نماذج تنموية أساسها "الفهلوة"
إنه ارتزاق على مستوى جيواستراتيجي، يستجيب لغرائز الأنانية والانتهازية، ويهتم بتحقيق الغاية، كيفما كانت نوعية الوسائل المستعملة.
من المؤكّد أنَّ التنمية تحقَّقت في العديد من البلدان، من خلال الخوض في تجارب متنوّعة نابعة عن أنساق فكريّة مختلفة، أنتجت تراكماً في النماذج ومخرجاتها على مر السنين. وغالباً ما تنبعث تجارب التنمية من صلب إرادة سياسية حقيقية تقوم بتعبئة شعوب تواقة إلى رفع سقف الطموحات، والتعاطي مع تحديات تعود على الجميع بالنفع وتنقذ البلد من هوان التخلف ومعرة الجهل.
عجزت دول كثيرة عن تطوير أنماط تنمية محليّة خاصّة والخوض في مسار التحديث، لأسباب بنيوية متعدّدة بحسب خصوصيّة كلّ بلد على حدة، وعوامل خارجية ترتبط أساساً بالاستعمار الخارجيّ، إذ ظلَّت تكابد وتجاهد ظواهر الارتداد والتخلف وسلسلة لانهائية من الأزمات المركّبة.
هناك من يتبنّى نهجاً مخالفاً من خلال القفز على المسار الطّبيعي لتحقيق التنمية، ولا يخوض في التجربة ادخاراً للوقت والجهد. لا أتحدّث عمن ينادي بالقطيعة مع التراث المحلي أو بالتغريب، من خلال نقل التجربة الغربية إلى بيئة أخرى، بل أتحدّث عمن انغمس في هوس تحقيق طموح التنمية بسلوك طريق "الفهلوة" والمتاجرة بكل القضايا، ابتغاء مرضاة الأسياد، وبحثاً عن مردود ما يسمح له به، بحسب الدور الذي حدد له مسبقاً. إنه ارتزاق على مستوى جيواستراتيجي، يستجيب لغرائز الأنانية والانتهازية، ويهتم بتحقيق الغاية، كيفما كانت نوعية الوسائل المستعملة.
تركّز هذه المقاربة على تحقيق التنمية في أسرع وقت ممكن، وتهتمّ بالأرقام والتجليات أكثر من العمق والأسس المتينة، إذ لا تكترث بالخوض في قيم الحداثة من خلال مسار تحديث محلي يراعي الخصوصية، ويدعو إلى تعبئة المجتمع وتهيئته للنهوض بعملية البناء وتشييد أسس اقتصاد وطني متين بمعية قطاع خاصّ محلّي وفكر اقتصادي معيَّن، بل تهتم أساساً بتحقيق نمو اقتصادي سنوي، وتجنب اختلال التوازنات الماكرو اقتصادية، والحد من العجز التجاري، وتقليص نسب التضخم، وجلب الاستثمارات الخارجية.
تقوم هذه المقاربة حالياً في المنطقة العربيّة على التكفّل بخدمة مخطَّطات الكيان الصهيوني وجبروت الإمبريالية الرأسمالية، من خلال التكفّل المباشر بتنفيذ عناصر الأجندات الخارجية، ومساعدتها على التوغل الميداني، وتعميق التدخّل في دول الجوار. ومن المؤكد أنَّ التاريخ يزخر بالدروس والعبر. ورغم ذلك، يكفي التدبّر في ما حصل في العراق وليبيا وسوريا، وما يجري حالياً من محاولات لتطويق مصر ومحاصرتها، لاستيعاب أساليب العملية ونوعية الأدوار الموكلة لكلّ طرف على حدة.
يركّز هذا التوجّه على:
- إشعال فتيل الحروب والنزاعات في البلدان المستهدفة.
- المساهمة في بلقنة الدول وتقسيمها والإجهاز على أمنها القوميّ.
- المشاركة في تعميق أبعاد الحرب السيميائية، وتضليل الشعوب للحؤول دون فهم الحقائق ونشر الفوضى والخبل، ودغدغة عواطف الناس بالشعبوية والخطاب الديني السّطحي.
- فتح الحدود للغزاة ومنحهم الأراضي لإقامة القواعد العسكريّة، وتطويق الدول المجاورة ومحاصرتها، وتسهيل عملية التدخل المباشر.
- توفير البنية اللوجيستيكيّة لتدريب ميليشيات المرتزقة التي توظّف في زعزعة استقرار الدول (سوريا وليبيا مثلاً).
- توفير اللجوء والدّعم المعنوي والمادي للمعارضين من الدول المستهدفة، وتوظيفهم في عملية هدم الاستقرار وهندسة الانقلابات.
- الازدواجيَّة في المواقف وضبابيّة التوجّهات.
صحيح أنَّ هذا التوجّه يحقّق مكاسب اقتصادية آنية، لكنه يظل هشاً ومتذبذباً بهشاشة نواته الصلبة وافتقاده إلى السيادة والرؤية، ولا تنعكس حسناته على النسيج الاجتماعي المحلي. ورغم أنَّ رواده يعتبرون أنفسهم حلفاء الكبار ممن يحددون ميدان اللعبة وقواعدها، غير أنهم يظلون ضحايا أوهام وأضغاث أحلام.