فوضى دستورية في لبنان
لا يمكن للحكومة اللبنانية مجتمعة أن تأخذ حريتها، وبشكل مفتوح، بخصوص استلام صلاحيات رئيس الجمهورية، بل هي مقيدة بممارسة ما لها من صلاحيات بحدودها الضيقة فقط.
لا شكّ في أنّ في لبنان اليوم زحمة "اجتهادات" وآراء في ما يتعلق بملفي الاستحقاق الرئاسي وتأليف حكومة جديدة. أغلب هذه الآراء، رغم أنّها قد تصدر عن سياسيين وإعلاميين، لها طابعها القانوني والدستوري أو بالحد الأدنى تلامس مسائل في صلب اختصاص الدستوريين والقانونيين.
مع ذلك، ففي لبنان لا يتأخر البعض عن إطلاق المواقف، ولا يتهيّبون تناول مسائل حساسة ودقيقة وتحتاج إلى مختصين، وإن كان الجانب المقصود هنا هو الجانب الدستوري، إلا أنّ هذه الفوضى الحاصلة لا تقتصر على فترة أو مرحلة معينة، بل تشمل مختلف جوانب الحياة العامة في لبنان.
مثلاً، نجد هذه الفوضى الدستورية اليوم بما يتعلق بانتخاب الرئيس وتأليف الحكومة والبحث في صلاحياتها أو ترسيم الحدود ومدى قانونية ما جرى واعتبار أن هناك اتفاقية ستوقّع أم لا. وغداً، قد نرى هناك (من غير أهل الاختصاص) من يطلق المواقف المتعلقة بالاقتصاد وجدوى التنقيب عن النفط واستخراج الغاز، وفوائد ذلك على لبنان وماليته العامة وقطاعاته المختلفة.
وبالعودة إلى ما نحن عليه اليوم من فوضى دستورية تتعلق بمدة صلاحيات حكومة تصريف الأعمال الموجودة برئاسة نجيب ميقاتي في البقاء بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، فهناك من يقول إنّ هذه الحكومة ستكون غير قادرة على إدارة شؤون البلاد، ويذهب إلى الحدود القصوى في مواقفه بأنّها غير صالحة لاستلام صلاحيات رئيس الجمهورية.
هذا الفريق يدعو إلى تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات قبيل مغادرة الرئيس عون قصر بعبدا في ساعة انتهاء ولايته الدستورية، وأن مثل هذه الحكومة تكون صالحة لنيل صلاحيات الرئيس، ولو طالت فترة الشغور الرئاسي، علماً أنّ مثل هذه الحكومة ستصبح أيضاً حكومة تصريف أعمال بعد انتهاء ولاية عون، فيما هناك فريق آخر يقول بإمكانية بقاء حكومة تصريف الحالية برئاسة ميقاتي إلى حين انتخاب رئيس وتكليف مجلس النواب رئيساً جديداً تأليف الحكومة.
واللافت أنّ كلا الفريقين يتذرعان بعدم وضوح النصوص الدستورية، ويؤكّدان أنّ الدافع وراء مواقفهما هو المصلحة العامة، وليست الخاصة، إلا أنّ التدقيق جيداً في مواقف كلا الفريقين يدل على أنّ الدوافع السياسية المباشرة وغير المباشرة هي التي تشكل الدافع الحقيقي لهذه المواقف.
وما يغيب عن بال كلا الفريقين أنّ حكومة تصريف سواء الحالية أو الجديدة، وإن شُكّلت قبيل انتهاء ولاية الرئيس عون، هي حكومة تمارس صلاحياتها بالحد الأدنى، أي بالمعنى الضيق لتسيير الأمور وتصريف الأعمال، ولا يحق لها التوسع واعتبار نفسها حكومة طبيعية كاملة الصلاحيات.
ولا يمكن للحكومة مجتمعة أن تأخذ حريتها، وبشكل مفتوح، بخصوص استلام صلاحيات رئيس الجمهورية، بل هي مقيدة بممارسة ما لها من صلاحيات بحدودها الضيقة فقط. ولعل ما يفتح الباب على هذه "الاجتهادات" من قبل هذا الفريق أو ذاك (وكل فريق سياسي لديه من المنظرين القانونيين والدستوريين والإعلاميين ما يكفي) هو عدم وجود جهة مستقلة خاصة بتفسير الدستور في لبنان، كما هي الحال في الأنظمة الديمقراطية والدستورية الحديثة التي توجد جهة خاصة - محكمة أو مجلس (كالمجلس الدستوري) - من مهماتها تفسير الدساتير، كما يمكن للسلطة التشريعية تعديل النقص الذي قد يظهر بالتجربة ضمن الدستور كي لا تتكرر العقد المعرقلة للحياة الدستورية الطبيعية.
وبالتالي، على الجميع، بدلاً من التلهي بهذه الفوضى الدستورية ضمن الفوضى العارمة الموجودة في لبنان، الذهاب فوراً لوضع المسار الدستوري على سكّته الصحيحة والابتعاد عن المزايدات والنكايات السياسية وانتخاب رئيس للجمهورية، ومن ثمّ تشكيل حكومة حقيقية كاملة الصلاحيات لتنتظم المؤسسات العامة في لبنان.