غيفارا وسليماني.. صرخةٌ واحدة في وجه الظلم
بالرغم من الاختلاف الديني والعرقي والمذهبي بين غيفارا وسليماني، إلاّ أنّ الهدف واحدٌ ومحدّدٌ، وهو مقارعة الظّلم وبسط العدل والخير، مهما كانت الأثمان، وفي سبيل ذلك كلّه كانت المقاومة حتى آخر نفس.
إذا كنت لا تؤمن بالثورة ضد الظلم والاستغلال فلا تقرأ هذه المقالة
"إنّ مقاومة الظلم لا يحددها الانتماء لدينٍ أو عرقٍ أو مذهب، بل طبيعة النفس البشرية التي تأبى الاستعباد وتسعى للحرية"، تشي غيفارا.
الشهيد قاسم سليماني، إيراني الأصل، ثوري الهوى، فلسطيني النّضال. أحبّ سليماني الشعوب المستضعفة وحاول دائماً أن يتقاسم همومها، وفي الوقت ذاته، أعطى صورةً مغايرة للقائد العسكري الذي تجده على جبهات القتال، يتحمل عناء السّفر والرّباط في أرض المعركة، فتبرز الهالات السوداء تحت عينيه بانعكاس بياض شعره ولحيته الجليلة.
كان سليماني قائداً بلا أوامر، واثقاً بنفسه وبفريقه، يتحلّى بالشجاعة والنشاط الدائمين. تعدّدت صلاحياته بين دعمٍ عسكري للمقاتلين الوطنيين في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرهم، أما قِبلته الثابتة فهي فلسطين. كان ديبلوماسياً من طرازٍ رفيع، يمثل بلاده في مفاوضاتٍ معقّدة، قد لا يكون آخرها إقناع روسيا بأهميّة مشاركتها العسكرية في سوريا.
تشي غيفارا أرجنتيني الأصل، ثوري الهوى، كوبي النّضال. نظر غيفارا إلى المصاعب على أنها تحديات، فبالرغم من انحداره من عائلةٍ أرستقراطية ودراسته للطب، قرّر عام 1948 خوض رحلةٍ إلى جميع أنحاء أميركا اللاتينية على دراجةٍ نارية، ليُعاين الظلم في عيون الفقراء والمزارعين البسطاء، ولم يُغادر مخيّلة غيفارا مشهد الفلاّح البسيط الذي يعمل في أراضي الأثرياء بدمه قبل عرقه.
آمن غيفارا بأنّ الحلّ يكمن في مقارعة الظلم، بلحيةٍ طويلة لا يسمح الوقت لحلاقتها. قاد المحاربين والعمال في كوبا وقاتل في غواتيمالا والكونغو وبوليفيا، فيما ترمز النجمة على جبهته إلى الأفق المتألق الذي ينتظر الشعوب المستضعفة.
غيفارا وسليماني.. مقاومةٌ عابرة للحدود
بدأ سليماني مسيرة مقاومةٍ مبكرة عام 1980، وكان عمره 22 عاماً. شارك في الحرب "العراقية الإيرانية"، وتُوّجت مسيرته العسكرية إدارياً سنة 1998 عندما تسلّم قيادة فيلق في حرس الثورة. ينظر خصوم سليماني (أميركا وإسرائيل) إلى شخصيته المحورية على أنها "تجسّد امتداد إيران في الشرق الأوسط"، فكان الشخصية الأولى التي تشكّل خطراً استراتيجياً على وجود "إسرائيل" وعلى مصالح الولايات المتحدة الأميركية في العراق وسوريا واليمن وغيرها. عزّز سليماني سمعة إيران وقوّتها ودورها الإقليمي، كما عمل على فرض الأمن الشامل في المنطقة، فصنع توازناً إقليمياً من خلال دعم حركات المقاومة والتحرر كحزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، والحشد الشعبي في العراق، والدفاع المحلي في سوريا.
منذ عام 2000، أسّس الشهيد سليماني نهجاً مختلفاً وجديداً في تكتيك القتال والعمليات العسكرية، ومنهجيةً متطوّرة في مواجه "إسرائيل" وأميركا وتنظيم "داعش"، وكذلك في دعم فصائل المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، فارضاً الرّدع وتوازن الرّعب في كل معركةٍ يخوضها.
كان القائد متابعاً دقيقاً للشؤون العسكرية والأمنية، وأنشأ وحداتٍ متعدّدة المهام في الملفات التي أدارها، وقد أسّس مكاتب إعلامية وسيبرانية، وأخرى تُعنى بالحرب النفسية في الشرق الأوسط.
رجل المهمّات الصعبة الذي نسّق لهزيمة العدو الصهيوني في الـ2000 و2006، هزم "داعش" التنظيم الأكثر دموية خلال السنوات الأخيرة في العراق وسوريا، وساعد الشعب والدولة السورية والعراقية على الصمود في وجه أعتى دول العالم وأكثرها صلفا.
صنّفته الولايات المتحدة الأميركية بأنه الرجل الأخطر في الشرق الأوسط، واتهمته بـ"الإرهاب" ومنعت أيّ مواطنٍ أميركي من التعامل الاقتصادي معه. خلط سليماني أوراق أميركا وإسرائيل في الشرق الأوسط، وغيّر المعادلات العسكرية، وقلب الموازين السياسية، لذلك قامت أميركا بمساعدة بعض الدول العربية، باغتياله في 3 كانون الثاني/ يناير 2020 قرب حرم مطار بغداد، بعد أن كان يخطّط لشنّ هجماتٍ كبرى على القواعد الأميركية في العراق، ويسعى إلى تشكيل مقاومةٍ شعبية ضد الاحتلال الأميركي في الشرق السوري.
ثلاثية الجوع والفقر والمرض لم تغادر قلب غيفارا ولا عقله، فمنذ بداية رحلته الثورية في مقارعة الإمبريالية في غواتيمالا عام 1953، تعرّض لغزوٍ همجي قامت به قواتٌ مرتزقة مجهّزة ومدرّبة على أيدي المخابرات المركزية الأميركية، فحفّز هذا العدوان السافر روح النّضال لدى تشي، وحاول جاهداً توحيد المجموعات الثورية المحلية للوصول إلى هدفها.
عام 1959 نجحت الثورة، وتمّ منح غيفارا الجنسية الكوبية، كما تم تعينه مديراً للمصرف المركزي ووزيراً للصناعة وممثلاً لكوبا في الخارج ومتحدثاً باسمها في الأمم المتحدة. عندها، زار العديد من البلدان العربية كالجزائر والمغرب وفلسطين وسوريا ومصر والإمارات والسودان، إضافةً إلى زيارة الهند وتايلاند واليابان وإندونيسيا وباكستان. التقى خلال جولته العديد من القيادات الفلسطينية الثورية، محاولاً عولمة نضاله ونشر فكره ونهجه المقاوم.
في عام 1964، قام تشي بزيارته الثالثة إلى موسكو، وأتبعها بزيارة نيويورك ضمن الوفد الكوبي، حيث ألقى كلمته الشهيرة أمام الأمم المتحدة.
أسّس تشي عدّة معسكراتٍ قتالية للثوار في بوليفيا، وفي عام 1967 تمكنت فرقةٌ مدرّبة على يد القوات الأميركية من أسره وإعدامه في اليوم التالي.
افتداء الإنسانية
أنهى غيفارا وسليماني عملهما افتداءً للإنسان، من خلال تحرير البشرية من الظلم والطغيان، ونضالاً ضد عدوّهما المشترك، الولايات المتحدة الأميركية، وكلّ من يحاول فرض سيادته على المستضعفين في العالم.
غيفارا كتب برسالته الأخيرة إلى والديه: "أعتقد أن الشعوب التي تكابد المشقات والأهوال من أجل تحرّرها، لا تملك سبيلاً آخر غير الكفاح المسلّح، وعملي ينسجم مع عقيدتي. مغامر؟ نعم، وأنا من أولئك الذين لا يهابون المجازفة بجلدهم في سبيل انتصار قناعاتهم".
أما آخر ما كتبه الشهيد سليماني: "اللّهم لا تكلني، اللّهم تقبّلني، اللّهم إني أعشق لُقياك كاللّقاء الذي جعل موسى يخرّ صرعاً وأوقف أنفاسه، اللّهم تقبلني طاهراً، الحمد لله رب العالمين".
بالرغم من الاختلاف الديني والعرقي والمذهبي بين غيفارا وسليماني، إلاّ أنّ الهدف واحدٌ ومحدّدٌ، وهو مقارعة الظّلم وبسط العدل والخير، مهما كانت الأثمان، وفي سبيل ذلك كلّه كانت المقاومة حتى آخر نفس.
هذه هي ببساطة نهاية الأبطال، نهايةٌ حمراء، بلون الورد، بلون النضال والحرية ضد كل الاستعباد والظلم.