مشهد ما بعد الانتخابات العراقيّة.. توافقات من بغداد إلى الحنّانة!
من الطبيعي جداً أن تقابل النتائج النهائية للانتخابات العراقية بهذه الصيغة بردود أفعال رافضة أو غاضبة من قبل الأطراف المعترضة، وبالتحديد تحالف "الفتح".
لم يأتِ الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة التي جرت في 10 تشرين الأول/أكتوبر الماضي بأي مفاجآت غير متوقعة، بحيث إنها لم تكن إلا إعادة وتكراراً وتأكيداً للنتائج الأولية التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بعد أيام قليلة على إجرائها.
وفق النتائج النهائية المعلنة، احتفظ التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدري بمركزه الأول بـ73 مقعداً، وجاء تحالف "تقدم" بزعامة رئيس البرلمان المنتهية ولايته محمد الحلبوسي ثانياً، بـ37 مقعداً، وحل ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ثالثاً، بـ33 مقعداً، فيما احتل المركز الرابع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، وأحرز 31 مقعداً، ثم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بـ18 مقعداً، وجاء بعده تحالف "الفتح" بإحرازه 17 مقعداً.
وأحرز تحالف "عزم" بزعامة رجل الأعمال خميس الخنجر 14 مقعداً، وحصلت حركة "امتداد" التشرينية على 9 مقاعد، وحصلت حركة التغيير الكردية على العدد نفسه، وحصدت حركة "إشراقة كانون" 6 مقاعد، وظفر تحالف "تصميم" بزعامة محافظة البصرة أسعد العيداني بـ5 مقاعد، وأحرز تحالف "العقد الوطني" بزعامة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض 4 مقاعد، وجمع المستقلون أكثر من 40 مقعداً، فيما توزعت بقية المقاعد على قوى وكيانات سياسية مختلفة قديمة وجديدة. ولعل الفرق بين النتائج الأولية والنتائج النهائية تمثل بـ5 مقاعد في أربيل ونينوى وكركوك، انتقلت إلى مرشحين من قوى وكيانات أخرى، في ضوء الطعون المقدمة إلى مفوضية الانتخابات.
ومن الطبيعي جداً أن تقابل النتائج النهائية بهذه الصيغة بردود أفعال رافضة أو غاضبة من قبل الأطراف المعترضة، وبالتحديد تحالف "الفتح"، مدعوماً بائتلاف دولة القانون وتحالف قوى الدولة الوطنية، وعدد من القوى والكيانات الأخرى الخاسرة، إذ جاءت موجة الرفض والاعتراض استمراراً للضغط والحراك السياسي والجماهيري الذي أطلقته هذه الأطراف بعد إعلان النتائج الأولية مباشرة.
وبينما لم تكن صورة مديات التصعيد واضحة قبل شهر ونصف الشهر، ولا سيما مع استمرار التظاهرات والاعتصامات الجماهيرية أمام عدد من بوابات المنطقة الخضراء، ومع الضخّ الإعلامي المتواصل ضد مفوضية الانتخابات، بدا الأمر مختلفاً إلى حد ما بعد إعلان النتائج النهائية، من خلال نبرة البيان الصادر عن الإطار التنسيقي للقوى الشيعية المعترضة على النتائج، ومن خلال ظهور بوادر لإنهاء التظاهرات والاعتصامات.
ومما جاء في بيان الإطار التنسيقي: "نجدد موقفنا الثابت المستند إلى الأدلة والوثائق بوجود تلاعب كبير في نتائج الاقتراع، ما يدعونا إلى رفض النتائج الحالية والاستمرار بالدعوى المقامة أمام المحكمة الاتحادية لإلغاء الانتخابات، فيما نأمل من المحكمة الابتعاد عن التأثيرات السياسية، والتعامل بموضوعية وحيادية، وإنصاف الجماهير العراقية، وحفظ أصواتها من الضياع"، أي أنَّ الرافضين والمعترضين ألقوا الكرة في ملعب المحكمة الاتحادية العليا، بعد أن حمّلوا مفوضية الانتخابات والهيئة القضائية المختصة بالنظر في الطعون مسؤولية الأخطاء الحاصلة وعدم معالجتها والتعاطي معها بمهنية وحيادية.
ومثلما لم ترغم الضغوطات السياسية والإعلامية والجماهيرية مفوضية الانتخابات على الإتيان بشيء جديد، فالمرجح أن المحكمة الاتحادية ستصادق على النتائج النهائية المرسلة إليها خلال وقت قصير، لأن مجمل الوضع السياسي العام لا يحتمل الذهاب إلى سيناريوهات وخيارات التأزيم، والسير في أنفاق مظلمة وغياهب مجهولة، إذ إن عدم التصديق لا يعني العودة إلى المربع الأول بقدر ما يعني فتح الباب لأسوأ الاحتمالات.
وإضافةً إلى لغة الهدوء والتوازن التي اتسم بها بيان الإطار التنسيقي، ومجمل تصريحات قادة القوى المشكلة له وبياناتها، وبعيداً عن بوادر إنهاء الاعتصامات والتظاهرات، فإنّ الحراك السياسي الذي أخذ منحى متسارعاً وواضحاً بزيارة زعيم التيار الصدري للعاصمة بغداد الأسبوع الماضي، واجتماعه مع قادة الإطار التنسيقي في منزل رئيس تحالف "الفتح" هادي العامري، ورغم أن ما صدر بخصوص الاجتماع عن كل من الإطار التنسيقي والتيار الصدري بدا متناقضاً ومختلفاً، فإنَّ مجرد إجراء اللقاء المباشر، وطرح مختلف القضايا والملفات والمواقف والاتجاهات بصراحة ومكاشفة، من شأنه أن يساهم في كسر الجليد بين الفرقاء والخصوم وإذابته، ويؤسس أرضية مناسبة للحوار البنّاء، الذي تحرك خطوة أخرى في منطقة الحنانة في مدينة النجف الأشرف، حيث مقر زعيم التيار الصدري، الذي من المفترض أن يكون قد استضاف هذه الأيام وفداً من الإطار برئاسة العامري، فضلاً عن الشروع بتشكيل لجان مشتركة لوضع البرنامج الحكومي، وتحديد الأولويات، وترسيخ الثوابت الوطنية، من قبيل إنهاء التواجد الأجنبي، والمحافظة على الحشد الشعبي، ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين.
ولعلَّ هناك جملة عوامل أفضت إلى حلحلة المواقف بين الطرفين، من بينها:
- إدراك كلٍّ منهما استحالة الذهاب بمفرده إلى المكونين السني والكردي في خيار تشكيل الحكومة المقبلة، نظراً إلى تقارب الأحجام من جانب، ومن جانب آخر، عدم استعداد قوى المكونات الأخرى للتعامل مع طرف معين من المكون الشيعي وإهمال طرف أو أطراف أخرى، وهو ما أفصحت عنه بكل وضوح شخصيات قيادية من الكرد والسنة.
- توسط جهات داخلية وخارجية للتقريب بين الإطار والتيار، باعتبار أن الانسداد السياسي الّذي راح البعض يتحدث عنه ويحذر منه، يرتبط وجوده أو عدم وجوده بمدى التوافق والتفاهم بين قوى المكون الشيعي، ولا سيما الكبيرة والمؤثرة منها.
وبحسب مصادر مطلعة، هناك جهود تبذل من أجل ترتيب لقاءات واجتماعات مباشرة بين زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر من جهة، وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي والأمين العام لحركة عصائب أهل الحق الشيخ قيس الخزعلي من جهة أخرى.
من الطبيعي أنَّ عقد مثل تلك اللقاءات يمكن أن يساهم في إخراج الأمور من عنق الزجاجة، والتركيز على نقاط الالتقاء، والابتعاد قدر الإمكان عن مواضع التقاطع والافتراق.
- فهم الطرفين وتفهّمهما، فضلاً عن مختلف الأطراف السياسية، أن بديل التوافق والتفاهم هو الفوضى والاضطراب وتهديد التعايش المجتمعي والسلم الأهلي، ولا سيَّما مع ضعف منظومات الدولة - الحكومة في مقابل قوة المنظومات السياسية والحزبية والمجتمعية غير الحكومية وسطوتها.
وفي ظلِّ التباين في التوجهات العامة، ربما يبدو الالتقاء عند منتصف الطريق أمراً صعباً إلى حد كبير، ففي حين يصرّ الصدر على الذهاب إلى خيار الأغلبية في تشكيل الحكومة مع وجود المعارضة، يرى فريق الإطار التنسيقي أن الخيار الأنجع والأفضل يتمثل بالتوافق.
وقد حرص الصدر على تأكيد خياره وتثبيته بعد انتهاء اجتماعه مع قيادات الإطار التنسيقي في وقت قصير جداً، عبر تغريدة قال فيها: "لا شرقية ولا غربية.. حكومة أغلبية وطنية"، واختزل مجمل أطروحاته التي حرص على تكرارها قبل الانتخابات وبعدها.
وقد انطوت تغريدته الأخيرة على عدة رسائل، بعضها موجه إلى الداخل، وبعضها الآخر موجه إلى الخارج، بيد أن أوساطاً في الإطار التنسيقي أو قريبة منه، ذهبت إلى أن مفهوم الأغلبية الوطنية للسيد الصدر، لا يتقاطع مع مفهوم التوافق المطروح من قبل الإطار، لأنه على خلاف الأغلبية السياسية، يضمن وجود كل المكونات في إدارة شؤون الدولة ومشاركتها، ويوفر مساحات واسعة من التفاهمات العابرة للقوالب والأطر الحزبية الضيقة، في حين تقول أوساط أخرى إنَّ الإطار التنسيقي سيقبل ببعض شروط زعيم التيار الصدري وخياراته، في مقابل موافقة الأخير على بعض شروط الإطار ومطالبه، من قبيل اختيار رئيس وزراء توافقي، وعدم التجديد لأيٍّ من الرؤساء الثلاثة المنتهية ولايتهم - برهم صالح ومصطفى الكاظمي ومحمد الحلبوسي - وتوزيع الحقائب الوزارية والمواقع العليا وفق الاستحقاقات الانتخابية لمن يرغب في المشاركة في الحكومة.
قد تبدو الأمور متجهة إلى صيغة المحاصصة المؤطّرة بالتوافق والتفاهم والأغلبية الوطنية، أي بعبارة أخرى إعادة إنتاج المعادلات السابقة، مع تغيير نسبي في المواقع ومساحات التأثير والنفوذ، بحسب الأرقام والمخرجات الانتخابية الأخيرة، وهذا هو الأقرب إلى الواقع، والأقل كلفة وخطراً، رغم أنه ربما يكون الأقل جدوى في نظر الكثيرين، في ضوء تجارب الماضي البعيد والقريب وإسقاطاته السلبية.