مستقبل المسيحيين العرب
على مدى قرن وعقد من سياسة "فرِّق تسد"، التي أطلقها الغرب عبر إنشاء هويات وطنية منفصلة عن محيطها، فإن الأزمة الوجودية التي يواجهها المسيحيون العرب تتطلب اليوم استجابة شاملة للواقع وتحدياته.
ما مستقبل الوجود المسيحي في المشرق العربي خلال الأعوام الخمسين المقبلة؟" سؤال ظهر عبر عدة أشكال كإشكالية وجودية نوقشت في عدة مناسبات في العقدين الأخيرين، في عدة منابر، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومع ذلك، لم تتم مناقشة هذا السؤال علناً من جانب قادة الكنيسة في العالم العربي حتى عامي 2022 و2023. الموضوع غير مستغرب نتيجة عدة أسباب، مع الأخذ في الاعتبار أن الوجود المستمر للمكون المسيحي على امتداد الأمة العربية هو أمر يجب المحافظة عليه بحكم أن أبناء الكنيسة المسيحية ينتمون، بتعدد مذاهبهم، إلى الهوية العربية الجامعة، والتي يشمل نسيجها الاجتماعي عدداً من الأديان والثقافات والأقوام المتنوعة ضمن الهوية العربية الجامعة.
على مدى قرن وعقد تم تقسيم المنطقة المعروفة حالياً باسم الشرق الأوسط (مسمى يعكس الموقع الجغرافي للمنطقة بالنسبة إلى أوروبا، وبالتالي أصبحت التسمية راسخة في الوعي الجمعي على رغم أنها إسقاط، له علاقة بالأورومركزية)، إلى "مناطق نفوذ من جانب مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو بعد سقوط السلطنة العثمانية.
هنا، يجب لفت النظر إلى الكراهية العميقة الجذور لمعظم المسيحيين تجاه الإمبراطورية العثمانية، التي تعود في الغالب إلى القرن الأخير من عمر الإمبراطورية التي استمرت مدة 400 عام، أي عندما بدأ ترهل سلطتها، بحيث تم المحافظة طوال الحكم العثماني على خصوصية الكنائس، في كل طوائفها، ولم تتعرض لأي ضغط يُذكر قبل القرن الأخير من عمرها (نظام الملل).
من المهم أن نلاحظ تأثير الحملات الصليبية (1096-1291) التي سبقت نشوء السلطنة العثمانية، والتي شكلت تهديداً أكبر للمنطقة ولساكنيها. لذلك، يجدر بنا أن نعترف بأن موروثاتها لا تزال تؤدي دوراً تضليلياً في البيئة المسيحية، بالإضافة إلى ما تم استغلاله من جانب المركزية الأوروبية في حينه خدمة لعملية التقسيم التي قام بها الفرنسيون والبريطانيون. في الغالب، هددت الليتنة المرتبطة بالأورومركزية، كما أوضحت في كتاباتي السابقة، استمرارية عدد من المذاهب المسيحية المشرقية والعربية، واستهدفت هويتهم عندما حوربت جميع الكنائس المسيحية التي لا تتبع الطقوس اللاتينية، ودِينت على أنها هرطقة. وهنا يجب التوضيح أن الهوية الاجتماعية للأفراد موحدة وعابرة للطوائف والمذاهب، اي أن الطوائف تتبع شرائع دينية متباينة، لكن الأفراد ينتمون إلى هوية اجتماعية واحدة.
كما نؤكد أن الدين نفسه يمكن أن يمتد عبر طوائف متعددة لقومية عربية واحدة جامعة، وإن تجزأت على يد اتفاقية سايكس بيكو، فكل من الكنيسة الأشورية والكلدانية والقبطية تشكل جزءاً أصيلاً من الهوية القومية العربية، التي تغير شكل الحكم فيها على مدى العصور من دون أن تتغير هويتها العربية الأشمل، فهي قومية تبنّت ديناً مسيحياً، وإن تمظهر في عدة طوائف. ولنا مثال آخر في العرق الكردي الآري الأصل، والذي اندمج في القومية العربية، ودخله الإسلام السني والشيعي والعلوي والمسيحية، كما الزرادشتية.
مسيحيون عرب خارج الحدود
على مدى قرن وعقد من سياسة "فرِّق تسد"، التي أطلقها الغرب عبر إنشاء هويات وطنية منفصلة عن محيطها، فإن الأزمة الوجودية التي يواجهها المسيحيون العرب تتطلب اليوم استجابة شاملة للواقع وتحدياته، بعيداً عن النزاعات الثانوية، وبعيداً عن الإسقاطات الغربية الممأسسة، والتي هيمنت على الوعي الجمعي منذ الحملات الصليبية إلى اليوم. يجب أن نمتلك التواضع الكافي لإعادة قراءة تاريخنا وفهم تحديات المستقبل، انطلاقاً من واقعنا، وبعيداً عن أي غوغائية لا تسمن.
يجب على المسيحيين في جميع أنحاء العالم العربي أن يتحدوا تحت راية المسيحية العربية كجزء من القومية العربية، لأنهم يعانون التهديد الوجودي نفسه، بدءاً باحتلال فلسطين، مروراً بغزو العراق والحرب على كل من سوريا ولبنان، بحيث لم ينجُ المسيحيون من تبعاتها في أي من هذه البلدان، بل كانوا حطباً لها كإخوانهم المسلمين، من دون أن يُعفي ذلك مسيحيي مصر والأردن من المسؤولية نفسها. يرغب بعض المسيحيين العرب في إلقاء اللوم على المسلمين، محمِّلين إياهم مسؤولية تدهور وجودهم، متغافلين عن الهجمة الغربية الأميركية على المنطقة العربية منذ انهيار السلطنة العثمانية واعتمادها على أدوات محلية لتحقيق أهدافها، وليست "داعش" إلّا أفضل تجلياتها الحديثة، بينما يشكل الحشد الشعبي العراقي، في كل تكويناته، نموذجاً معاكساً، ولنا أن نأخذ لواء بابليون تجسيداً. ملاحظة هنا أن بعض الضغط على المجموعات المسيحية في بعض الدول العربية يتم برغبة غربية أميركية، ومعالجتها تقع على عاتق حكومات هذه الدول نفسها، إذا أرادت أن تحافظ على الهوية العربية الجامعة، في كل تجلياتها.
في سوريا والعراق وفلسطين ولبنان، هذه البلدان هي مجرد أمثلة بالنظر إلى تاريخها الحديث [قاتل المسلمون مراراً وتكراراً إلى جانب المسيحيين، لأن الحرب لم تكن أبداً ضد طائفة، بل ضد هوية وطنية أكبر بمجرد ظهورها تهدد المكاسب الاقتصادية واسعة النطاق، التي حققها الغرب، في الشرق الأوسط، قبل قرن وعقد.
في جنين، المدينة الفلسطينية ذات الأغلبية المسلمة الآن، حاول الإسرائيليون مراراً وتكراراً تصوير الفلسطينيين زوراً كمسلمين متوحشين يهددون وجود الجماعات الدينية الأخرى، بينما لا تزال رابع أقدم كنيسة في العالم قائمة هناك، وهي كنيسة "برقين" التابعة للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية. وهذا إن دل فهو يدل على أن الإسلام، في حد ذاته، لم يكن يشكل تهديداً للمسيحيين لأن مكونات الهوية القومية العربية أنشأت تاريخياً آليات للتعايش، أثبتت نجاحها حتى تفككها من خلال الاستعمار والإمبريالية. وفي جنين أيضاً، توجد أبرشية لاتينية يحميها اهل جنين منذ فترة طويلة، إلّا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي استهدفتها مؤخراً، وألحقت بها أضراراً فادحة، وقِس على ذلك عدة أمثلة.
مراراً وتكراراً يَظهر المسيحيون في "أنطاكيا وسائر المشرق"، وفي مهد المسيحية، مهدَّدين في جوهر وجودهم من الغرب والكيانات المدعومة منه. لذلك، سيكون من الضرورة أن ننتقل إلى البيانات التي أُدلِي بها في بعض المجامع الأخيرة، التي ناقشت مسألة الوجود المسيحي في نطاق أبرشياتها العربية.
المسيحيون العرب سيواجهون التحديات ويخرجون متحدين
في مؤتمر "مستقبل الحضور المسيحيّ في المشرق" الذي عُقِد (يومي 4 و5 تشرين الثاني/نوفمبر 2022) في مقر الكنيسة البطريركية للسريان الأرثوذكس في العطشانة، لبنان، افتتح قداسة البطريرك موران إغناطيوس أفرام الثاني، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للكنيسة السريانية الأرثوذكسية، المؤتمر بكلمة جاء فيها:
"في منطقتنا هذه الّتي ابتُلِيَت بالحروب والخصومات منذ أجيال، الإنسان يفقد كرامته كلَّ يوم، وهو يسعى جاهداً لتدبير احتياجاته الضّروريّة للحياة. والمسيحيّ - ربّما أكثر من غيره - يشعر بالخوف ممّا ينتظره، وذلك بسبب التّجربة الّتي مرّ بها خلال الأعوام القليلة الماضية، ونعني الهجمات الهمجيّة للجماعات الإرهابيّة التّكفيريّة، والّتي لم توفّر البشر ولا الحجر في محاولة منها لطَمْس كلّ ما يميّز هذه البلاد من إرث حضاريّ مادّيّ أو روحيّ أو معنويّ".
وأكد البطريرك أن "المسيحيّين سارَعوا قبل غيرهم إلى الهجرة، وهكذا يكاد مشرقُنا هذا يخلو من مسيحيّيه الّذين ساهموا في بناء حضارته، وتركوا فيه بصماتٍ لا تُمحى على مرّ العصور"، مضيفا أنه "من دون شكّ، فإنّ هذا الغياب المسيحيّ لا يضرّ فقط بالمسيحيّة المشرقيّة، الّتي تجسّد اليوم القِيَمَ المسيحيّة الحقيقيّة بعد ما أصاب الغرب من ضعف... بل هو ضربة للمجتمع المشرقيّ بأكمله: فالمُسلِمُ أيضاً في حاجة إلى استمرار الوجود المسيحيّ في منطقتنا لئلّا تُصبحَ هذه البلاد ذاتَ لونٍ واحدٍ".
وأوضح البطريرك أن "الوجود المسيحيّ في المشرق ضرورةٌ مُلِحَّةٌ لأبناء المنطقة، في مختلف انتماءاتهم، بسبب ما للمسيحيّين من حضور تاريخيٍّ تنويريٍّ في المنطقة، تجلّى في أفضل صوره من خلال دورهم في تأسيس دواوين الدّولة الأمويّة في دمشق، ونشاطهم، علميّاً وثقافيّاً، في ظلال الدّولة العبّاسيّة في بغداد، وخصوصاً حركة التّأليف والتّرجمة، الّتي قادها علماء سريان. وكذلك، دورهم الفعّال في إعادة إحياء اللّغة العربيّة وآدابها في نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين".
وختم البطريرك قائلاً "إنّ بقاءَ المسيحيّة في هذه البلاد وتعزيزَها لتكون فاعلةً ومؤثّرةً مسؤوليّةٌ تتشارك فيها أكثر من جهة".
يؤكد البطريرك السرياني، في بيانه، كل ما ذُكر أعلاه فيما يتعلق بالهوية التاريخية والموحدة، والتي تم خلالها جمع أطر القيم الروحية والاجتماعية التي تظللها العروبة، من جهة، وهو يسلط الضوء على أنه، في وجه عقود من المذابح، اختارت المجتمعات المسيحية الهجرة.
بالنسبة إليّ، هذا لا يأتي كنقد لخيار الهجرة، وكنت جزءاً منه قبل العودة عنه بعد إتمامي دراستي الجامعية، بل إنه وصف موضوعي للواقع. ملاحظة أنه بينما كان المسيحيون يهاجرون بأعداد كبيرة، وأبواب الهجرة مفتوحة على مصاريعها في وجوههم، كانت فرص نظرائهم المسلمين في الهجرة أقل كثيراً ومحدودة نسبياً. لذلك، اضطروا إلى البقاء في أرضهم والقتال من أجلها دفاعاً عن أنفسهم وكرامتهم وأرض اجدادهم، ودفعوا في سبيل بقائهم دماً وشهادة
واقع توفير فرص هجرة لا حصر لها للمسيحيين العرب في مقابل فرص ضئيلة متاحة لنظرائهم المسلمين، يدفعني لأصف المشهد بالمؤامرة؛ مؤامرة تهدف إلى مزيد من تفتيت المنطقة وتأليب المسيحيين ضد نظرائهم المسلمين.
ومع ذلك، لا جدوى في مناقشة هذا التعقيد في الوقت الحالي، بحيث أصبح التهديد الذي يواجهه مجتمعنا، في كل تشكيلاته، خطراً وشيكاً.
في الجزء الثاني من كلمة الافتتاح، عبّر البطريرك عن أهمية بقاء العرب المسيحيين على امتداد الأراضي العربية. وفي هذا الصدد، وكجزء من هذه الجماعة، وبما أن المسيحيين جزء لا يتجزأ من الهوية العربية، ومطالبون بتحمل مسؤولية مستقبلهم، إلى جانب نظرائهم، يجب تأكيد وجود تعطش بين الشبان المسيحيين في جميع أنحاء البلاد ليصبحوا جزءاً من شيء أكبر، وينخرطوا من موقعهم في نقطة تصدٍّ للإشكاليات والأزمات الوجودية، بما يتاح لهم من قدرات.
على هذا النحو، يجب وضع إطار للعمل على امتداد الرعايا وبين المؤسسات الاجتماعية، لأن الكفاح من أجل الوجود يتفوق على أي خلاف ثانوي، وخصوصاً بعد هذا العرض والتعريف الواضح للهوية التاريخية والموحدة، والتي تجمع بين عدد من الأديان في هذا الوطن العربي.
هذا الفكر منبثق من تراكم التجارب، وخصوصاً بعد ضياع فرصه في سوريا في الاعوام الـ11، والتي عبر عنها بكل جرأة وإخلاص، الأب العربي السوري إلياس الزحلاوي، راعي كنيسة سيدة دمشق، بكثير من الحزن والألم، قائلاً إنه" خلال الحرب الجهنمية التي شُنت على سوريا، ظلّت المؤسسات الكنسية كلها متمسكة بمواقعها الخاصة، ولم تبدر منها كلها، في حدود علمي، أي بادرة إلى عمل مشترك فيما بينها" لمساعدة الأبرشيات السورية، التي تواجه تهديدات وشيكة من جانب الميليشيات الإرهابية.
في نقده، قال الأب الزحلاوي: "نعم، كنت أتوقع من كبار المسؤولين في الكنائس، التي يتعرض وجودها واستمرار عيشها وبقاؤها الفعال في أرضها البدائية، للتهديد بوقاحة، موقفاً حازماً من المجد والتحدي، يليق بأولئك الذين يشاهدون كل يوم، بأم أعينهم، حرب إعدام حقيقية ونهائية لجميع أبنائهم وبناتهم في شرقنا هذا!".
إلاّ أنّ الكاهن العربي أيضاً جاء بيقين إلهي ليدعم موقفه القائل إن المسيحيين العرب باقون في هذا الشرق المصلوب حتى قيامته. جاء قائلاً لمن لا يرى أملاً في المستويين الاجتماعي والسياسي، إن "ما حدث في دمشق بالذات، منذ أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1982 حتى اليوم، في حي الصوفانية المتواضع، يقطع بقيامة محتَّمة ومشرقة، جاءت رسائلها كلها على لسان السيدة العذراء أولاً، ثم على لسان السيد المسيح، باللغة العربية، المحكية والفصحى". وهنا يشير الأب إلى الرسائل التي تلقّتها خلال الظهورات السيدة ميرنا الأخرس، وهذه واحدة منها:
رسالة السيد المسيح إلى ميرنا الصوفانية في العاشر من نيسان/أبريل 2004 في دمشق:
"وصيتي الأخيرة لكم، أرجعوا كلُّ واحدٍ إلى بيتِه، لكن احملوا الشرقَ في قلوبِكم.
من هنا انبثق نورٌ من جديد، أنتم شعاعُه،
لعالمٍ أغوته المادةُ والشهوةُ والشهرة، حتى كاد العالم يفقد القيم.
أمّا أنتم، فحافظوا على شرقيتكم.
لا تسمحوا بأن تُسلَبَ إرادتُكم وحريتُكم وإيمانُكم في هذا الشرق".