ما الأسباب التاريخية للتقارب بين الصين والعالم العربي؟
إن الأسس التاريخية والثقافية والدينية لـ "ترابط المشاعر الشعبية" بين الصين والعالم العربي لا تجعل مبادرة "الحزام والطريق" "خطة وهمية"، بل تجعلها دعوة العصر كي تلبي المصالح الأساسية للشعبين.
شهد عام 2023 وما زال يشهد عملية تنامي دور الصين العالمي في صنع الاستقرار في داخل البلاد وإحلال السلام في خارجها. ومن وجهة نظر كثير من الخبراء الصينيين والعرب، فإن ما قامت به الصين مؤخراً يُعَدّ انتصاراً للدبلوماسية الصينية على الصعيد الدولي، الأمر الذي يؤكد مكانة الصين لدى دول الشرق الأوسط كدولة صديقة لأغلبيتها. وبناءً على ما حدث خلال الأشهر الماضية من وساطة الصين في المصالحة بين دول الشرق الأوسط، وما تبعها من قمة عربية صينية وقمة خليجية صينية عُقدت في الرياض في بداية هذا العام، فأرى أن كل هذه المبادرات تبشر بمستقبل أفضل بين الصين ودول الشرق الأوسط.
ما لا شك فيه أن هذا النجاح الباهر لا يكون مصادفة دبلوماسية، أو ما أسعده الحظ من النتائج الموفقة، بقدر ما يكون ثمار التقاء الحضارتين الصينية والعربية، والذي استمر عدة قرون، بحيث تكاملتا وتبادلتا المنجزات المادية والفكرية كالإرث من الجيل القديم إلى الجيل الجديد لتؤثر إحداهما في الأخرى. وأشار الرئيس الصيني، شي جين بينغ، ذات مرة، إلى أن "ترابط المشاعر الشعبية يُعَدّ محتوىً مهماً في بناء مبادرة "الحزام والطريق" (حزام طريق الحرير البري الاقتصادي وطريق الحرير البحري)، ويُعَدّ أيضاً الأساس الإنساني لبناء هذه المبادرة. منذ ذلك الحين، اجتذب مصطلح "ترابط المشاعر الشعبية" اهتماماً واسع النطاق من جميع أنحاء العالم، ولم يقتصر تأثيره على البلدان والمناطق الواقعة على طول طريق الحرير القديم البري والبحري، بل امتد ليشمل نطاقات أوسع، لأن هذه الكلمات القصيرة وصفت حالة الانسجام التي طال انتظارها بين شعوب جميع البلدان. وتشير "المشاعر الشعبية" في هذه الصيغة إلى "مشاعر جماهير الشعب وتطلعاتها"، و"ترابط المشاعر الشعبية" يعني أن الشعوب من مختلف البلدان والقوميات يمكنها فهم بعضها بعضاً عاطفياً.
هناك مثل صيني قديم يقول إن "الصداقة بين الدول تكمن في التقارب المتبادل بين الشعوب، والتقارب بين الشعوب يكمن في التعاطف المتبادل بين القلوب"، الأمر الذي يعني أن الصداقة هي الكيان الرئيس لتاريخ البشرية. وكانت الشعوب دائماً أهم قوة دافعة إلى تعزيز التطور التاريخي، وفي إطار مبادرة "الحزام والطريق"، فإن تطوير العلاقات بين الصين والدول العربية يُعَدّ في الأساس تنميةً لمشاعر شعوب الطرفين. من خلال التحليل من مختلف الزوايا، فإنه ليس من الصعب أن نرى أن الشعبين الصيني والعربي يتمتعان بالمزايا والشروط التي تحقق "ترابط المشاعر الشعبية". وفيما يأتي، سوف نشرح بالتفصيل ثلاثة أسس، كلّ على حدة: الأساس التاريخي، والأساس الثقافي، والأساس الديني.
أولاً: الأساس التاريخي: عريق ومستمر عبر التاريخ، وتشترك الحكومة والشعب في ترويجه
جميع القوميات في الصين "كانت لها علاقات اقتصادية بآسيا الوسطى وغربي آسيا قبل عهد أسرة هان. وبعد أسرة هان الغربية، أصبح الاتصال بين الصين والغرب أكثر ازدهاراً، وكان هناك سيل لا ينقطع من المبعوثين الذين يتطلعون إلى الطاوية." يمكن إرجاع العلاقات الودية بين الصين والعالم العربي إلى ما قبل ألفي عام، بحيث إنه "بعد وقت قصير من سفر تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية، أرسلت أسرة هان مزيداً من المبعوثين إلى آنشي ويانتساي وليتشيان وتياوتشي وشيندو وبلدان أخرى تقع غربي الصين. كان المبعوثون، الذين يتم إرسالهم كل عام في بعض الأحيان، يصلون إلى عشر دفعات، وكان عددهم لا يقل عن مئة، أو ربما يصل إلى مئات الأشخاص".
حظيت عملية التبادلات التاريخية بين الصين والدول العربية بتقدير كبير من جانب كبار صنّاع القرار، واتَّبع كِلا الجانبين سياسة الانفتاح على العالم والشمولية في فترات تاريخية محددة. تماماً كما قال لي شي مين، إمبراطور أسرة تانغ الملكية: منذ العصور القديمة، كانت الصين موضع تقدير وأفراد الأقليات العرقية في موضع وضيع، لكني أعاملهم على قدم المساواة؛ لذا فهم جميعاً يعتمدون عليّ مثل الوالدين". "إنها أخلاق المحب للسلام". قال أبو جعفر المنصور - الخليفة الثاني في عهد الدولة العباسية - عندما وضع الحجر الأساس للعاصمة الجديدة بغداد عام 762 بعد الميلاد: "لدينا نهر دجلة الذي يسمح لنا بالوصول إلى أراضٍ بعيدة، مثل الصين". وفقاً للسجلات التاريخية الصينية، فمنذ عهد عثمان بن عفان، الخليفة الثالث للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى عهد الدولة العباسية، أرسل الخلفاء العرب مبعوثين إلى الصين، ما يصل إلى سبع وثلاثين مرة. بالإضافة إلى التبادلات الرسمية، فإن التبادلات غير الحكومية بين الجانبين كانت مألوفة أيضاً، ففي عهد أسرة تانغ الملكية، قام التاجر العماني أبو عبيد بزيارة الصين مجذّفاً بالقارب، خلال عهد أسرة يوان الملكية، قام الرحالة المغربي ابن بطوطة بزيارة الصين خلال رحلاته حول العالم، وأثنى على الصين بسبب أراضيها الشاسعة ومواردها الوفيرة. وخلال الفترة نفسها، سافر الرحالة الصيني وانغ داي وان أيضاً إلى دول غربي آسيا وأفريقيا، بما في ذلك العالم العربي، وسجل تجاربه التي رآها في كتاب "موجز تاريخي لسكان الجزر".
بصورة عامة، يعمل الجانبان على تعزيز التبادلات الثقافية وتبادل الأفراد من خلال التبادلات التجارية، عبر استخدام طرق الحرير البرية والبحرية كحلقة وصل، ومع تبادل السلع التجارية بين الجانبين وزيادة وتيرة التبادلات بين الأفراد، أصبحت المدن الصينية قوانغتشو وتشوانتشو وشيآن مدناً مهمةً على طريق الحرير منذ عهد أسرة تانغ الملكية، بحيث تجمّع عددٌ كبيرٌ من التجار العرب، ونشروا ثقافتهم الخاصة للصينيين في أثناء ممارسة الأعمال التجارية. وفي الوقت نفسه، تأثروا وتغيروا من خلال المواقف الثقافية في الصين عبر التاريخ. وفي عملية الاندماج التاريخي، تزاوج التجار العرب مع السكان المحليين وتصاهروا وتكاثروا، مشكّلين خصائص ثقافية وطنية فريدة وجماعات عرقية، وكانوا يدينون بالإسلام. لكن، مع ذلك، فإن العادات المعيشية استمرت في السمات المتأصلة لدى قومية هان والأقليات العرقية الأخرى. إن الأقليات القومية العشر التي تؤمن بالإسلام، والأعداد الهائلة من المسلمين في الصين، أتت برهاناً قاطعاً على التبادلات الودية التاريخية بين العالم العربي والصين، كما أن التعايش المتناغم بين القوميات المتعددة في الصين كانت على منواله الصداقة الحميمة بين الصين والعالم العربي.
ومن منظور التبادلات التاريخية، فإن التبادلات بين الجانبين، على مدى أكثر من ألف عام، تمت بطريقة سلمية من دون ترك أي مظالم تاريخية في قلوب الشعبين. كانت التبادلات طويلة الأجل وذات المنفعة المتبادلة شكّلت مودة طبيعية بين الشعبين الصيني والعربي، وأقامت صداقة نقية، ويؤدي هذا دوراً مهماً في إرساء الثقة المتبادلة والتفاهم العاطفي المتبادل بين الجانبين اليوم عندما تقوم وسائل الإعلام الغربية بالتشويه - عن عمد - للثقافتين الصينية والإسلامية.
ثانياً: الأساس الثقافي: تراث عميق وقواسم مشتركة
تنتمي كل من الثقافة العربية والثقافة الصينية إلى النظام الثقافي الشرقي، الذي له تاريخ طويل ومعرفة عميقة. فكِلا الشعبين يحب السلام. "منذ آلاف الأعوام، لم يكن لدى الصينيين سوى قلب الوقاية من العدوان الأجنبي، وليس لديهم نية في مهاجمة الدول ونهب الأراضي. إن معارضة العدوان والنهب هي الفكر السائد والفهم الأساسي للشعب الصيني. ويشكل هذا النوع من التفكير والتفاهم الأيديولوجيا الرائدة والفهم الأساسي للسلام في الثقافة الصينية. أما الإسلام، الذي هو أساس الثقافة العربية، فهو دين سلام، ودين يحترم الطبيعة ويتماشى مع متغيراتها، ويأمر الناس بأن يعاملوا الآخرين بسلام ولطف، وأن يكونوا صادقين، ومتسامحين... إلى غير ذلك من التعاليم".
على الرغم من وجود بعض التباينات بين الثقافتين بسبب اختلاف بيئة التطوّر، فإنه لا يزال النظامان الثقافيان يُظهِران عدداً من القواسم المشتركة من منظور شامل. يمكننا تلخيصها بإيجاز على النحو الآتي: الشمولية، والوراثة، والابتكار.
1- الشمولية
نظراً إلى أن النظامين الحضاريين هما الرئيسان في العالم، واللذان داما حتى الآن، فإن النظام الثقافي العربي والنظام الثقافي الصيني يتحليان بغاية الشمولية. إنه لمن الصعب علينا أن نتخيل أن نظاماً حضارياً رديء الشمولية يمكن أن يتعامل مع الاندماج والتحديات للثقافات الأجنبية المتعددة، التي استمرت أكثر من ألف عام. وحينما خرج العرب في العصور الوسطى من شبه الجزيرة، واجهوا عالماً متحضراً غير مسبوق، فتعلموا واقتبسوا من الحضارة الفارسية والحضارة الرومانية والحضارة الهندية، ووقفوا على أكتاف العظماء يبنون ويُثرون نظاماً ثقافياً لهم. منذ القرن الثاني عشر، تراجعت الإمبراطورية العربية بالتدريج سياسياً وعسكرياً، وفقدت هيمنتها على الساحة الدولية، وغزاها المغول والأتراك العثمانيون على التوالي. ومع ذلك، من الناحية الثقافية، فإن الثقافة العربية الإسلامية لم تكن على وشك الانقراض بسبب انهيار الإمبراطورية العربية، لكنها تحتضن الثقافات الأجنبية وتؤثر فيها وتغيرها بنشاط، واستقبلت جولة جديدة من حركة اليقظة الثقافية في العصر الحديث.
أمّا بالنسبة إلى الثقافة الصينية، فإن "الشمولية" هي أيضاً مفتاح لبقائها المستمر، والذي لم يُقْهر حتى اليوم في مواجهة الغزو الأجنبي القوي والمتكرر، مرة تلو الأخرى، في سياق تطورها التاريخي. من "إدارة القوميات الأقلية الخمس للصين" و"معركة ياشان"، إلى "تولي قومية مان الشمالية للسلطة، بدءاً بأسرة تشينغ الملكية"، لم تنهَر الثقافة الصينية المتمثلة بثقافة قومية هان في وقت الأزمات الوطنية. على العكس من ذلك، أظهر هذا النظام الثقافي شمولية كبيرة. في عملية الصراع مع الأنظمة الثقافية الأخرى، عندما تكون الأمة الصينية في وضع غير مُوات على المستويين العسكري والسياسي، يميل النظام الثقافي الصيني إلى إظهار قدر أكبر من المرونة على المستوى الثقافي، ورفض العوامل الثقافية الأجنبية والتخلص منها بصورة إيجابية، على نحو يشكل شكلاً جديداً من أشكال التعبير للنظام الثقافي الصيني.
2- الوراثة
في عملية تطور الحضارات المتعددة في العالم، يمكن تلخيص خصائص النظام الثقافي العربي في عبارة "ربط الماضي بالمستقبل، وربط الشرق بالغرب". رَبَطَ النظام الثقافي، الذي أنشأه العرب، النظامَ الثقافي اليوناني الروماني بالنظم الثقافية الفارسية والهندية، وتمت المحافظة على جوهر الحضارات الشرقية والغربية المفقودة والمتناثرة في العصور الوسطى وتوريثها من خلال اللغة العربية، والتي عادت إلى الغرب في العصر الحديث، الأمر الذي أدى إلى ولادة عصر النهضة الأدبية والثورة الصناعية. واستفاد التطور السريع للحضارة الغربية في العصر الحديث إلى حد كبير من الميراث الفريد للثقافة العربية، فلقد ورث العلماء العرب في العصور الوسطى الأساليب العلمية الشرقية، التي ركزت على الوصف التجريبي في أعمالهم المتعددة، وتم وصف نتائج البحث العلمي الشرقي والبحث العلمي الغربي وإعادة مناقشتها. إنها عملية تنقيح تزيل الغثّ وتستخرج الجوهر. إذا لم يرث النظام الثقافي العربي الإنجازات العِلْمية للعالم القديم، فسيتأثر تطور العلم الحديث بصورة كبيرة بلا شك، أو يتأخر ظهور النهضة الفنية في تاريخ العالم، أعواماً طويلة.
بالمثل، فإن النظام الثقافي الصيني يتحلى أيضاً بـ"الوراثة" القوية، وتستند استمرارية الثقافة الصينية، إلى حد كبير، إلى "وعي الوراثة"، وهو الوعي الذي يظهره كل موضوع ثقافي للعادات التقليدية والأسس الثقافية، حتى عندما تكون في وضع غير مُواتٍ من الناحيتين العسكرية والسياسية، فما زالت الثقافة الصينية لا تنثني قناتها في المحافظة على النمط الأصلي للنظام الثقافي لها من خلال كل فرد من أفرادها.
3- الابتكار
النظام الثقافي العربي مبتكر للغاية على أساسَي الشمولية والوراثة. في أثناء قيام الإمبراطورية العربية، استغلّ العرب سطوع الدين وحِدّة سيوفهم لفتح الأراضي الشاسعة عبر أوروبا وآسيا وأفريقيا. ومع تأثر مختلف المناطق بالثقافة العربية الإسلامية، أظهرت مختلف المجموعات العرقية اتجاهات متعددة في الأسلمة. تتميز منطقة شرم وبلاد ما بين النهرين وحوض نهر النيل ومنطقة المغرب العربي بخصائص ثقافية إسلامية فريدة، تستند إلى تقاليدها الخاصة، والتي تعد تجسيداً لابتكار النظام الثقافي الإسلامي. في العصور الوسطى، أدخل العرب الإنجازات العلمية الشرقية والغربية القديمة في النظام الثقافي العربي من خلال حركة الترجمة، التي استمرت قرناً من الزمان. وعلى هذا الأساس، تم تلخيصها وتطويرها، بحيث بلغت مجالات الطب والرياضيات وعلم الفلك والفلسفة وغيرها ذروة البحث العلمي في ذلك الوقت، كمنارة تنير عقول الناس وقلوبهم في العصور الوسطى المظلمة. ينعكس ابتكار النظام الثقافي الإسلامي أيضاً بالتأكيد على "الإبداع" في نصوص الشريعة الإسلامية، أي تشجيع الفقهاء على تفسير الشريعة الإسلامية في بيئات متعددة، وفقاً للوضع القائم والاحتياجات الراهنة، وعدم التشدد في التمسك بنص الشريعة الإسلامية، وحل المشاكل التي تواجهها في الواقع من خلال "الابتكار".
بالنسبة إلى الثقافات الأجنبية في فترات تاريخية متعددة، فإن النظام الثقافي الصيني أجرى ابتكاراً باستمرار على أساس التسامح والميراث، بحيث يمكن دمج الثقافات الأجنبية في الثقافة الصينية التقليدية. يمكن أن تنعكس هذه النقطة بصورة أفضل في نقطة "صَيْنَنة الإسلام". ففي أثناء عملية تطور انتشار الإسلام في الصين، قام المسلمون الصينيون، في الوقت نفسه الذي حافظوا فيه على الصلاة، علقوا آمالهم على القيم التي يلتزمونها في الثقافة التقليدية الصينية في تعاليم متعددة. يشير المسلمون الصينيون إلى "الأركان الخمسة" للإسلام على أنها "الثوابت الخمسة"، كما أن الثوابت الخمسة أيضاً تنقسم إلى "باطنية وظاهرية"، فالثوابت الخمسة الباطنية هي "الإحسان، والاستقامة، والأدب، والحكمة، والإيمان"، أما الثوابت الخمسة الظاهرية هي "معاملة أولى الأمر، الآباء والأبناء، الزوج والزوجة، الإخوة والأصدقاء". كان ليو تشي -عالم الإسلام الصيني في عهد أسرة تشينغ الملكية – قد طلب من المسلمين أن "يظهر أثر الصلاة في الجوارح، وأن يُغذّى القلب بالشهادتين، وأن تُكْبح الشهوة بالصيام، والزهد في الحياة بالحج، وتُنمّى الأموال بالزكاة"، بحيث دعا المسلمين إلى أن يجسدوا سعيهم للإيمان في الجوانب الخمسة "الجسد، والقلب، والشهوة، والحياة، والمال". إن عملية تطور الإسلام في الصين هي عملية شمولية وتوارث للثقافة الإسلامية، وهي أيضاً عملية ابتكار منطقي وشرعي للتعاليم الإسلامية من جانب المسلمين المحلّيين، والتي تمثل الابتكار المتأصل في النظام الثقافي الصيني.
ثالثاً: الأساس الديني: تقاسم القيم، والروابط الروحية
في العالم العربي، الإسلام، باعتباره النظام الثقافي المهم والجوهري في العالم العربي، فإنه يؤثر في أنماط تفكير الناس. الإسلام هو الجوهر والروح للثقافة الإسلامية. والقول إنه الجوهر، يعني أنه الجزء الرئيس من الثقافة الإسلامية. والقول إنه الروح يعني أنه يتغلغل في كل مجال من مجالات الثقافة الإسلامية. الإسلام لم يصبح فقط إيمان العرب بالحياة، بل أصبح أساساً للفهم والتفسير لمختلف الظواهر الاجتماعية والمعيشية. علاوة على ذلك، تطور إلى نظرية تكوين المجتمعات العربية وتطورها في مرحلة مبكرة، وأصبح أسلوب حياة شاملاً.
الصين بلد متعدد الأعراق والأديان. ويُعَدّ الدين هو نبض النظام الثقافي، والثقافة الإسلامية جزء مهم لا غنى عنه في النظام الثقافي الصيني. فمنذ دخول الإسلام الصين في الأعوام الأولى من عهد أسرة تانغ الملكية، تطور الإسلام في عهد أسرة سونغ الملكية، ووصل إلى ذروته في عهد أسرة يوان الملكية، وكان له تأثير كبير في المجتمع. ويقال في التاريخ: إن "أسرة يوان الحاكمة في جميع أنحاء العالم". في ذلك الوقت، كانت المكانة الاجتماعية التي يتمتع بها المسلمون أعلى من تلك التي تتمتع بها قومية هان، بحيث كانت الكيان الرئيس لسكان الصين. ووصولاً إلى عهد أسرة مينغ الملكية، كان تطور الإسلام في الصين مقيداً بصورة كبيرة، ويرجع ذلك أساساً إلى أن النضال ضد أسرة يوان كان قائماً على النزعة القومية، وكان مثل هذا الجو السياسي غير مواتٍ بصورة خاصة لتطور الإسلام. بالإضافة إلى ذلك، فرضت أسرة مينغ الملكية حظراً صارماً على البحار، وكانت هناك مقولة مفادها أن "شبراً واحداً من اللوح لا يُسمح له بعبور البحر"، الأمر الذي أضعف التبادلات بين أراضي الصين والعالم الإسلامي يوماً بعد يوم. وفي عهد أسرة تشينغ الملكية، حقق الإسلام المحلي في الصين تطوراً كبيراً مرة أخرى، فلم تتسع مساحة انتشاره فحسب، بل تم أيضاً تحسين طبيعة انتشاره، بحيث "كانت درجة التغلغل في المجتمع أكثر عمقاً"، كما تشكلت أولى خطوات التعاليم الإسلامية المحلية للصين في هذه المرحلة.
يجسّد المسلمون الصينيون الثقافة الصينية والثقافة الإسلامية، ويمكنهم التواصل بصورة طبيعية بين الثقافتين من الناحية العاطفية. لذلك، لا يمكن تجاهل دورهم الفريد كجسر. و"كونهم حاملين للثقافة الإسلامية في الصين، فإن كيفية إمكان أداء المسلمين الصينيين دوراً وسيطاً في التبادلات الثقافية الصينية والاسلامية تُعَدّ أيضاً قضية مهمة". لم تتوارث الأقليات القومية التي تترأسها قومية هوي في الصين تعاليم الإسلام فقط، وجعلتها منتشرة على نطاق واسع في أرض الصين، بل لديها أيضاً قاعدة جماهيرية ضخمة. كما طور المسلمون الصينيون الإسلام وأبدعوا فيه، وفقاً لتقاليدهم وظروفهم الوطنية، الأمر الذي جعله أقرب إلى نمط التفكير التقليدي للصينيين من دون المساس بروح الإسلام.
وعلى هذا، أصبح النظام الديني، الذي يتزعمه الإسلام، نقطة البداية والضمان لتحقيق "ترابط المشاعر الشعبية" بين الصين والدول العربية، وحتى العالم الإسلامي بأسره. من هذا المنظور، فإن الأقلية المسلمة، بزعامة قومية هوي، ستصبح "حامل لواء" و"طليعة" أسلوب الاتصال هذا. وبالمقارنة مع مواطني قومية هان، فإن المواطنين المسلمين في الصين يشتركون في الانتماء الديني نفسه والمحافظة على المعتقد مع العالم الإسلامي، ويبدو أن هناك رابطاً إضافياً يربط بصورة وثيقة بين الشعبين الصيني والعربي.
يعتقد ليو تشي، الباحث في قومية هوي في عهد أسرة تشينغ، أن "تعاليم الحكماء القديمة والحديثة متماثلة، وأن الكتب السماوية متفقة مع تعاليم كونفوشيوس ومانسيوس، بحيث هناك عدد من أوجه التشابه بينهما". فـ "فكر السلام والتسامح الذي دعا إليه القرآن الكريم هو الفكر نفسه لدى تعاليم الكونفوشيوسية". ويشير مصطلح "المروءة" في النظام الثقافي الصيني إلى المساواة واحترام الناس، والسعي وراء الشخصية المثالية. وفي النظام الإسلامي، يحظى مفهوم "المساواة" باهتمام خاص، مع التأكيد أن جميع المسلمين يتمتعون بالمساواة المطلقة أمام الله عز وجل. وفي الوقت نفسه، يدعو الإسلام أيضاً إلى أن يتخذ الناس الأخلاق الرائعة التي أظهرها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في السّنّة، لتكون موضع اقتداء المسلمين به في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم. كما منح القرآن الكريم النبي محمد السلطة المطلقة، الأمر الذي جعله رمزاً للشخصية المثالية للمسلمين. ومما جاء في آيات القرآن الكريم، قول الله تعالى: "فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ "(سورة الأعراف: الآية رقم 158). إن القواسم المشتركة بين الكونفوشيوسية والإسلام في نظام القيم تسهّل على الجانبين فهم الجوهر والروح لثقافة الآخر في عملية الحوار بين الحضارات، ومنحهما موقفاً للإقرار.
إن الأسس التاريخية والثقافية والدينية لـ "ترابط المشاعر الشعبية" بين الصين والعالم العربي لا تجعل مبادرة "الحزام والطريق" "خطة وهمية"، بل تجعلها دعوة العصر كي تلبي المصالح الأساسية للشعبين. في طريق "ترابط المشاعر الشعبية "، اتخذ أسلافنا خطوات حازمة وقدموا إلينا مثالاً يُحتذى به. وعلى خلفية الوضع الدولي المعاصر المعقد، على الصين والدول العربية تلخيص حكمة أسلافها وتوريثها، واستخدام السياسات والمنشآت والاقتصاد والتجارة كوسائل وحاملات، من أجل تحقيق التفاهم المتبادل لعواطف الشعبين بصورة تامة ونهائية، وخلق "عالم منسجم" ينتمي إلى الأمة الشرقية.