكَّمت بالشخصية الأميركية، كالعنف والمغامرة وتعظيم الذات وتمجيد المنفعة. كلّ هذه المسمّيات انعكست على مظاهر السلوك والثقافة الأميركيّة في الرياضة والسينما والتجارة، وعالم السياسة أيضاً. وكذلك، يمكن تلمّس آثار هذه المفردات ومظاهرها في قواعد السلوك عند ترامب؛ تلك القواعد التي كانت طيلة أربع سنوات محل تركيز وانتقاد، على الرغم من أنها نابعة من قلب الثقافة والتاريخ الأميركيين.
لم يكن ترامب استثناء أو صدفة تاريخية، فهيئته وسلوكه لم يكونا سوى تجسيد أكثر وضوحاً للغطرسة الأميركية الممتدة. أما سياساته، فكانت في حقيقتها امتداداً لأدبيات السياسة الأميركية التقليدية وإرثها، لكن الرجل لم يكن يتقن تقاليد ممارسة هذه السياسة فقط.
في العام 2017، أصدر ترامب وثيقته للأمن القومي الأميركي، وتعهَّد فيها بأنه "سيعزز التأثير الأميركي، لأن عالماً يدعم المصالح الأميركية ويعكس مبادئنا يجعل أميركا أكثر أمناً وازدهاراً". الوثيقة تعبر بوضوح شديد عن الالتزام بالفكرة الأميركية القديمة بأنَّ إعادة تشكيل الأمم الأخرى على الصورة الأميركية نفسها سوف تعزز الأمن الأميركي.
إذاً، كان ترامب من هذه الناحية امتداداً طبيعياً لمن سبقه، إذ إنَّ طموح الهيمنة العالمية، والتداخل مع روسيا، والنزعة الحربية تجاه إيران، وتبني الطموح الإسرائيلي السعودي، والطموح بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، والتواجد العسكري المستمر حول العالم، والالتزام بأهداف الناتو التي عفا عليها الزمن، تبرز جميعها كأعمدة تتأسَّس عليها السياسة الخارجية لترامب، لكنها أيضاً كانت أسساً للسياسة الأميركية منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وهي كذلك، مع تغيير بعض المفردات والأطراف، أسس السياسة الأميركية التوسعية تاريخياً.
زحف العلم والهاجس الرسالي
يحكي السّيناتور الأميركي ألبيرت بيفيريدج، بدايات القصة في خطابه الشهير "زحف العَلَم" في العام 1898. يحمل الخطاب عبارات شديدة الاستعلاء والهمجيّة، حين يقول: "المسألة ليست أميركا فقط، لكنها مسألة زمن يُوجب علينا الزحف تحت العَلَم لنشر الحرية وحمل البركة والخير للجميع"، ثم يضيف: "إن واجبنا المقدس أمام الله يدعونا إلى قيادتهم نحو النموذج الأميركي في الحياة. لذلك، إن العَلَم الأميركي ينبغي أن يكون رمزاً لكل البشر".
نظرةٌ إلى الحرب العالمية الثانية وسحق مدينتين بقنبلتين نوويتين على يد الرئيس السابق هاري ترومان، تؤكّد الأمر. وما تلى ذلك من ابتزاز أوروبا المنهكة للانصياع للشروط الأميركية بصياغة اقتصاد عالمي جديد يسوده الدولار، هو وجه آخر لخطاب "زحف العَلَم".
وانطلاقاً من ذلك، قد تختلف الأدوات، مثل "دعم الديموقراطية" و"القضاء على الديكتاتورية"، كما قال جورج بوش الابن في خطاب تنصيبه لولاية ثانية في العام 2005، أي بعد عامين من المقتلة العظيمة في العراق، وأربعة أعوام من قضائه على الحياة المدنية في أفغانستان.
بعبارة أوضح، لم يكن ما قام به ترامب شيئاً جديداً أو فريداً في السياسة الأميركية. هو في قلبها، وفي قلب كل ما أُسّس للولايات المتحدة، غير أنه كان الأكثر وضوحاً وشفافية وتبجحاً. والتبجح أيضاً من مفردات الشخصية الأميركية، فتعظيم الذات من أهم الأفكار التي بنيت عليها. ومن أجل أن يستمر هذا التفكير النمطي وتُفعّل وظيفته، لا بد من وجود خصم أو حتى افتعال هذا الخصم وإنتاجه.
التفكير الذاتي في العظمة وأهمية العدو
في البداية، كان الخصم يتمثل بكل شيء يقف أمام مشيئة الله في أن تكون أميركا الأرض التي اختارها للآباء المؤسسين. وبعد إنجاز هذه المهمة، جاءت مسألة التوسع لنشر "الفضيلة والنموذج الأميركيين" في العالم، وكان الخطر يتجسد في كل من يقف أمام هذه الرسالة.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تمثل الخصم بالشيوعية والمعسكر الاشتراكي. ومع غياب الخطر الشيوعي، كان هناك خطر "الأصولية الإسلامية". أما عندما لا يتوفر خصم بهوية معينة أو موقع جغرافي محدد، فإنه يوصف بأوصاف أقل تحديداً، ولكن أكثر عموميةً وتعقيداً، ويكون كفاح أميركا عندها ضد "الإرهاب" و"الدكتاتورية" و"أولئك الذين يكرهون الحرية ويكرهون طريقة حياتنا".
الفارق مع ترامب أنه أضاف إلى لائحة الخصوم النخبة السياسية الأميركية. أما عداؤه للإعلام والمهاجرين، فالتاريخ الأميركي زاخر بالأمثلة، فقد سبق دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى حملة رقابة وقمع غير مسبوقة على الصحف، إضافةً إلى اعتقالات وعمليات إرهاب وترويع للمهاجرين من أصل ألماني، قادها حينها الرئيس وودرو ويلسون بنفسه.
وما إن قامت الحرب حتى أمر ويلسون باعتقال ملايين المواطنين من أصل ألماني. اعتُقل كلّ من يلقّب باسم شميدت، حتى راح النّاس يغيرون اللقب إلى سميث. أقيمت احتفالات لإحراق الكتب المدرسية باللغة الألمانية. "الهامبرغر" تحول إلى "سالزبري ستيك"، والحصبة الألمانية صارت حصبة الحرية.
قالها ويلسون حينها بكل صراحة ترامبوية: "بين مواطني الولايات المتحدة من أخجل بأن أعترف بأنهم ولدوا تحت رايات دول أخرى. لقد غُرِس فيهم سم الخيانة وعدم الولاء، وهم مخلوقات نشأت على عدم الإخلاص ويجب سحقها".
ما نريد قوله في المحصلة أنَّ مشكلة أميركا مع رئيسها ليست في استثنائيته أو في كون زمنه "غير أميركي"، بل لأنه كان فقط تجسيداً لوجهها الحقيقي من دون "رتوش"؛ تجسيداً كشف مواطن الضعف والهشاشة فيها، ووفّر لقطة محرجة لتلك الأسطورة التي تحمل عنوان "أميركا".
زمن ترامب كان أميركياً بامتياز. وعلى العكس، كان تاريخ أميركا مكثفاً في أربع سنوات، والتخلّص من ترامب لن يُسرّع باستعادة أميركا، كما يحلو للبعض التحدّث عنها، لأن أميركا تلك لم تكن موجودة أصلاً.
إنّ عداءنا لترامب وحماسنا لسقوطه لا يجب أن يصبّا في رصيد بايدن، أو في رصيد التعويل على الولايات المتحدة. نحن الذين خبرنا ترامب لأربع سنوات، خبرنا أميركا نفسها لعقود طويلة.