كيف نواجه صنّاع التّفاهة في شبكات التواصل الاجتماعيّ؟
لا قيمة للمعرفة إن أُتخِمت بالمفاهيم المعقّدة، وصارت محصورة بالنخب وبعض المثقَّفين
أمام جمهورٍ من الراغبين في شراء خلاطات (blenders)، تقدَّمت فتاتان لعرض خلاطيهما. أدّت الأولى عرضاً مثالياً من دون أيّ خطأ أو شائبة. أما الأخرى، فقد نسيت، وبعفوية، غطاء الخلاط مفتوحاً أثناء تشغيله، ما جعل المسحوق يتطاير على وجهها بشكل مضحك.
حين سُئِلَ الجمهور: أيّ الفتاتين كانت مقنعةً أكثر؟ وقع الاختيار على الفتاة الثانية!
استنتج عالم النفس ريتشارد وايزمن، أنَّ الناس ينفرون من الشخصيات المثالية التي لا تخطئ، ويتعاطفون مع الشَّخصيات التي تشبههم؛ تلك التي ترتكب الهفوات وتعترف بها من دون أن تتصنَّع القوَّة المبالغ فيها، وخلص إلى أنَّنا إذا ما أردنا كسب ودِّ الناس، فعلينا أن نظهر نقاط ضعفنا، وأن لا نخفي أخطاءنا.
لطالما ظننّا أنَّ الشَّخصية المؤثرة هي شخصية أقرب إلى المثالية والكمال، ولكن تبيَّن أنَّ الشَّخصيات الأكثر تأثيراً هي الشخصيات الطبيعية التي تعبّر عن ذاتها براحة وتلقائيّة حقيقيّة، وهو ما يفسّر تزايد ظاهرة "الإنفلونسرز" في وسائل التواصل الاجتماعي، الَّذين يغرّدون أو ينشرون مقاطع الفيديو بشكل دائم وبسيط، ويعلّقون على كلِّ شاردةٍ وواردةٍ، من دون أن يمتلكوا معرفةً دقيقةً بماهية الأمور ومآلاتها، ونلاحظ أنَّ جمهورهم يتزايد ويتعاظم ليتحوَّلوا إلى نجوم، على الرغم من تكرار سقطاتهم.
ثمة من يعتبر أننا نعيش في عصر التفاهة والانحطاط الَّذي جعل من "الرويبضة" مشاهير ونجوماً، ولكن لماذا لا نرى الأمر بصورة أخرى؟
إنَّ "العوام" يبحثون عن شخصيات مؤثرة تتوافق معهم وتحاكيهم وتشابههم، وينفرون من الشخصيات النخبوية الفوقية المتعالية بعض الشيء. هم يستأنسون بأولئك الَّذين يستخدمون لغتهم البسيطة والعاميّة ويتقنون لهجتهم، ويهجرون الَّذين يبالغون في استخدام المفردات الفصيحة والعميقة.
صدق الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو بقوله: "إنَّ أدوات وسائل التواصل الاجتماعي تمنح حقّ الكلام لجيوش من الحمقى، ممن كانوا يتكلَّمون في الحانات فقط بعد تناول كأسٍ من النبيذ، من دون أن يتسبَّبوا بأيِّ ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فوراً. أما الآن، فلهم الحقّ في الكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنَّه غزو البلهاء".
إنَّ الاستسلام لسيطرة "البلهاء" في وسائل التواصل الاجتماعي سيزيد التفاهة في المجتمع، وخصوصاً أنهم الأكثر تأثيراً في العالم الافتراضي، بلحاظ أنَّ النسبة الكبرى من مستخدمي شبكات التواصل من جيل الألفية وما بعدها.
ولذلك، من الضَّروري عدم ترك السّاحة الافتراضية للمؤثرين السطحيين، والتصدّي لهم بالشّكل والأسلوب الذي يتلاءم مع تلك المنصّات، فما نفع علمٍ كبير نختزنه وفكر عظيم نمتلكه، إن لم نكن قادرين على تقديمه وإيصاله بالطريقة التي تفهمها أغلبية الناس والأجيال الشابة؟
لا قيمة للمعرفة إن أُتخِمت بالمفاهيم المعقّدة، وصارت محصورة بالنخب وبعض المثقَّفين. لذا، بات ضرورياً، حتى نضمن التراكم المعرفيّ، أن يخلع المثقّف رداء المثالية، ويتخلّى عن مفرداته الأكاديمية وأسلوبه الكلاسيكيّ، فيعيد صياغة أفكاره في وسائل التواصل بأسلوب مرنٍ وسلسٍ يتيح للمتابعين، على اختلاف شرائحهم، فهمه من دون إجهاد.
هذه الفكرة تتقاطع مع قول العالم ألبرت أينشتاين: "إذا لم تتمكَّن من تفسير شيءٍ ما بشكل بسيط، فإنك لم تفهم ذلك الشيء بشكل تام"، فاختصار المحتوى وصياغته بما يتلاءم مع صغار السنّ لا يعني تسطيح الفكرة والمفهوم.