وفي الليلة الظلماء يسطع بدرك يا سيّد الشهداء!
لقد سرقت منّا الحرب الظالمة رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، رجالاً كانوا عند وعدهم، رغم كل ما مروا به من شدائد، وكل ما تعرّضوا له من أذى، وبذلوا الغالي قبل الرخيص من أجل الوقوف مع المظلومين في غزة والدفاع عنهم.
لا أعرف، هل هي لحظات للفرح تلك التي نعيشها الآن في قطاع غزة بعد توقف العدوان الهمجي والإجرامي أم لا! ولست أدري هل ما نشعر به من إحساس عارم بالسعادة حقيقي أم مزيّف! فحجم الألم والفقد الذي مررنا به يجعل من شبه المستحيل تحديد نوعية تلك المشاعر التي تجتاحنا، وتضعنا في منطقة فاصلة بين الشيء ونقيضه، فالفرح العظيم يقابله حزن عظيم، والسعادة الغامرة تقابلها سعادة فارغة، والأمل بمستقبل أفضل يقابله تخوّف من مستقبل عقيم.
صدقاً، لا أعرف بعد كل ما مررنا به من مآسٍ ونكبات وأهوال حقيقة الأمور في هذا اليوم تحديداً، إذ ولأول مرة منذ نحو خمسة عشر شهراً بات باستطاعتنا النوم من دون قلق، والخروج إلى الشوارع من دون خوف، والتجوّل في أزقّة الحارات المدمّرة من دون وجل، بات بإمكاننا الاتصال بالأصدقاء والأقرباء والجيران. ولكن، مع الأسف، ليس جميعهم، فقد فقدنا عدداً كبيراً جداً منهم، ولا نعرف هل بالإمكان تعويض هذا الفقد أم لا، إذ ليس من السهولة بمكان إيجاد صديق صدوق، أو جار خلوق، أو أقارب وخلّان قلّ نظيرهم.
بعد توقّف العدوان، بات بإمكاننا التجوّل في الأسواق، والعودة إلى البيوت أو ما تبقّى منها بعد أن يسدل الليل ستائره، إذ كان موعد العودة أيام الحرب إلزامياً، ويجب أن يكون قبل أن يحل الظلام بساعات، لقد بات بإمكاننا فعل العديد من الأشياء التي كانت ممنوعة ومحظورة، وكان القيام بها يعدّ مغامرة غير مأمونة العواقب، ويمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
في الحرب المجنونة التي شُنّت على قطاع غزة، اتّسعت دائرة الفقد إلى خارج جغرافيا القطاع الصغيرة، ووصلت إلى كثير من الأماكن التي لم تكن مُتوقّعة، بل وسرقت منّا أرواحاً كنّا نحبّها حدّ العشق، ونُجلّها حدّ القداسة، وكنّا نراها أقماراً لا تغيب مهما تبدّلت الفصول وتغيّرت الأحوال.
لقد سرقت منّا الحرب الظالمة رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، رجالاً كانوا عند وعدهم، رغم كل ما مروا به من شدائد، وكل ما تعرّضوا له من أذى، وبذلوا الغالي قبل الرخيص من أجل الوقوف مع المظلومين في غزة والدفاع عنهم.
كم كنّا نتمنى أن يكون هؤلاء الرجال أو بعض منهم بيننا ليشهدوا نهاية هذه الملحمة، وليروا عظيم ما قدّموه من تضحيات في نتيجة هذه الحرب، وليشاهدوا بأمّ العين حجم ما تحقّق من انتصار، وحجم ما ترسّخ من إنجاز.
في هذا اليوم الأغر، واجب علينا أن نتذكّرهم، وأن نشير إليهم بالبنان، وأن نخلّد سِيَرهم، ونعظّم فعلهم، وأن نعطيهم ولو جزءاً يسيراً من حقّهم علينا، فلولاهم بعد الله لما وصلت الأمور إلى خواتيمها السعيدة، ولولا عظيم بذلهم وعطائهم لما تحقّق هذا الانتصار العظيم، والذي لن يقلّل من شأنه، أو يُنقص من قدره حجم التضحيات الهائلة، أو الخسائر الفادحة، فالأحداث العظيمة كانت على الدوام تتطلّب تضحيات عظيمة، والإنجازات الكبيرة كانت على الدوام بحاجة إلى بذل وعطاء غير تقليديين.
في مقدّمة الطابور الطويل من الشهداء العظام الذين فقدناهم في هذه الحرب، يقف سماحة السيد حسن نصر الله، رضوان الله عليه، والذي ما رأينا منه إلا جميلاً، وما سمعنا منه إلا صدقاً، وما عهدنا منه إلا الرجولة، وما عرفنا عنه إلا الشهامة.
لقد كان سماحة السيد، رضوان الله عليه، بلسماً للجراح النازفة، وطبيباً للأجساد المُتعبة، معلّماً في زمن يُراد أن يعمّ فيه الجهل، وموجّهاً في زمن تكثُر فيه الفتن، وتنتشر فيه الأكاذيب، وقائداً أممياً يتجاوز بسماحته وخلقه كل الطوائف والأعراق والألوان.
في هذا اليوم الخالد، نفتقد سماحته بكل ما للكلمة من معنى، كيف لا وهو الذي تعوّدنا على طلّته البهيّة، وكلماته الشجيّة، وابتسامته الساحرة، كيف لا نفتقده وقد كان قنديلنا في وسط الظلام، وبنياننا في وسط الدمار، وسدّنا المنيع في وجه الإعصار.
في هذه الساعات الفارقة من تاريخ شعبنا والمنطقة والأمة جمعاء، وبعد أن توقّف سفك الدماء في قطاع غزة المنكوب، حيث أزهقت أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وأصيب عشرات الآلاف الآخرين بجروح وندوب قد لا يشفيها تقادم الأيام، ودمّر وخرّب كل ما يمتّ للحياة بصلة، كم كنّا نتمنّى أن يكون بيننا ومعنا سيّد شهداء طريق القدس، والذي شهر سيفه الحسيني، رغم كل المخاطر للدفاع عن غزة وأهلها، في حين تخلّى عنها الجميع، وتنكّر لها البعيد والقريب، وأدار لها من تربطه بها أواصر الدم والنسب والدين ظهره، في أسوأ خذلان عرفته البشرية جمعاء، وانشغل في لهوه ولعبه من دون أن يحرّك ساكناً.
في هذه الساعات المجيدة، واجب علينا أن ننسب الفضل إلى أهله، إلى الذين قدّموا دماءهم وأشلاءهم من دون منّة، وصنعوا من لحمهم حمم غضب ضربوا بها وجه القاتل، بل وصفعوا بها وجوه كل من تآمر وتخاذل وخان.
من الواجب علينا أن نوجّه الشكر من دون خجل أو وجل لمن ضحّى وبذل، وقدّم وأعطى، وقاتل بكفيه العاريين أقوى آلة حربية في المنطقة، وواجه بجسده العاري، وسلاحه المتواضع كل جبروت الأعداء، وآلة حربهم المجرمة.
اليوم، يجب أن نصدح بالحقيقة التي يخشاها البعض، ويتحاشى ذكرها البعض الآخر لحسابات ضيّقة، ومصالح حزبية وفئوية مقيتة، تلك الحقيقة التي تقول إن ما بذله رجال الله في لبنان، وفي المقدّمة منهم قائدهم ومعلمهم وحبيبهم، رضوان الله عليه، أسهمت في وقف المقتلة العظيمة في غزة، والتي كان يُراد لها أن تستمر إلى ما لا نهاية، وأسهمت جهودهم البطولية في زيادة الضغط على "جيش" العدو وإشغاله، بما منعه من تحقيق أهدافه، وحرمانه من خيار الاستفراد بغزة وأبطالها الميامين، والذين يعلمون علم اليقين أهمية الدور الذي لعبه إخوانهم في لبنان، إلى جانب باقي جبهات الإسناد في اليمن والعراق والجمهورية الإسلامية في إيران.
في هذا اليوم المجيد، يعزّ علينا يا سيدي أن نحتفل من دونك، وأن نعاين ثمرة جهودك وأنت بعيد عنّا، يعزّ علينا أن نفتقدك حيث كنّا نجدك على الدوام، ولكن هي إرادة الله، الذي اختارك لتكون إلى جواره بعد هذه الرحلة الطويلة من التعب والجهد والجهاد.
نقول اليوم إن هذا النصر هو نصرك يا أبا هادي، نصر أبنائك وأحبابك وجنودك، نصر مقاتليك في بنت جبيل والعديسة ومارون الراس والخيام والناقورة، نصر أبنائك في الشجاعية والزيتون ورفح وخان يونس والوسطى، نصر أحبابك في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، نصر المخلصين في اليمن والعراق وإيران، نصر كل الأحرار في المنطقة والعالم، في الأردن وسوريا وتونس والجزائر، في مصر وتركيّا وماليزيا وباكستان، في جامعات أميركا وبريطانيا وفرنسا، الذين عدّوك، ولا يزالون، أيقونة للكفاح، ورمزاً للمقاومة، ونبراساً للحرية.
عزاؤنا يا سيدي أنك ترقب كل ما يجري من السماء، حيث حواصل طيرٍ خُضرٍ في الجنة، كيف لا ونحن نؤمن بقول ربنا عز وجل بأن الشهداء لا يموتون، ولا يذهبون إلى الفناء، بل تبقى أرواحهم الشريفة ترفرف فوقنا، تمنحنا الأمل، وتمدنا بالعزيمة، وتدفعنا إلى الاستمرار، مهما بلغت التضحيات.
ختاماً نقول إن ليلتنا ليست ظلماء، وأن بدرنا لم يغب، فهو معنا، وبيننا، نشعر به عند كل منحة، ونرى جهده وفعله عند كل محنة، ونسمع كلماته الخالدة وهو يقول:" كما وعدتكم بالنصر سابقاً، أعدكم بالنصر مجدّداً"، عهدنا أن نبقى أوفياء لدربك، مخلصين لنهجك، محافظين على إرثك، سائرين على طريقك، حتى يقضيَ الله أمراً كان مفعولاً.