الجزائر: من يعرف معنى الرفات يعرف معنى الذاكرة وطعم الكرامة
إنَّ الشّعوب الَّتي تمتلك ذاكرة مبنيَّة على أساس تمجيد الكرامة هي شعوب حيَّة تنسج سردياتها الكبرى في الزمن والوعي، وتعرف طريقها بيقظة نحو حقّها.
كان المشهد الجزائري الأخير باستعادة رفات أبطال وطنيين كانت فرنسا "الحرة جداً" تحتجزهم، كانتقام رمزي ومادي منذ 170 عاماً، لأنهم قاوموا استعمارها لبلادهم، فارتقوا شهداء، هو أحدث مشاهد الجزائر في الكرامة الوطنية، وفي تمجيد الذاكرة وتحويلها إلى خطاب عظيم، يمتدّ في روح الناس ووعيهم، ويسري في كلّ الأزمنة: من... إلى.
الجزائر التي عرفت في تاريخها الحديث واحدةً من أعتى وأقسى تجارب الاستعمار والاستباحة وإبادة الطابع والهُوية على يد فرنسا الحرة لمدة 130 عاماً، هي التي قاومت ذلك بعنفوان متواصل لمدة 130 عاماً وأكثر، حتى أعادت فرنسا إلى نفسها مكلّلة بالهزيمة، وشرعت بعد ذلك في تصفية الحساب معها رمزياً وسياسياً بوعي ووجدان متّقدين، مبنيين على مفهوم جزائري عميق وعتيد لمعنى الكرامة الوطنية.
ليس هناك من واصَل تصفية الحساب التاريخي مع المستعمر مثلما فعل الجزائريون. ولذلك، تظل حركة مقاومتهم للاستعمار من العلامات الفارقة في التاريخ الإنساني الساعي إلى التحرر والانعتاق.
إن مفهم "النيف" في الوعي الجمعي والفردي الجزائري كتعبير عن الكرامة، هو من أعمق المفاهيم التي توجد لدى الجماعات. وفي أصل الحرب الفرنسية على الجزائر، كانت الكرامة منذ البداية عنصراً أساسياً فيها، منذ حادثة "الداي" حاكم الجزائر مع القنصل الفرنسي في ذلك الوقت.
والجزائر، كبلد وأفراد، من أكثر الدول والجماعات استعداداً لخوض المعارك فوراً مع كائن من كان من أجل الكرامة. حرب تخوضها الجزائر مع دول، ويخوضها الجزائريون في الشوارع العامة، عندما يتعلَّق الأمر بمعنى الجزائر، فما بالك إذا كانت كرامتها متعلقة بجثامين شهداء عظام قضوا وهم يكتبون بأرواحهم فصلاً من فصول معركة الإباء!
إنَّ الشّعوب الَّتي تمتلك ذاكرة مبنيَّة على أساس تمجيد الكرامة هي شعوب حيَّة تنسج سردياتها الكبرى في الزمن والوعي، وتعرف طريقها بيقظة نحو حقّها.
الجزائر لا تودع ذاكرتها في المقابر والمتاحف، وأيام إحياء الذكرى ليست إلا شاهداً على أنها أودعتهم هناك: في أعماق النفوس، وفي أعالي الوعي، وفي صميم الوجدان المتّقد.
يا جزائر، أيتها العالية العاتية، من دواعي سعادتنا وكرامتنا أن نعيش في زمن وعالم نجدك فيه ذخراً وسنداً وتعويضاً ومانحاً لشيء ثمين هو الكرامة.