التاريخ السياسي والطائفي الحديث للجمهورية اللبنانية
أمام الرفض الشعبي للممارسات التي اتّبعتها الدولة اللبنانية سابقاً، هل ستتمكّن حكومتها الجديدة من الاتجاه نحو بناء دولة مدنية شاملة غير طائفية أو مذهبية؟
منذ أن نشأ لبنان وهو يعاني من أزماتٍ سياسية سببها عدم التوازن بين نظامه السياسي والمجتمع المكوّن له، فمن المعروف أن النظام السياسي يعكس ظروف المجتمع وأوضاعه، بما فيه من تناقضاتٍ طبقيةٍ وعرقيةٍ وحتى لغوية، ومن تباينات أو ولاءات إقليمية أو دولية، أو تدخّلات خارجية.
ولكي يكون المجتمع مستقرّاً، لا بدّ من أن يعكس النظام السياسي مصالحه وأهدافه والقيم الثقافية والاجتماعية الموجودة فيه، وأن يكون قادراً على ربطه بعضه ببعض، وأن تكون النخبة السياسية مرآة للقوى الاجتماعية، مهما تعدّدت، بحيث تشعر كل قوة بأن النخبة السياسية تمثل امتداداً لها. وعندما تعجز مؤسّسات الدولة عن تحقيق ذلك، تصبح الدولة أمام أزمة ناتجة من عدم وجود استقرارٍ سياسي واجتماعي.
خلال فترة الاحتلال العثماني، تصاعدت المصالح والأطماع الأوروبية في المنطقة، وخصوصاً من قبل فرنسا، واستمرت كل طائفة دينية أو مذهبية في العيش بمعزلٍ عن الأخرى، فلم تكن الزعامات الطائفية قادرة على التفاهم في ما بينها، لتعدّد اتجاهاتها وتعصّبها ورسوخها، مع استمرار تدخّل الدول الأجنبية في الشؤون الداخلية للبنان.
ويعتبر نظام 1861 و1864 (متصرّفية لبنان، وقد أقرّ بعد الفتنة الطائفية الكبرى للعام 1860) المفتاح الرئيسي لأحداث لبنان وتطوراتها المستقبلية إلى يومنا هذا.
ازدادت الإقليمية الضيّقة في القرن الماضي بسبب اتّساع الفجوة بين القومية اللبنانية والقومية العربية، فالقوميون اللبنانيون، ومعظمهم من المسيحيين، أعلنوا رفضهم الانضمام إلى أية دولة عربية كبرى قد يتمّ تكوينها (ثورة الشريف حسين 1916 للاستقلال عن الحكم العثماني وتأسيس الدولة العربية)، فتوجّهوا إلى فرنسا، طالبين مساعدتها في استقلال لبنان، وتمّ تشكيل لجان (ذات ميول فرنسية يغلب عليها العنصر الماروني) من المغتربين اللبنانيين والسوريين المسيحيين، تهدف إلى إقناع الحلفاء بمقاومة الدعوة إلى الوحدة العربية.
ورغم ذلك، وجدت نزعات تطالب بالتحرّر من كل ما هو غير عربي، مثل نجيب عازوري، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، ويعقوب صروف، وفارس نمر، فكما وجدت تيّارات داخلية، وخصوصاً بين الموارنة، شجّعت الفرنسيين على إقامة الكيان اللبناني الكبير، وجدت أيضاً تيّارات داخلية أخرى عارضت وجود هذا الكيان، وبقيت متطلّعة إلى البقاء في سوريا.
إن الطائفية في لبنان لا تكرّسها المسألة الدينية فقط، ولكن تكرّسها الحقيقة الاجتماعية والاقتصادية فيه. وهكذا، فالتنشئة السياسية الطائفية تكرّسها الأسرة بين أولادها، ثم المدرسة بين طلابها، ثم الوظيفة أو المؤسّسة بين العاملين فيها، ثم الأعياد والاحتفالات الخاصة.
وبقيت الأسر الإقطاعية تحتفظ بمراكزها القيادية، وتحتكر المناصب العليا في الدولة والبرلمان، وبدأ أصحاب الثروات الجديدة بالسيطرة على الخط السياسي والاقتصادي، ليظهر تأثيرهم في ستينيات القرن الماضي، ويسيطروا على المشروعات الحيوية التي كانت سلطات الانتداب تحتكرها.
ونتيجة لعدم تغيّر العلاقة بين الطوائف المختلفة في لبنان، حدث اتفاق عرفي غير مكتوب قبل انتقال السلطة الفعلية إلى اللبنانيين، أوجد صيغة توافقية بين الجميع، من دون أن يعني ذلك وجود موقف موحّد تجاه قضايا لبنان بعد الاستقلال. وتمّ بناء الاتفاق على فكرة التوافق الوطني، وليس على أساس إلغاء الطائفية.
تردّت أوضاع البلاد عاماً بعد عام، من خلال سلسلة أزمات نشأت مع العهد الأول للاستقلال، وتفاقمت بسبب الخلل في النظام الدستوري، حتى أصبحت أزمة نظام ينتهج الليبرالية الوهمية تجاه المجتمع والاقتصاد، وتحوّل إلى سيطرةٍ من قبل بعض أصحاب النفوذ والأثرياء.
ومع تتابع الأزمات الداخلية، ونتيجة لتفاعلات وتناقضات سياسية، إضافةً إلى الوجود الفلسطيني المسلّح، وتبعيّة كثير من الأحزاب وارتباطها بالخارج، سواء الإقليمي أو الدولي، ووضع قوانين الأحوال الشخصية، ومخالفات بالجملة للقوانين والدستور، انفجرت أزمة خطيرة ضدّ صيغة التعايش أو التوازن الطائفي التي عجزت عن تحقيق الكيان الوطني القادر على تحقيق الأماني الوطنية، وتطلّعات الشعب، واستيعاب الصراعات السياسية على الوطن، فتحوّلت الأزمة إلى حربٍ أهليةٍ عنيفةٍ بدأت في نيسان/أبريل عام 1975، وأدّت إلى تدخّلات خارجية عربية مارست جميعها نفوذها على الأحزاب السياسية في لبنان، والتي تميّزت بالتعدّد والكثرة وغلبة الطابع الفردي الشخصي على قياداتها.
ولفهم الأزمات اللبنانية السابقة والحالية، وما أدّت إليه من حروبٍ أهليةٍ، لا بدّ من أن ندرك أن الطائفية في لبنان لا يمكن أن تعني أيّ مفهوم آخر سوى انقسام المواطنين إلى طائفتين (أساسيتين)، هما الإسلام والمسيحية، وانقسام كل من هاتين الطائفتين إلى عدّة طوائف تبلغ 17 طائفة. وتكمن المشكلة في شعور الفرد بالانتماء إلى طائفةٍ تسيّسه، فيصبح الانتماء إلى الطائفة أساس التعامل بين الأفراد.
وفي مطلع الستينيات من القرن الماضي، شهد لبنان تغييرات جديدة سياسية وطائفية، بسبب الانهيار الاقتصادي، والتطوّرات السياسية التي لها علاقة بالصراع العربي- الإسرائيلي، والمقاومة الفلسطينية، ونشوء عدد من الحركات الدينية والعسكرية، مع بروز الحركة الوطنية اللبنانية والقوى التقدّمية التي أكّدت مفهوم المواطنة على حساب الولاء الطائفي، وازدهار الاتجاهات الفكرية اليسارية، فنشأت بذلك الحرب الأهلية اللبنانية من العام 1975 إلى العام 1990، وأسفرت عن مقتل ما يقارب 120 ألف شخص، وتشريد عشرات الآلاف، ونزوح أكثر من مليون مواطن لبناني.
اتفاق الطائف هو الاسم الذي تعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وتمّ إقراره بقانون بتاريخ 22/10/1989، منهياً الحرب الأهلية في لبنان.
تناول الاتفاق الإصلاح السياسي، وإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وإقامة علاقات خاصة بين لبنان وسوريا، ووضع إطار لبداية الانسحاب السوري الكامل من لبنان، وساهم في إعادة توجيه لبنان نحو العالم العربي.
وشكّلت الاتفاقية مبدأ "التعايش المشترك" بين الطوائف اللبنانية المختلفة وتمثيلها السياسي السليم، كهدفٍ رئيسي للقوانين الانتخابية البرلمانية في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كما أعادت هيكلة النظام السياسي للميثاق الوطني في لبنان.
وقد حدّد الاتفاق مجموعة من المبادئ الأساسية للسياسة الإنمائية والتوجّه الاقتصادي العام في إقامة دولة المؤسّسات وفق المبادئ العامة التالية: اعتماد النظام الاقتصادي الحر بما يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة، واعتماد الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، والعمل على تحقيق عدالة شاملة من خلال الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي، وإنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي للدولة في فترة ما بعد الطائف.
ومع اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، غابت المرجعية داخل لبنان، بعد أن حظي اتفاق الطائف بشرعية دولية ومتابعة إقليمية، لم يعد أحد يلتفت إلى حلّ الخلافات المترتّبة بشأن تفسير العديد من المواد الدستورية التي أضيفت إليه، كآلية تشكيل الحكومات، وفرض مفاهيم جديدة، مثل الثلث المعطّل أو الرئيس القوي وحقوق المكوّنات... وغيرها من المفاهيم المستحدثة من قبل السلطة لحماية وجودها، والالتفاف على اتفاق الطائف الذي أسقط النموذج الاقتصادي المالي اللبناني الذي كان سائداً قبل الحرب، والقائم على المبادرة الفردية واقتصاد السوق، فحلّ محلّه نموذج اقتصاد ريعي يقوم على نهب مقدّرات الدولة عبر المحاصصة الطائفية والمذهبية، واستبعاد البند المتعلّق بقانون الانتخاب النيابي، واعتماد المحافظة دائرة انتخابية من قبل الطبقة السياسية، خشية زوالها والإطاحة بها، واستبدال ممثّلين حقيقيين للبنانيين بها.
وبذلك، أسهم التطبيق "الناقص" لاتفاق الطائف في تعزيز مفهوم الانقسام بدل الوحدة الوطنية. وقد أدّى تدهور الوضع الاقتصادي إلى إفقار المواطن اللبناني وتفشّي البطالة، في الوقت الذي تضخّمت ثروات بعض الأشخاص المتنفعين على حسابه وحساب الدولة اللبنانية، وأصيبت السلطة التنفيذية والسياسة الاقتصادية بشللٍ كبيرٍ، عندما تحوّل النظام الطائفي من نظام الهيمنة إلى نظام المحاصصة، وجعل الفساد جزءاً من الحوكمة في النظام، فالتوزيع يتمّ على الأساس المذهبي في مفاصل الدولة ومؤسّساتها العامة، وهو ما عمّق إعادة التوزيع الطائفي الذي استبدل به التوزيع الطبقي.
يمرّ الاقتصاد اللبناني حالياً بحالٍ من الركود، حيث ينخفض معدّل نمو "الناتج المحلي الإجمالي" الحقيقي نحو الصفر في المائة، كما يستمر التضخّم في الارتفاع. ومن الأسباب المحتملة لهذا الارتفاع، التدابير الحمائية التي اتخذتها الحكومة بشأن السلع المستوردة ونقص العملات الأجنبية المتداولة، ما أدّى إلى نشوء سوق ثانية لليرة اللبنانية وخفضها الفعلي.
كما أن العجز المالي المتزايد باستمرار يمثل مشكلة أيضاً، فقد نما بنسبة 100 في المائة منذ العام 2014، ومن المرجّح أن يتجاوز 11 في المائة من "الناتج المحلي الإجمالي"، إضافة إلى انخفاض احتياطات لبنان من العملات الأجنبية المتاحة بسهولةٍ إلى أقل من 20 مليار دولار.
وستحتاج الحكومة إلى هذه الاحتياطات لتسديد ثمن السندات المقومة بالدولار، وتغطية سحب الأموال اللبنانية من المصارف، وإدارة الاحتياجات الأساسية من العملات. وإذا لم تعمد إلى إجراء تحسينات جذرية، فلن تدوم الاحتياطيات الحالية سوى 3 أو 4 أشهر أخرى، مع احتمال حدوث ركود.
إن ما جرى من احتجاجاتٍ شعبيةٍ قام بها جميع اللبنانيين، بمختلف مذاهبهم وانتماءاتهم السياسية والعقائدية، سببه فشل الحكومة في إيجاد الحلول اللازمة للوضع الاقتصادي القائم منذ عدّة سنوات، وعجزها عن قيامها بأعمالها، واستفحال سرقة المال العام، إضافة إلى وجود معضلة حكم وأحزاب ودستور وطائفية واقتصاد منهار، انعكست جميعها على المواطن، ليقاسي معها الفساد والاحتكار والمحسوبيات والفقر والتهميش وغياب العدالة والتعليم والوظيفة والطبابة، وغيرها من مقومات الحياة الطبيعية للإنسان، وهي كلها أنهكت المواطن اللبناني، فنزل إلى الشارع يعبّر عن نفسه، ويطالب بحقوقه المسروقة.
أمام الرفض الشعبي للممارسات التي اتّبعتها الدولة اللبنانية سابقاً، هل ستتمكّن حكومتها الجديدة من الاتجاه نحو بناء دولة مدنية شاملة غير طائفية أو مذهبية، وإجراء ما يلزم من تعديلات على اتفاق الطائف بما يتناسب وطموحات الشعب اللبناني، لتحقيق مطالب المحتجّين؟ فالخطاب الوطني في الحياة السياسية آخذ في التغيّر، وهناك شعور بأن الحرب الأهلية التي مزّقت لبنان منذ زمن بعيد قد وصلت الآن إلى نهايتها الفعلية، باعتبار أن الجيل الجديد من الناشطين والمؤيّدين السياسيين لم يترعرع مع خطاب ذلك الصراع، وهم يرفضون التوارث الطائفي.
ويدلّ على ذلك أن قسماً من المحتجّين تقدّم بمجموعةٍ موحّدةٍ من المطالب لفترةٍ انتقالية، من بينها إجراء انتخابات مبكرة وسن قانون انتخابي غير طائفي يمكّن الناخبين من اختيار رئيس جمهورية وبرلمان جديدين.
كان تشكيل حكومة جديدة مطلباً رئيسياً للبنان والمجتمع الدولي، وشرطاً ضرورياً أساسياً لأية مساعدة دولية، ولكن هذا لا يكفي! إذ تقع على الحكومة مسؤولية اتخاذ إجراءات سريعة لمحاربة الفساد وتعزيز الشفافية في بلد طالما عاش على الفساد والمحسوبيات السياسية، بعد أن تورّطت كل السلطة السياسية تقريباً في أزمة الفساد المتجذّرة التي تعاني منها البلاد، والتي تتخطّى الفجوة الطائفية، وسيكون ذلك بمثابة عبء ثقيل للغاية.
لقد تضافر لبنانيون من كل الطوائف والمناطق للمطالبة بإنهاء النظام الطائفي ومحاسبة السياسيين الفاسدين، وهذا ليس من قبيل الصدفة، فالعلاقة بين الزعماء الطائفيين في لبنان وأزمة الفساد الحادّة في البلاد قوية للغاية، لأنهم يستخدمون المحسوبية، ويستغلّون مؤسّسات الدولة لتعزيز هيمنتهم على دوائرهم الانتخابية، فقد تورّط هؤلاء الزعماء الطائفيون في لائحة طويلة من الصفقات والمعاملات الفاسدة التي استخدموها لبناء إمبراطورياتهم المالية، من خلال المساعي الحميدة لرجال الأعمال الفاسدين المتحالفين معهم سياسياً. ولا يحتاج المرء إلى النظر خارج قطاعات الكهرباء والغاز والقمامة في لبنان، ليرى كيف استنزف الفساد موارد الدولة، وأدّى إلى وقوع الأزمة الاقتصادية.
إن تلبية مطالب المحتجّين تهيّئ لخطواتٍ إصلاحية تنهي الفساد القائم على مستوى السلطة وإدارات الدولة، إلّا أنّ المطالبات بإسقاط النظام اللبناني غير واقعية ومبالغ فيها كثيراً.
وعلى الرغم من أن الوضع السياسي يبدو معقّداً جداً، فمن المهم جداً أن تكون الحكومة الجديدة التي تشكّلت برئاسة حسان دياب، والتي أكّد عدد من وزرائها أن بلادهم تواجه تحديات وظروفاً استثنائية عصيبة، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والأمني، قادرة على بذل أقصى جهد من أجل استعادة الاستقرار وضبط الأوضاع، لكي تبعث على الثقة في أشخاصها وسياساتها، وتعيد ترتيب أوراقها من جديد بعيداً من الطائفية، فتحقّق العدالة والمساواة، وتتمكّن من محاسبة كل من تسبّب في أزمة لبنان، لتخلق ظروفاً معيشية ملائمة يستحقّها المواطن اللبناني، وتتمكّن من خلق جاذب جديد للاستثمارات ولتدفّق الأموال الخارجية.