خريف البدايات ونهاية "ربيع" الثورات
تتعاقب الحضارات البشريَّة، لكن يستحيل أن ينشأ "فراغ حضاري"، ما يؤكّد أنّ اللحظة التاريخيّة الراهنة هي لحظة بداية احتضار هنا مقابل مخاض ولادة حضارية هناك.
سيطرت على مجرى العقد الحالي الذي يوشك على الرحيل أحداث خريف الثورات اللاعربية، ليطوي بذلك حقبة تاريخية سوداء وأحداث فصول كارثية من تاريخ هذه الأمة وعمرها الحضاري.
لا توجد علاقة مباشرة ظاهرة للعيان بين خريف أُريد به أن يكون السيف الذي يقطع رؤوس العرب الممانعين للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وذاك الخريف الذي تسقط فيه أوراق الشجر. انتهى هذا العقد الزمني، ولم يعد للتنبؤات مكان للطرح: إنها أحداث مخاض استعماري من نوع جديد، هدفه النيل من هذه الأمة ومن كرامتها.
موازين دورة الاستعمار لا تعرف "الملل"، وكل مظهر من مظاهر الضعف في مركز استعماري مهيمن، تقابله إرهاصات استعمار وليد في مركز آخر لأمة مغيّبة أو شعب وليد. ورغم ظهور التحرريين في مجرى التاريخ، فقد طغت الرغبة الاستعمارية نتيجة صراع القوة بين مراكز دورة الرغبات البشرية، حيث إنَّ الرغبة في التحرر خالفت قاعدة "القوي يسيطر على الضعيف".
ولئن كانت موازين القوى العالمية لا تعرف استمرار وجود "فراغ" من دون ملئه سريعاً - بمعايير ساعة الزمن التاريخية - فموازين الاستعمار لا تعرف "الفراغ والتوقف" أيضاً. وكل مظهر من مظاهر الضعف في مركز حضاري مهيمن، تقابله إرهاصات صعود وليد في مركز آخر لحضارة مغيّبة أو حضارة وليدة، ثم تتبع ذلك مرحلة شيخوخة هنا متزامنة مع مراحل نهضة فتيّة هناك.
إنّ المرحلة الحالية الّتي وصلت إلى خريف الرأسمالية الآن، لا يمكن أن تفضي خلال بضعة عقود إلا إلى نهاية سيطرتها عالمياً، لتنتقل حصيلة ما أنجزه الإنسان علماً وتقنية في حقبتها إلى مركز حضاري جديد يتابع الإنجاز والعطاء.
وقد شهدت مرحلة الانحسار الحضاري الإسلامي ومدّ النهضة الأوروبية قبل قرون نقلة مشابهة لمسار التقدم العلمي والتقني، عندما تحولت مراكز الثقل الحضاري مع إنجازات العلم والتقنية من الجنوب إلى الشمال، وانقلبت معها رسوم الخرائط الجغرافية التي كانت منتشرة آنذاك، فبات يوضع الشمال في الأعلى والجنوب في الأسفل، على نقيض ما عرفته البشرية لعدة قرون في رسوم خارطة الإدريسي العالمية.
رغم ذلك، هل يمكن القول الآن إنّ المركز الحضاري الجديد، وفق هذه "الرؤية"، سيكون مركز حضارة ستولد في الوطن العربي، نتيجة أفول نجم الحضارة الاستعمارية الغربية؟ وهل سيشمل تدريجياً الدائرة الحضارية الإسلامية، لتأخذ موقعاً رائداً على مستوى البشرية؟
أليس من "الجرأة" طرح مثل هذه التكهنات خلال ما يثيره مجرى أحداث التعامل مع ثورات صنعت في المطبخ الغربي، لتكون السم الذي يبتلعه الإنسان العربي، والذي تكاد آلامه لا تطاق، ويكاد لا يستطيع من يعانيها أن يرى بصيص ضوء التحررية في اليوم التالي من أيام معاناته، وليس بعد عقود.. ليطمئن إلى أوضاع أولاده وأحفاده؟
من الذي كان يجرؤ على التكهن عند المخاض الأول لولادة القوة الأوروبية في أوروبا قبل قرون، أن كلمات كانط وفولتير وروسو وأقرانهم ستكسر أغلال الإملاءات العقدية الكنسية (الدوغما) وتطبيقاتها حروباً واضطهاداً وهيمنة؟
كذلك عند ولادة الحضارة الإسلامية قبل 1400 عام، سرى مفعول تلك السنة الحضارية في المواجهة بين سيطرة "أشراف قريش وسادتها" واستخدام السياط والقتل، في محاولة كتم استغاثات سمية وياسر وعمّار وصرخة "أحد أحد" على لسان بلال بن رباح، عندما اكتسبوا - وهم من العامة في مصطلحات اليوم - قوتهم من قوة سيدنا محمد (صلوات ربي وسلامه عليه) وصموده وثباته بكل ما تعنيه كلمة معجزة، من قبيل "ولقد كرّمنا بني آدم"، التي لم يقتصر وجه الإعجاز فيها على حقيقة مصدرها الرباني فقط، بل تجلّى أيضاً في تأثيرها، أي من حيث موقعها في سياق المنظومة السائدة. آنذاك أيضاً، انتصرت في نهاية المطاف كلمة "اقرأ" على كلمة "اقتل".
من الطّبيعي أن نرصد ونحن نردّد هذه الكلمات عن عصر سابق كيف بدأت تلوح في الأفق معالم انتصار شعوب عربية أُريد لها أن تُكبّل بخريف يُسقط كلّ شبابها تحت فوهات عملاء الغرب وأتباعهم، فلا نحتاج إلا إلى تعديل بعض العبارات، لنقول إن التفاف الشعوب حول نفسها وصمودها الذي استمدّته من صمود قادتها من أجل "الحرية والكرامة"، وقد سرى في العامّة من الشعوب رصيد ما سبق من ثورات فكرية رائدة على الاستعمار وعملائه، والتي لا بدّ من أن تنتصر في نهاية المطاف على كلمة "اقتل".
لا بدّ من أن تنتصر سوريا العروبة على المستعمر وعملائه... لا بدّ من أن تنتصر كلمة الإنسان المدافع عن حقّه ووطنه على العميل المرتزق المرتَهَن للخارج، وكلمة "أنا الثائر" على كلمة "أنا الهمجي".
هنا تحديداً يكمن البعد الحضاريّ الأهمّ في "الربيع العربي" الحقيقي: انتصار الإنسان اعتماداً على القوة الكامنة في إرادته وإبداعه وصموده على الاستعمار الذي يحاول أن يسيطر بمرتزقته وهمجيّته، والذي بلغ مرحلة "الخرف" والشيخوخة في فكره وتصرفه.
وجميع ما دون ذلك تفاصيل، منها الجدل حول مصدر "قوّة الإنسان" الثائر، ومنها الكمّ الضخم من التخبّط الّذي ترمز إليه كلمات تردّدت في جميع معاقل صناع الوهم، ومنها الغموض الأقرب إلى تعمد مواراة حقيقة المواقف، على محاور توزيع الأدوار في التعامل مع الأحداث التاريخية.. سيّان ما بين الجامعة العربية، والقوى الدولية، والقوى الإقليمية، أو بين "المبادرات السلمية" والتدخلات الخارجية.
وبقدر ما نرى هذا البعد الحضاري متمثلاً في انتصار الإنسان المدافع عن حقه وأرضه، وهو يصنع مساراً حضارياً جديداً، نرى أيضاً تمرّد الإنسان في الغرب على ما بقي من أركان هيمنة مسار حضاري انحرافي وهو يتجاوز ذروة تقدّمه وإنجازاته، لصالح استبداد المال على حساب إرادة الإنسان الفرد، وعلى حساب حقوقه المعيشيّة الأساسية. وقد بدأت معالم الجبهات تتبدّل في ساحاتها المتعدّدة في "ميادين التحرير" الّتي بدأت تنبت في الدّول الغربيّة.
والأهمّ هو ما بدأ يظهر إلى العيان بأنَّ الأزمة الرأسماليّة المتفاقمة عصيّة على الحلول التقليدية، لأنها تمسّ جوهر استمرار وجود الهيمنة المالية على الإنسان، فالحلّ يعني نهايتها، تماماً كما أصبحت أزمة الاستبداد المحلي والعمالة للدولي في بلدان خليجية عصية على الحلول التقليدية، لأن الحل يعني نهاية العمالة والتبعيّة والاستبداد نفسه.
يشهد على ذلك أنّ كلّ حل يُطرح في مواجهة الأزمات المالية المتوالية يصدر عمّن صنعها، فلا يصل به إلى مستوى قابلية التخلّص منها، لأنه لا يتحقّق من دون تقويض أركان من يطرح الحلول: هيمنة المال على صناعة القرار، وهذا بدوره ما يعيدنا من خلال معايشة الآلام في الحدث الآني في العالمين العربي والغربي، إلى رؤية معالم أهم سنة من سنن مسار تقلب الدورات الحضارية البشرية المتعاقبة: استحالة نشأة "فراغ حضاري"، وهو ما يؤكّد أنّ اللحظة التاريخية الراهنة هي لحظة بداية احتضار هنا مقابل مخاض ولادة حضارية هناك.. خريف لا بدَّ من أن يتبعه شتاء وصقيع، وربيع لا بدَّ من أن يتبعه صيف وثمار.