عقدة "غرب آسيا الجديدة" في صناعة البديل العالمي من الصين!
تقدير الولايات المتحدة هو إذا كانت الحرب مستمرة فيجب أن تكون آخر الحروب، مهما بلغت الخسائر، لأن "غرب آسيا الجديد" هو بوابة واشنطن لتجديد هيمنتها العالمية.
ساهمت جائحة كوفيد 19 في تغيير التفكير الاستراتيجي في إدارة الأزمات العالمية، فانقطاع سلاسل التوريد حينها هدد الاقتصاد العالمي بأزمة معقدة، وسبب بلبلة في الاقتصاديات المتشابكة. بدا ذلك الأثر لاحقاً في صناعة الاستراتيجية الأميركية في مواجهة الصين، فتنوع سلاسل التوريد بات شرطاً قبيل مواجهة حاسمة معها، فبدأت الولايات المتحدة العمل على صناعة موازن عالمي للصين يمثل خياراً اقتصادياً وتنموياً بديلاً منها بالنسبة إلى الدول النامية والمتقدمة في آن، بدلاً من الانخراط في مشروع الصين العالمي (الحزام والطريق).
هذا البديل يحقق للولايات المتحدة شرطين: الكفاءة الاقتصادية والثقل التنموي، ويحقق نتيجة مهمة، هي استدامة سلاسل التوريد والحؤول دون الوقوع في أزمة اقتصادية عالمية ستضر بأميركا كما الصين.
في تشرين الأول 2021، كشفت إدارة بايدن عن استراتيجية دفاعية جديدة وصفت الصين بأنها أكبر خطر على الأمن القومي الأميركي، وحذرت من أن بكين تحاول تقويض التحالفات الأميركية وتشكل تهديداً للولايات المتحدة.
ومنذ ذلك الحين، بدأت الولايات المتحدة احتواء الصين بشكل شامل من خلال التحالفات العسكرية، كتحالفي أوكوس وغواد، وهو الاحتواء الصلب، إضافة إلى استهداف قطاع التكنولوجيا الفائقة الصينية بهدف كبح جماح تطوره وإرجاعه سنوات إلى الوراء، وهو الاحتواء التقني للصين ضمن استراتيجية "7 أكتوبر الأميركية 2022".
وفي الوقت نفسه، بدأت بالعمل على صناعة البديل العالمي لمشروع الحزام والطريق الصيني (BRI)، والذي يستند إلى فكرة إحياء طريق الحرير في القرن التاسع عشر من أجل ربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية.
وفي مواجهة ذلك، طرحت الولايات المتحدة "مبادرة بديلة" تحت مسمى "B3W أو إعادة بناء عالم أفضل"، تم إطلاقها في حزيران 2021 في اجتماع مجموعة السبع الكبار في كورونال، وتحديداً خليج كاربيس في إنكلترا، وهي مصممة لمواجهة النفوذ الاستراتيجي للصين من خلال توفير بديل لمبادرة الحزام والطريق لتطوير البنية التحتية للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بقيادة الولايات المتحدة، إذ ستعمل دول مجموعة السبع على دعم البنية التحتية (للعالم النامي) بتكلفة إجمالية تبلغ قيمتها 40 تريليون دولار بحلول عام 2035.
هدف هذه الاستراتيجية هو توفير بدائل للدول النامية من الخيار الصيني، بعد أن تقوم بدعاية مضادة لمقاصده وأهدافه وتصوره كاستراتيجية هيمنة ونفوذ من خلال "دبلوماسية القروض الصينية" التي تهدف إلى إغراق الدول النامية بمشاريع كبيرة عبر القروض الصينية التي ستعجز عن سدادها لاحقاً.
في العام التالي، وتحديداً في حزيران 2022، في قمة مجموعة الدول السبع الـ48 في "قصر إلماو- Elmau" جنوبي مقاطعة بافاريا في ألمانيا، اتخذ قرار خلق الموازن والبديل العالمي من الصين، وهي الهند، فبعد استعراض التقدم الذي أحرزته شراكة مجموعة السبع في البنية التحتية والاستثمار، والتي تهدف إلى تعبئة 600 مليار دولار أميركي لتضييق فجوة الاستثمار العالمية في مواجهة طريق الحرير الصيني، اتخذ القرار بالشراكة مع الهند ضمن استراتيجية "B3W عالم أفضل الأميركية".
وفي العام الذي يليه 2023 وفي قمة العشرين التي انعقدت في نيودلهي، أعلنت الهند (10 أيلول 2023) إنشاء "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا IMEC" كجزء من مبادرة "عالم أفضل"، وبرعاية غربية للمشروع.
يحمل الممر إمكانات كبيرة لتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول المشاركة، ويهدف هذا المشروع الطموح إلى إنشاء طريق تجاري يربط بين الهند والإمارات العربية والمملكة السعودية والأردن والكيان الإسرائيلي وصولاً إلى أوروبا، بديلاً من الحزام والطريق والصينية، من شأنه أن يقلل تكاليف التجارة، ويعزز الوصول إلى الأسواق العالمية، ويشجع الاستثمار بين الدول المشاركة، بما يعزز الاتصال الإقليمي. والأهم من ذلك أن إنشاء هذا الممر قد يكون بمنزلة حافز لزيادة التعاون الدبلوماسي والأمني والاستقرار الجيوسياسي بين الدول المشاركة.
إضافة إلى ذلك، فإن المصلحة الاقتصادية المشتركة ستخلق سبلاً لعلاقات دبلوماسية وأمنية أقوى، وبالتالي يكون الممر الهندي الأوربي استجابة أميركية لدخول الخليج العربي في علاقات وثيقة مع الصين بعد محاولة دول الخليج إيجاد شريك أمني بعيداً من تذبذب العلاقة مع واشنطن.
من جهة أخرى، يخلق هذا المشروع فرصاً استثمارية لدول الخليج بعيداً عن استثمارات طريق الحرير، ويبعد دول الخليج عن الصين ومشروعها العالمي، ولا سيما بعد رعاية الصين لاتفاق التحوط السعودي الإيراني. طبعاً، آنذاك تغيب الرئيسان الروسي والصيني عن القمة، تعبيراً عن شكوكهما في المشروع الهندي.
ما زال المشروع مجرد اقتراح، ولكنه وارد ومحتمل. وبمقارنة حجم التجارة بين الهند والصين مع أوروبا، من غير المتوقع المنافسة الآنية، إذ يتجاوز حجم التجارة الثنائية الصينية -الأوروبية 850 مليار دولار في العام 2022، مقارنة مع الهند التي لا يتجاوز حجم تجارتها مع أوروبا 90 مليار دولار، ولكن الهدف الأساس من المشروع والاستثمار فيه هو توفير بديل تنموي للدول على طريق الممر الهندي بعيداً من جاذبية الاستثمارات الصينية، وخلق بديل لأوروبا بعيداً من سلاسل التوريد الصينية، وبالتالي الممر الهندي ليس مشروعاً صدامياً مع الصين، بل مجرد خلق مسار بديل وموازٍ للصين في التجارة والاستثمار الدولي، يخلق فرصاً وحوافز للدول للابتعاد عنها لمصلحة شراكة مجموعتي السبع والعشرين.
هذا الممر ليس مجرد منافسة اقتصادية بين الغرب والشرق، بل هو مرتبط بمحاولة الولايات المتحدة تجديد هيمنتها على النظام الدولي، والمرتبط حكماً بقدرة الولايات المتحدة على خلق موازن عالمي وبديل عن الصين.
هذا الأمر يحتاج راهناً إلى إحكام الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط لتأمين طريق الهند إلى أوروبا وإبعاد تركيا عن الصين. وبمجمله، سيجعل ذلك الكيان الإسرائيلي "طبيعياً" في غرب آسيا الجديد، مع الإشارة إلى أن مسألة تأمين ممر الهند إلى أوروبا وإبعاد تركيا عن الصين هما في سياق واحد، فتركيا هي عقدة جيوسياسة مهمة في مشروع "الممر الأوسط" الصيني الذي بلغ مرحلة متقدمة في البنية التحتية، ومن الصعوبة بمكان إقناع تركيا بالتخلي عن هذا المشروع من دون مشروع بديل وموازٍ يستثمر البنية التحتية التركية التي بنيت على أساس التجارة البرية.
لذلك، أتى مشروع الربط السككي بين العراق وتركيا (مشروع طريق التنمية) المعلن عنه عام 2023 ليتم دمجه لاحقاً بمشروع الممر الهندي إلى أوروبا، من دون أن يعني ذلك أن تركيا ستتخلى عن الممر الأوسط، ولكن سيبقى طريقاً تجارياً من دون تبعات أمنية وسياسية واستراتيجية على تركيا لمصلحة الصين.
ومع دخول مشروع تشبيك الممر الهندي بممر التنمية التركي مرحلة متقدمة مع استثمارات خليجية كبرى في الاقتصاد التركي تقدر بـ25 مليار دولار، يبقى لنجاح المشروع الأميركي عقدة واحدة، هي تأمين الممر الهندي (أمنياً) في كل من العراق وفلسطين. واليوم، تثار هواجس مشابهة في الأردن، وهو ما أتاح لحكومة إردوغان فرصة طرح عمل عسكري في شمال العراق بصمت أميركي.
أما بشأن طوفان الأقصى، فتقدير الولايات المتحدة هو إذا كانت الحرب مستمرة فيجب أن تكون آخر الحروب، مهما بلغت الخسائر، لأن "غرب آسيا الجديد" هو بوابة واشنطن لتجديد هيمنتها العالمية، من دون الدخول بمواجهة عسكرية مباشرة مع الصين، فمشروع الهند العالمية متزعمة "الجنوب العالمي" و"عدم الانحياز الجديد" بديلاً من الصين لا بد من أن يمر عبر غرب آسيا الجديد، ليتم تكامل مجموعة السبع مع مجموعة العشرين مع تكتل الجنوب العالمي، وعزل الصين وروسيا وحلفائهما عن النظام الاقتصادي الغربي (الليبرالي).
انطلاقاً مما تقدم، فـإن العراق والأردن سيكونان على موعد مع استحقاقات أمنية وسياسية معقدة في مشروع أكبر من صراعات الإقليم التقليدية. إنه صراع الهيمنة العالمية عبر غرب آسيا جديد، بانتظار استجابة الصين للتهديد الذي ينتظرها عبر سياسات تحدٍ في "الشرق الأوسط" تعرقل غرب آسيا الجديد على الأقل بطروحاته الغربية.