ترامب والمهمة المستحيلة: إعادة تشكيل النظام الأميركي بقبضة فردية
رئاسة ترامب الثانية ليست مجرد فترة رئاسية جديدة، بل محطة مفصلية قد تعيد تشكيل مستقبل الولايات المتحدة ومسار النظام العالمي الناشئ.
انتخاب دونالد ترامب لولاية ثانية ليس مجرد حدث سياسي عابر، بل هو زلزال سياسي واجتماعي أعاد تشكيل ملامح النظام الأميركي، وهز أركان النخب التقليدية التي ظلت تهيمن لعقود على القرار السياسي والاقتصادي الأميركي. يمثل هذا الحدث ذروة تمرد شعبي على منظومة الحكم التقليدية، وتجسيداً لصعود تيار شعبوي يميني يعيد صياغة مفاهيم السلطة والثروة في الولايات المتحدة.
أصبح الرئيس ترامب، بخطابه الصدامي وشخصيته المثيرة للجدل، رمزاً لمواجهة ما يُعرف بـ "الدولة العميقة"، تلك المنظومة المجهولة التي تحرك خيوط السياسة والاقتصاد في الكواليس عبر شبكة مصالح متشابكة تضم البيروقراطية الحكومية، الشركات العابرة للقارات، والمجمع الصناعي الحربي. لم يعد ترامب مجرد رئيس في البيت الأبيض، بل قائداً لمعركة مصيرية بين رؤيتين متناقضتين: الأولى تمثل "العولمة" التي يراها مسؤولة عن استنزاف موارد البلاد وتقويض سيادتها، والثانية تجسد "الأمركة"، كبرنامج لإعادة بناء أميركا قوية ومستقلة اقتصادياً وسياسياً، قادرة على استعادة مكانتها العالمية.
يسعى دونالد ترامب إلى تجاوز الإصلاحات التقليدية، إذ يطمح إلى تفكيك المؤسسات الفيدرالية وإعادة بنائها بما يتماشى مع نهج التفرد والفردية التي تميز شخصيته، وميوله الشعبوية ورغبته في الظهور كقائد استثنائي. فهو يعدّ وزارة الدفاع ووزارة العدل والنظام القضائي مراكز ثقل لـ "الدولة العميقة" يسعى لإضعافها والسيطرة عليها. كما يهدف إلى تقليص نفوذ المجمع الصناعي الحربي من خلال تقليل التدخلات العسكرية الخارجية وتركيز الموارد على الأولويات الداخلية. ويخطط لاستبدال قيادات هذه المؤسسات بناءً على معايير الولاء الشخصي، بدلاً من الكفاءة المهنية.
وفقاً للفلسفة الترامبية، التي تمثل مزيجاً من المحافظة اليمينية و"الحمائية" الاقتصادية بدلاً من "الانعزالية" المطلقة، تشكل الصين تهديداً استراتيجياً متعدد الأبعاد، يشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ولهذا السبب، يركز ترامب على تعزيز التحالفات في آسيا مع دول مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية، بهدف موازنة النفوذ الصيني المتصاعد.
يرى ترامب أن العولمة أضرّت بالاقتصاد الوطني من خلال تفريغ الصناعات ونقلها إلى الخارج، خصوصاً إلى الصين، ما أدى إلى فقدان الوظائف وتراجع القدرة التنافسية للولايات المتحدة. لذلك، تركز سياساته على فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات كوسيلة لحماية الصناعات المحلية، إلى جانب تشجيع الشركات على إعادة خطوط الإنتاج إلى داخل الولايات المتحدة.
تشمل استراتيجية ترامب الاقتصادية أيضاً تحسين الاتفاقيات التجارية المعقودة مع كندا والمكسيك، ومع أوروبا، بحيث تسهم في زيادة الصادرات الأميركية وتقليل عجزها التجاري. وتسعى في الوقت نفسه إلى إقامة شراكات اقتصادية جديدة مع دول في آسيا، مثل الهند وفيتنام، لتعزيز سلاسل التوريد الإقليمية وتقليل الهيمنة الصينية على الأسواق الآسيوية. إن هذه التحركات باعتقاد ترامب ستوفر فرصاً للشركات الأميركية للاستثمار في هذه المناطق مع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة.
أما تحالف ترامب وإيلون ماسك فقد شكّل اندماجاً بين السياسة الشعبوية المحافظة ورؤية الابتكار التكنولوجي الرأسمالي القومي، إذ يجمع بين طموحات ترامب السياسية لتحدي النخب التقليدية و"الدولة العميقة"، وبين طموح ماسك في قيادة مستقبل الصناعات التكنولوجية والفضائية الأميركية. هذا التحالف يرمز إلى تحرك نحو إعادة تعريف القوة الاقتصادية والسياسية الأميركية عبر تسخير التكنولوجيا لتحقيق مكاسب جيوسياسية واستراتيجية. بالنسبة إلى ترامب، ماسك يجسد روح الفردية والابتكار التي يروّج لها، فيما يرى ماسك، أن ترامب يوفر بيئة سياسية قد تدعم التحرر من القيود التنظيمية وتعزيز مشاريع ريادية كبرى، ما يجعل هذا التحالف قوة غير تقليدية تسعى لتشكيل مستقبل الولايات المتحدة، داخلياً وخارجياً.
من بين أولويات ترامب في ولايته الثانية تقليص الإنفاق العسكري الخارجي الذي يرى فيه عبئاً مالياً ضخماً. خلال ولايته الأولى، أعرب عن استيائه من تحمّل الولايات المتحدة التكاليف الأكبر في الدفاع عن حلفاء "الناتو". في هذا السياق، يرى ترامب أن على الدول الأوروبية أن تتحمّل نصيباً أكبر من تكاليف الدفاع عن نفسها، ما يعكس فلسفته الاقتصادية التي تضع "أميركا أولاً" في المقدمة.
خلال ولايته الأولى، شن ترامب هجوماً على وسائل الإعلام الكبرى، التي وصفها بـ "عدو الشعب". فهو يرى أن الإعلام التقليدي المملوك للشركات الكبرى، منحاز ضد سياساته لصالح "الدولة العميقة". في ولايته الثانية، يُتوقع أن يتخذ إجراءات أكثر صرامة لتنظيم وسائل الإعلام. وتوسيع اعتماده على وسائل الإعلام البديلة ومنصات التواصل الاجتماعي للتواصل المباشر مع الشعب.
ترامب أثار جدلًا كبيراً بتلميحه إلى إمكانية تعديل الدستور للسماح له بالترشح لولاية ثالثة. رغم صعوبة تحقيق ذلك، فإن هذه الفكرة تعكس طموحه لتغيير قواعد اللعبة السياسية في الولايات المتحدة. من المتوقع أن يسعى إلى تعزيز سلطات الرئيس وتقليص نفوذ المؤسسات البيروقراطية التي يعدّها عقبة أمام تنفيذ سياساته.
يخطط ترامب للابتعاد عن التدخلات العسكرية المباشرة والتركيز على تعزيز الدبلوماسية والاتفاقيات الاقتصادية. يرى أن استنزاف الموارد الأميركية في الحروب لم يعد يخدم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، يسعى إلى تعزيز الشراكات الاقتصادية مع الدول العربية من خلال التطبيع مع الكيان الصهيوني، بما يتماشى مع رؤيته لـ "السلام مقابل التنمية"، كما ظهر في الاتفاقيات الإبراهيمية المشؤومة.
هدف ترامب المعلن بإنهاء "الحروب التي لا نهاية لها" يتناقض بشكل صارخ مع استمراره في دعم حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. ومع الأخذ في الاعتبار أن معظم الشخصيات التي رشحها ترامب لإدارته الجديدة ذات توجهات صهيونية، وأن مستشاريه يشاطرونه الانحيا، عسكرياً وسياسياً.
لن يغيّر توجّه ترامب بالاستمرار بدعم الكيان شيئاً، إذ لا يمتلك ما يقدمه للكيان الصهيوني يفوق ما قدمه بايدن بالفعل. أما الحديث عن سماحه لـ "إسرائيل" بضم الضفة الغربية، فهو لا يضيف شيئاً جديداً إلى الواقع، إذ يتعامل الكيان المحتل بالأمر الواقع مع الضفة كجزء من كيانه، تماماً كما يفعل مع الجولان. ومع ذلك، فإن المقاومة تواصل نضالها لتحرير فلسطين، غير مكترثة بهذه التحركات أو القرارات.
نتائج الميدان هي الحَكَم الفاصل في الصراع، وليس بايدن أو ترامب أو حتى الغرب بكل ثقله. طالما أن المقاومة ثابتة وصامدة على الأرض، وتواصل إفشال العدو في تحقيق أهدافه، فإن مصير العدو لن يكون سوى الهزيمة. في النهاية، ستضطر الولايات المتحدة للاعتراف بتراجع المشروع الصهيوني وفشله في تحقيق أحلامه التوسعية. حينها، سيجد ترامب نفسه أمام واقع جديد، مجبراً على التعامل مع معطيات الميدان عبر وقف الحرب وتكييف سياساته بما يتماشى مع حقائق الهزيمة وصمود المقاومة.
رئاسة ترامب الثانية ليست مجرد فترة رئاسية جديدة، بل محطة مفصلية قد تعيد تشكيل مستقبل الولايات المتحدة ومسار النظام العالمي الناشئ. إذا نجح في تنفيذ أجندته، فقد يحدث تغييرات جوهرية في بنية النظام السياسي والاقتصادي الأميركي، بينما سيؤدي فشله إلى عودة الدولة العميقة للهيمنة واستعادة الوضع التقليدي داخل الولايات المتحدة وعلى المسرح الدولي. ومع ذلك، تبقى التحولات الكبرى حتمية، إلا أن الثابت في منطقتنا هو أن الكلمة الأخيرة تظل للميدان، حيث تُعاد صياغة معادلات القوة ويُحسم الصراع بين المقاومة والكيان الصهيوني المدعوم من الغرب.