اللامنطق السياسي الأوروبي.. تبعية على حساب الأمن المجتمعي

حتى اليوم، لم تتمكَّن دول الاتحاد الأوروبي من إثبات سيادة قرارها تجاه قضاياها أو القضايا الإقليمية والدولية.

  • اللامنطق السياسي الأوروبي.. تبعية على حساب الأمن المجتمعي
    اللامنطق السياسي الأوروبي.. تبعية على حساب الأمن المجتمعي

عند مقاربة كيفية تقييم الدول لعلاقاتها الخارجية، تبرز المصلحة القومية وكيفية ضمان رفاهية مجتمعاتها واستقرارها كأول معيار تستند إليه الدول التي تصنف نفسها في مصاف الدول الحديثة، أي التي تتبنى مفهوم دولة الرفاه أو دولة الرعاية الاجتماعية. 

وفي هذا الإطار، تبرز تجربة الاتحاد الأوروبي عامة، وفرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، كمحاولة لتكريس نموذج من الانتماء أو المواطنة من خلال ضمان نمط من الحياة الآمنة للجميع، بحيث يكون هذا النموذج قادراً على تأمين مقومات النمو والتطور بحدهما الأقصى. 

وإذا كانت الدول الأوروبية، في المرحلة التي سبقت إنشاء الاتحاد، قد سعت لتحقيق هذا الهدف من خلال زيادة النفقات الاجتماعية ضمن المفهوم المتشدد لسيادة الدولة، مع ما تعنيه هذه السياسة من استنزاف لمقدرات الدولة ومداخيلها القومية، فإن الاتحاد الأوروبي استطاع تفادي هذه الإشكالية من خلال سياسة متوازنة تستهدف الحفاظ على حد أدنى من الدعم المرصود للمواطن، في مقابل تكريس آلية مختلفة من الدعم المستند إلى تشجيع المبادرات الفردية، ضمن سياسة تضمن انفتاح الاتحاد الأوروبي على الدول المستهلكة من جهة، والمصدرة للمواد الأولية من جهة أخرى.

وإذا كانت العلاقات الأوروبية الروسية سلكت طريقها منذ تسعينيات القرن الماضي من خلال معادلة أساسها الأمن الطاقوي الأوروبي والانفتاح على روسيا، إذ تم التوقيع على اتفاقية الشراكة والتعاون بين الطرفين عام 1994، فإن المنطق الأوروبي الذي كان سائداً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى يومنا هذا استند إلى فرضية أن انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي انتهاء الحرب الباردة، أسّس لمرحلة تفترض حتمية تكريس المفهوم الليبرالي كنموذج للعلاقات الدولية، بما يعنيه هذا الأمر من إرساء للقيم الغربية والأوروبية كقيم عليا لا يمكن التغاضي عنها؛ فالرؤية الأوروبية لعلاقات الاتحاد الإقليمية تفترض تخفيف الطرف الآخر من قيوده السيادية الدولتية، مع إلزامية التعاطي مع الاتحاد ككيان موحد، بما يمكن تفسيره كإطار من المسلمات الأوروبية التي تعتقد بحتمية تبعية القوى الإقليمية للاتحاد، إذ إنَّ الاتحاد سيشكل رأس الهرم والطرف المتحكم في مسار هذه العلاقات.

من جهتها، لم تكن الدولة الروسية متقبّلة لفكرة فرض إطار معياري عليها، وهي إن كانت تسعى، وفق رؤيتها الاستراتيجية، لتعميق علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، فإنَّ أصحاب الاتجاه الغربي من الفاعلين الروس فشلوا في إقناع الدولة العميقة في روسيا بما يمكن أن تحققه من مزايا في مقابل تنازلها عن قيودها السيادية.

من ناحيته، لم يستطع الاتحاد الأوروبي، الطامح إلى العالمية، أن يتقبل كيفية استجابة روسيا لمحاولات الضغط عليها، إذ إن إحساسه بعدم تمسك الدولة الروسية بعلاقاتها معه كمسار حتمي لنهضة روسية، ونظرتها إلى مسار نهضة الاتحاد الأوروبي كمسار مرحلي لا يملك من أدوات التماسك والقوة ما يمكّنه من الاستمرار لوقت طويل، ساهما في تشدد الاتحاد الأوروبي وتبنيه خيار مواجهة روسيا، حتى لو تطلب الأمر اصطفافاً أوروبياً خلف الهيمنة الأميركية، أو أن تكون تلك المواجهة على حساب المواطن الأوروبي.

وإذا عدنا إلى الموقف الأوروبي الأخير من الدّولة الروسيّة، فإن الأزمة الأوكرانية الروسية التي سببتها الولايات المتحدة الأميركية من خلال محاولاتها، عبر حلف شمال الأطلسي، تنفيذ مخطط يجعل أوكرانيا جبهة متقدمة ضد روسيا، إضافة إلى الاستياء الروسي من سلوك الدولة الأوكرانية تجاه الأقلية الروسية لدى هذه الأخيرة، أديا إلى ضرورة تشريح الموقف الأوروبي، إذ إنه ابتعد في رد فعله عن المنطق الذي من المفترض أن يحكم سلوك الدول أو الكيانات في علاقاتها الدولية. 

وإذا كان الاتحاد الأوروبي يستهدف تحقيق موقع دولي ومحوري يتناسب مع فكرته حول طبيعة النظام الدولي، بما يعنيه هذا الأمر من استقلالية في عملية اتخاذ القرار، مع عدم إهمال الفرضيات التي دفعت الدول الأوروبية إلى التكتل، إذ استهدف عند نشأته تأسيس مواطنة أوروبية، إضافة إلى دعم التقدم الاقتصادي والاجتماعي وتقوية دور أوروبا في العالم، فإن الانغماس في سياسة معاداة روسيا من خلال تبني موقف زيلينسكي المحدد وفق الأطر الأميركية لن يؤمن للاتحاد هذا الموقع. 

وعلى الرغم من الموقف من حلف شمال الأطلسي، الذي سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وللمستشارة الألمانية السابقة إنجيلا ميركل أن أعلناه، والذي أمكن ترجمته ضمن إطار مسعى يستهدف التحرر من القبضة الأمنية للحلف، وبالتالي قد يساعد في تمكين الاتحاد من التحرر السياسي من السطوة الأميركية، لم يستطع الاتحاد الأوروبي أن يقدم نفسه كفاعل مستقل قادر على تقييم المخاطر الحقيقية التي يمكن أن تهدّد مسيرة الاتحاد، بعيداً من التهويل والوعيد الأميركي.

في تقدير للمخاطر التي تهدد الاتحاد نتيجة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وما تلاها من حظر أميركي على النفط والغاز الروسين، لم ينجح الاتحاد الأوروبي في تقديم سردية واقعية يمكن من خلالها أن يرسم إستراتيجية مستقلة تجنبه آثارها السلبية، إذ كان من الممكن أن يؤدي دور الوسيط المحايد انطلاقاً من موقعه الجغرافي القريب وعلاقاته مع الطرفين، ومن الموقف الروسي الذي وضع العملية في خانة الإستراتيجية الدفاعية التي لا تستهدف إلا ما يهدد الأمن القومي الروسي ضمن حدود الدولة الأوكرانية.

وعلى الرغم من قناعته بعدم إمكانية التخلي عن إمدادات الطاقة الروسية، سارع الاتحاد الأوروبي إلى ملاقاة الولايات المتحدة الأميركية في حظرها على صادرات الطاقة الروسية، مع علمه أنَّه في مقابل نتائج الحظر المفيدة لقطاع الطاقة الأميركي، إذ ستؤدي إلى زيادة الكميات المصدرة إلى أوروبا وغيرها، ستعاني دول الاتحاد الأوروبي نقصاً شديداً في الإمكانات، مع الإشارة إلى أسعارها المرتفعة جداً مقارنة بالسعر الروسي. 

يفترض الإشارة في هذا المجال إلى أنَّ المنحى الأوروبي، البعيد عن المنطق السيادي المحكوم للمصلحة القومية أو الجماعية، لم يكن غائباً عن علاقات الاتحاد الأوروبي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ إنَّ انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي وإعادتها سياسات الحظر على الجمهورية انسحبا التزاماً أوروبياً مجافياً للمصلحة والقناعة الأوروبية، من دون أي قدرة على إظهار استقلالية سيادية عن الولايات المتحدة. 

حتى اليوم، لم تتمكَّن دول الاتحاد الأوروبي من إثبات سيادة قرارها تجاه قضاياها أو القضايا الإقليمية والدولية. فالتبعية الأوروبية للولايات المتحدة الأميركية تبدأ من القرار الأمني الأوروبي الخاضع لرؤية حلف شمال الأطلسي، ولا تنتهي عند روسيا أو الجمهورية الإسلامية أو غيرهما.

واللافت في هذا الإطار، أنَّ دول الاتحاد الأوروبي تحرص على الظهور بصورة توحي بالتشدد لناحية الالتزام بالتوجه الأميركي، وكأنه يعبّر عن مصالح الاتحاد وأمنه المجتمعي أولاً، لعلها بذلك تطمس حقيقة أن دول الاتحاد الأوروبي تناست أن سمة التاريخ الحديث للاتحاد الأوروبي كانت تبعية أوروبية للولايات المتحدة الأميركية، وأن خلاصة التحليل الواقعي للمواقف الأوروبية تتمثل في أن انعدام إمكانية التحرر من الوصاية الأميركية انعكس سلوكاً أوروبياً برفع السقف وإظهار الموقف الأميركي على أنه متماهٍ مع المصلحة الأوروبية.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.