مستقبل الاقتصاد العالميّ في ظلِّ وباء كورونا
أدَّت جائحة "كوفيد - 19" في العالم إلى مواجهة أزمة مالية جديدة ذات وقع أكبر من الأزمة المالية للعام 2008.
لا شكّ في أنّ مواجهة تفشي وباء كورونا تمثّل أحد التحدّيات الفريدة للاقتصاد، ذلك أنّ من الصّعب تحديد الأثر الجانح له، بسبب اختلاف البقعة التي ينتشر فيها في أرجاء العالم كافّة، والفترة الزمنيّة التي لا يمكن التنبّؤ بها، وصعوبة التنبؤ بانتهائها، إذ إنه واسع الانتشار، ولا يهدّد منطقة جغرافية محدودة، ولكن العالم بأكمله.
وإذا ما انتشر في منطقة معيّنة، فإنه سينتشر في كل المناطق، وستكون هناك صعوبة في تجنّبه، وبالتالي سيحدث شللاً تاماً في جميع مرافق الدولة، وسيؤثر في معدّل النموّ في الناتج المحلي ومعدّل التضخّم ومعدّل البطالة.
تداعيات أزمة فيروس كورونا على المؤشرات الاقتصادية العالمية
أدَّت جائحة "كوفيد - 19" في العالم إلى مواجهة أزمة مالية جديدة ذات وقع أكبر من الأزمة المالية للعام 2008، فقد أدخلت الاقتصاد العالميّ في حالة من الركود الشديد، ذلك أن الانتشار السَّريع لفيروس كورونا مثّل ضربة موجعة للاقتصاد العالمي الذي كان قد بدأ يشهد حالة من الانتعاش والتعافي الطفيفة من الأزمة المالية السابقة، حيث إن هذه الأزمة ستضفي زخماً على بعض التغييرات التي طرأت في الاقتصاد العالمي. وتعتمد الأضرار على مدى سرعة الحكومات وفعالية سياستها لاحتواء العدوى.
أشارت منظَّمة "الأونكتاد" إلى حدوث تباطؤ في معدل نمو الاقتصاد العالمي إلى أكثر من 2% لهذا العام، الأمر الذي قد يكلّف الاقتصاد العالمي نحو تريليون دولار، خلافاً لما كان متوقعاً في أيلول/سبتمبر 2019، أي أن العالم على عتبة ركود اقتصادي عالمي شديد.
إنّ معظم التوقعات الاقتصادية للعام 2020 كانت تتنبّأ بسنة من النموّ الثابت، إن لم يكن نمواً متزايداً، فقد شهد تحديث توقعات صندوق النقد الدولي لشهر كانون الثاني/يناير ارتفاعاً في النمو من 2.9 في المائة في العام 2019 إلى 3.3 في المائة في العام 2020. وكانت هناك أسباب كثيرة للتفاؤل، منها اتفاقية التجارة "المرحلة الأولى" بين الصين والولايات المتحدة، وخفض تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وجاء تفشّي الفيروس التاجي صدمة كبيرة للاقتصاد العالمي، فقد خفضت منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخراً توقعاتها لنمو العام 2020 إلى النصف من 2.9% إلى 1.5%. وأشار صندوق النقد الدولي إلى أنه سيصدر تعديلاً كبيراً قريباً، ولكن هذه الجولة الأولى من المراجعات، ربما كانت أيضاً متفائلة للغاية، لأنها أدرجت الافتراض المنتشر على نطاق واسع بأنّ الركود في الربع الأول سيتمّ تعويضه على الفور في الربع الثاني، مع احتمال أن يكون النمو سلبياً في الربع الأول من العام 2020.
وباء كورونا والركود الاقتصادي
إن الوتيرة المتسارعة لانتشار فيروس كورونا دفع الأفراد إلى أن يمكثوا في منازلهم، لمنع انتشار العدوى بينهم، وبالتالي انتقالها إلى باقي الدول. هذا الأمر أدى إلى تراجع الاستهلاك بشكل ملحوظ، كما أن قطاع الخدمات - مثل السياحة والمطاعم، إلى جانب المصانع الصغرى - تضرر، وبشدة، إضافة إلى انخفاض أسعار الأصول، وضعف الطلب الكلي، وتزايد أزمة الديون، وتفاقم فجوة توزيع الدخل، الأمر الذي أدى إلى فقدان ثقة المستهلك والمستثمر، والذي يعتبر من أكثر النتائج المباشرة لانتشار الفيروس، وبالتالي الدخول في دوامة من التراجع، إلى جانب انهيار سعر النفط، الّذي أصبح العامل المساهم في الشعور بالقلق. ولهذا السّبب، من الصعب التنبؤ بحركة الأسواق، الأمر الذي يجعل من الوضع العالمي أكثر سوءاً، وينذر بموجة من الركود الشديد.
لا شكّ في أنّ أكثر الدول تضرراً هي الدول المصدّرة للنفط، وكذلك الدول المصدّرة للسلع. هذه الدول ستخسر أكثر من 1% من نموّها، إضافةً إلى تلك التي تربطها علاقات اقتصادية قوية مع الدول التي ستتأثر كثيراً بالصدمة الاقتصادية، وستشهد دول، مثل كندا والمكسيك وأميركا الوسطى، ودول شرق آسيا وجنوبها والاتحاد الأوروبي، تباطؤاً في النمو يتراوح بين 0.7% و0.9%. كما أن الدول التي تربطها علاقات مالية قوية بالصين، ربما سيكون اقتصادها أكثر عرضة للتأثر بأزمة كورونا.
الأسواق المالية أثناء الوباء
إنّ انتشار أزمة فيروس كورونا كان له أثر حاد في الأسواق المالية، إذ تدهورت قيمة الائتمان على الصعيد العالمي، كما أنَّ هذه التطوّرات ضاعفت خطر ضغوط الشركات الكبيرة، إذا ازدادت معدلات المخاطر إلى مستويات مرتفعة، وتم تصنيف سندات العديد من الشركات المدرجة إلى BBB.
كما أنَّ انتشار الفيروس سيؤثر سلباً في تدفّقات الاستثمار الأجنبي. ومع سيناريوهات انتشار الوباء التي تتراوح بين الاستقرار على المدى القصير والاستمرار على مدار العام، فإن الضغط السلبي على الاستثمار الأجنبي المباشر سيكون -5% إلى -15% (مقارنة بالتوقعات السابقة التي تتوقّع نمواً هامشياً في اتجاه الاستثمار الأجنبي المباشر للفترة 2020-2021)، وسيكون التأثير سلبيّاً جداً في الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان الأكثر تضرراً من الوباء، وبالتالي التأثير في آفاق الاستثمار في هذه البلدان.
على صعيد الدّول العربيّة، سوف يتراجع الطلب العالمي المحتمل بما لا يقل عن 50 في المائة، بما يشمل كلاً من الدول العربية المصدرة للنفط والمستوردة له، والذي سوف ينعكس على مستويات الطلب الخارجي الّذي يعدّ مسؤولاً عن توليد 48 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم التراجع المحتمل للصادرات النفطية وغير النفطية. وعلى وجه الخصوص، سوف تتأثر الاقتصاديات العربية بتباطؤ الطلب لدى عدد من شركائها التجاريين، إذ تعتبر الدول المتأثرة بالفيروس حالياً من أهم الشركاء التجاريين للدول العربية، لكونها تستوعب 65 في المائة من الصادرات العربية.
إنّ استمرار انتشار الفيروس سيعمل على تضرر قطاعات عديدة في الدول العربية، من أهمها قطاعات الخدمات الإنتاجية، وعلى رأسها قطاعات السياحة والنقل والتجارة الداخلية والخارجية، كما سيكون له تأثير في بعض القطاعات الأخرى، مثل الصناعة التحويلية.
وتتأثر الدول المصدّرة للنفط بتطورات الأسواق العالمية للنفط، التي تشهد تراجعاً في مستويات نمو الطلب عليه، نتيجة تأثّر نشاط عدد من القطاعات الاقتصاديّة المستخدمة للوقود بتداعيات انتشار الفيروس، وبظروف فرض حظر على انتقال الأفراد داخل الحدود وخارجها، في ظلّ أسواق تسيطر عليها زيادة كميات المعروض النفطي، وهو ما سينتج منه في المجمل انخفاض متوقع في الأسعار العالمية للنفط في العام 2020، وهو ما قد يؤثر كذلك في قطاع الصناعات الاستخراجية. وفي المحصّلة، الدخول في حالة من الركود الشديد.