مات غورباتشوف لكنّ التاريخ لم ينته
لم يستطع تفكك الاتحاد السوفياتي أن يدخل العالم في القرن الليبرالي إلى ما لا نهاية، ولا بموت غورباتشوف ستمحى من ذاكرة التاريخ تلك الحقبة من الحرب الباردة.
قال مسؤولون في مستشفى في موسكو إن الزعيم السوفياتي الأخير، ميخائيل غورباتشوف، الذي أنهى الحرب الباردة من دون إراقة الدماء، لكنه أخفق في منع انهيار الاتحاد السوفياتي، توفي يوم الثلاثاء عن 91 عاماً.
قد يكون الخبر عادياً عند كثيرين؛ لأنّ بموته طُويت الصفحة النهائية لصراع بين قطبين دام 45 عاماً، كان الاتحاد السوفياتي أحدهما. لم يكن الصراع بين معسكرين حاولا استقطاب الدول ضمن انقسام عمودي، لكنه كان صراعاً يرتكز على ترسيخ الأيديولوجية المتمثلة في المدرسة الاشتراكية التي أرسى قواعدها المفكر والفيلسوف كارل ماركس، والمدرسة الليبرالية ذات البعد الرأسمالي.
مات غورباتشوف، وتفكّك الاتحاد السوفياتي إلى جمهوريات منفصلة، وخرج الفكر الغربي يخبرنا عن نهاية التاريخ، وانتصار الرجل الليبرالي على لسان الكاتب الأميركي فرنسيس فوكوياما. لقد عمل هذا الرجل الاشتراكي على مساعدة التاريخ في سقوط الاشتراكية الروسية، عندما عقد اتفاقيات مع الولايات المتحدة للحد من الأسلحة، وأقام شراكات مع القوى الغربية لإزالة الستار الحديدي الذي قسّم أوروبا، منذ الحرب العالمية الثانية، كما أدى دوراً في إعادة توحيد ألمانيا. لهذا السبب كرهه الاشتراكيون، بينما كرّمه الليبراليون لإنجازاته التي اعتقدوا بأنها كانت في مصلحة الغرب، وتمهيداً لانتصار الليبرالية، فنال جائزة نوبل للسلام عام 1990.
موته لا يعني انتصاراً للغرب، ولا يعني تسطير نهاية الأيديولوجيات وتكريس الليبرالية بمنزلة ثقافة لشعوب العالم، في الغرب كما في الشرق. إذ إن صعود الأنظمة غير الليبرالية قلب المشهدية العالمية، وأعاد خلط الأوراق الدولية، وأربك الغرب لدرجة أنهم باتوا يعيشون قلقاً على أكثر من صعيد، لا سيما وقف التدفق للغاز الطبيعي المسال من روسيا إلى أوروبا عبر خط نورد ستريم 1.
أمام "صعود الأنظمة غير الليبرالية"، في ظل تعزيز الأنظمة الاستبدادية، دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وزراءه إلى "التحلي بالجدية، والمصداقية وعدم الانصياع لإغراء الغوغائية". ولفت إلى أنه "من السهل أن تعد بأي شيء وبكل شيء، وأحياناً تقول كل شيء وأي شيء. ولكن، دعونا لا نستسلم لهذه الإغراءات، إنها غوغائية، إنها تزدهر في جميع ديمقراطيات العالم الآن، في عالم معقد يثير الخوف، لهذا يجب اقتلاعها".
أظهرت الحرب في أوكرانيا ما كانت تسعى إلى تنفيذه سراً الدول غير الليبرالية، وأخرجت من مكنونات نفوسهم الصراع الدفين بين العقائد، إذ إن أحد أهم أسباب تلك الحرب، هو ما جاء على لسان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي قال إن الغرب لا يسمع مخاوفنا، ولا يهتم لأمننا القومي. الأمر سيان في شرق الصين، إذ يعبّر الرئيس الصيني شي جينغ بينغ، عن قلقه من عدم احترام الغرب لمبدأ "الصين الواحدة".
بغض النظر عن مخاوف الشرق، للغرب أيضاً أسبابه في الدفاع عن مبادئه الديمقراطية، ففي اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، وقوف الولايات المتحدة إلى جانب جميع المتضررين من جريمة الاختفاء القسري. وعدّ بلينكن في بيانه " هذه الممارسة انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ومحظورة بموجب القانون الدولي، ومع ذلك، يستمر استخدامها لإسكات المعارضة، ومهاجمة المجتمع المدني، تحديداً في الأنظمة الشمولية".
لم يستطع تفكك الاتحاد السوفياتي أن يدخل العالم في القرن الليبرالي إلى ما لا نهاية، ولا بموت غورباتشوف ستمحى من ذاكرة التاريخ تلك الحقبة من الحرب الباردة، التي استطاعت فيها الأيديولوجية الشمولية بناء حاجز حديدي أعاقت من خلاله انتشار مبادئ الليبرالية في أكثر من دولة وقارة.
مات غورباتشوف، ولكن العقيدة السوفياتية لم تمت، إذ أعاد إحياءها الرئيس بوتين المتجذر في مبادئها، كيف لا وهو الذي كان من أبرز أركانها، ومن أهم المدافعين عنها؟! كيف لا، وعقل بوتين هو المفكر ألكسندر دوغين، صاحب النظرية الرابعة، التي تدعو إلى إحياء أمجاد الاتحاد السوفياتي؟!
لن يكون العالم أمام مرحلة جديدة في المدى المنظور، بل هو اليوم في مرحلة المخاض في انتظار ولادة نظام جديد، يكون فيه للشرق دور في صنع القرار، بالتوازي مع الغرب. ولكن الولادة قد تكون عسيرة، وقد لا يأتي هذا النظام المنتظر، لأنّ أداء الغرب في تلك المرحلة هو ردع روسيا والصين، ومن يدور في فلكهما، من قلب موازين القوى الدولية.
في مواجهة التعديات والتهديدات الغربية للأمن الروسي، والمستمرة منذ عام 1991 والتي تتزايد بشكل كبير منذ عام 2014، قال بوتين "كل من يحاول إعاقة عملنا، بل وأكثر من ذلك، كل من يخلق تهديدات لبلدنا وشعبنا، يجب أن يعلم أن ردّ روسيا سيكون فورياً". بوتين يتوجه في تصريحه هذا إلى الغرب بقيادة الولايات المتحدة، التي اعتمدت إدارتها منذ تولي الرئيس جو بايدن، سياسة "احتواء كل من الصين وروسيا".
أخيراً، الحرب في أوكرانيا مستمرة، ولن تتوقف مهما علت أصوات منادية بوقف الحرب، ومناورات الصين تضع تايوان على المحك، وفشل المفاوضات في الملف النووي الإيراني قد يضع المنطقة أمام لهيب حارق. هذه جميعها مؤشرات بأن المطلوب هو أكثر من فرض احترام ولا ضمان أمن، بل تغليب أيديولوجية على أخرى، وفي حرب الأيديولوجيات لا مكان للسلم ولا للمهادنة، إنما حرب حتى إعلان الاستسلام.