اللوبي العربي في روسيا.. حديث عن لا شيء
لا أعتقد أن هناك عربياً يسعى إلى إسقاط دول وحكومات، وكل ما هو مرجو هو أن يسعى النافذون العرب في روسيا إلى العمل على نشر الثقافة العربية في روسيا، وكذلك نشر الثقافة الروسية في بلاد العرب.
يدور نقاش من حين إلى آخر بين أبناء الجالية العربية، هنا في روسيا، عن وجودنا كعرب في هذه البلاد، وعن دورنا وجهودنا الرامية إلى أن يكون لنا صوت مسموع عبر أنشطة يمكن القيام بها، إلا أنه في المحصلة النهائية يتبيّن أن إطار هذه الأنشطة ينحصر في احتفال بيوم وطني لهذه الدولة، أو احتفاء بذكرى حدث في ذلك البلد، أو تنظيم أسبوع ثقافي يعرّف الروس بنا وهذا في أحسن الأحوال، علماً أن الحضور الروسي في مناسبات كهذه يقتصر غالباً على المستشرقين والمهتمين بالعالم العربي، حالنا كحال من يقف أمام المرآة ويغني ليسمع صوته هو وحده ويبدي إعجابه به، أي وكما يقول إخواننا المصريون "زيتنا بدقيقنا".
يحدث أن ألتقي من حين إلى آخر طلاباً يدرسون اللغة العربية، فأطرح عليهم في بداية الحديث سؤالاً يتكرر كل مرة مع المجموعة الجديدة وهو.. ما الذي دفعكم إلى دراسة اللغة العربية؟ في الحقيقة، أطرح هذا السؤال وفي ذهني الإجابة عنه وهي تتمثل عادة باحتمالين اثنين، إما الرغبة في قراءة الكتب الإسلامية باللغة الأصلية - وهذا في حال كان المتعلم مسلماً/ مسلمة؛ باحثاً غير مسلم في الدين الإسلامي - أو بسبب علاقة عاطفية تجمع بين شاب عربي وفتاة من روسيا والعكس غير وارد تقريباً.
نادراً ما تجد روسياً يرغب في تعلم اللغة العربية لشغفه بالثقافة العربية ولرغبته في التعرف إليها أكثر، كالشغف بالثقافة الفرنسية أو الإسبانية مثلاً، ويعود ذلك إلى تقصير من جانبنا نحن العرب، وأعني أولاً شريحة تتمتع بقدرة وبعلاقات تمهّد للقيام بأنشطة وبفعاليات تجعل من العرب جذابين أكثر، وأعني الدبلوماسيين وفي مقدمتهم القائمون على الملحقيات الثقافية، وأخص بالذكر قبل أولئك وهؤلاء رجال الأعمال العرب بغض النظر عن أصولهم العرقية.
في مطلع التسعينيات، بدا تفكك الاتحاد السوفياتي وكأنه صفارة البداية لانطلاق النشاط في العديد من المجالات، وعلى رأسها العمل الحر والـ "بيزنس"، فبرز رجال أعمال عرب ناجحون حققوا إنجازات كبيرة في روسيا، ولمعت أسماء العديد منهم حتى صاروا من الـ "بوموند"، المجتمع المخملي، وهذا شيء مهم لأننا كعرب معنيون في أن يكون لدينا حضور رفيع المستوى في روسيا، خاصة أن البلاد كانت تعاني من التطرف الإسلامي في حينه، ما يعني أن ظهور وجوه تمثّل النجاح العربي، وإن كانت ملتحية، أمر في غاية الأهمية، سيّما أنها لحى مشذّبة، ومن عايش تلك الفترة في روسيا يدرك ما أعنيه جيداً.
لكنّ نجاحات رجل الأعمال العربي اقتصرت على نجاحاته الشخصية فقط، ولا بأس من أن يضع رجل الأعمال مكاسبه الخاصة نصب عينيه أولاً وثانياً وثالثاً، ولكن ماذا عن المكاسب التي تتخطى مضمار المربح الشخصي، وأعني المكاسب العامة لنا جميعاً كعرب؟
عند التطرق، في الجلسات الخاصة، إلى أي من رجال الأعمال العرب في روسيا أقول دائماً إنني أتمنى له المزيد من التألّق والنجاح، وأن نرفع رؤوسنا به عالياً، هذا من جهة، ولكنني من جهة ثانية "أشتمه"، بمعنى أنتقده بحدّة لأنه انسلخ عن محيطه الضيق وابتعد عن قضايا أمته كما ابتعد عن أبناء جلدته ممن هم في نظره دون المستوى، حتى أنه لا يسعى إلى مد يد العون لمن بحاجة إليها، وقد يكون هو، الرجل الناجح ذاته الآن، عانى في سنوات شبابه الأولى ما يدفعني إلى اختلاق تبرير مخزٍ له، فأقول لنفسي.. إذا امتنع شخص كهذا عن مساعدة محتاج "بلدياته" - عربي بالمعنى العام، كيف يمكن أن تتوقع منه أن يساعد في قضايا تمسّ أمّته!
وبالحديث عن "الأمّة" وعن إحساس الغيورين والأشدّاء من أبنائها بهمومها وبآلامها، يحضرني دائماً رجل الأعمال الأميركي جيكوب شيف، وهو في الأصل من يهود ألمانيا، الذي توجّه للقيصر نيكولاي الثاني بطلب معاملة اليهود في روسيا آنذاك على نحو أفضل والعمل على منحهم فرصاً أكثر للاندماج في المجتمع، إلا أن الرد العملي كان بإبقاء الوضع على ما هو عليه، فتعهد الملياردير شيف - وكان مليارديراً في حينه - بإسقاط روسيا القيصرية، فموّل الحرب الروسية - اليابانية 1904 - 1905 ونال وساماً رفيعاً من اليابان، كما أنفق من الأموال ما يكفي لخلع القيصر عن العرش فتم له ما أراد.
لا أعتقد أن هناك عربياً يسعى إلى إسقاط دول وحكومات - سوى دولنا العربية - وكل ما هو مرجو هو أن يسعى النافذون العرب في روسيا إلى العمل على نشر الثقافة العربية في روسيا، وكذلك نشر الثقافة الروسية في بلاد العرب بما لا يتعارض مع سياسة روسيا، علماً أن موسكو معنية بالعالم العربي وبالتقرب منه أكثر، خاصة في السنوات الأخيرة، فهل هذا مطلب يصعب تحقيقه؟ ألا يبدو أنه من الممكن جداً أن يكون العمل على مشروع كهذا مُدرّاً للأرباح أيضاً؟ بمعنى إذا لم يكن العمل لتحقيق هدف عام ولوجه الله أولاً فليكن أولاً استثماراً لتحقيق المزيد من المال.. فليكن.
من المؤسف جداً أننا فشلنا كعرب في تعريف الروس بثقافتنا وبإبداعاتنا على نطاق واسع. إذا نزل أحدنا إلى شارع أي مدينة في روسيا وسأل أول شخص يقابله عن اسم مبدع عربي مُعاصر واحد في أي مجال (وإن كان في الأصل كردياً أو كلدانياً أو أمازيغياً)، وأعني عربياً من الألف إلى الياء - فالحديث هنا ليس عن مشاهير من أصول عربية كستيف جوبز وسلمى حايك.. ولا حتى عن محمد صلاح الذي لم يحقق طموحاته إلا بفضل بريطانيا - لا أعتقد أنه سيكون من السهل على الشخص أن يذكر اسماً واحداً، على الأقل للوهلة الأولى، بل لن يكون ذلك سهلاً عليك أخي القارئ وأنت العربي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجمهور العربي ومدى معرفته بالمبدعين الروس المعاصرين، لأن كلا الجانبين فشل في خلق حالة اهتمام حقيقي بالآخر خارج سياق السياسة.
شخصياً، لا تروق لي الموسيقى الكلاسيكية سوى مقتطفات محدودة منها، لذا لا أستمع إليها، لكنني أعرف أن هناك موتزارت وباخ وتشايكوفسكي، فكم روسياً سمع بفريد الأطرش أو بالرحابنة أو ببليغ حمدي، وأقول سمع بهم فقط حتى دون الاستماع إليهم؟
ألم تغن السيدة فيروز "كانوا يا حبيبي" بلحن روسي شهير؟ كم روسياً سمع هذه الأغنية بنكهتها العربية؟
في المقابل، لا يتردد عدد من الفنانين في روسيا في اقتباس - كي لا أستخدم مصطلحاً أقسى - ألحان أغانٍ إسرائيلية وتسجيلها بكلمات روسية، ما يعني أن الفنان الروسي على إلمام بما يقدمه الفنان الإسرائيلي، فأين نحن العرب من ذلك؟ وكم لحناً عربياً "اقتبسه" أي فنان روسي؟ شخصياً، أتمنى أن "تُسرق" ألحاننا وإبداعاتنا، وأعتقد أن شأني في ذلك شأن الكثير من العرب.
وحتى إذا أبدينا الامتعاض جرّاء سرقة ألحاننا، فإن بعضنا سيشعر بالاعتزاز بإبداعاتنا هذه التي تتسلل لتفرض نفسها، وإن من الأبواب الخلفية.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، عندما أتبادل أطراف الحديث مع الروس عن الصراع العربي - الإسرائيلي، ينتابني إحساس بالرضا حين يقول محدثي "العرب واليهود" كما هو دارج على ألسنة الروس، فيبدو الأمر وكأن هناك حالة من التنافس بين لوبي عربي ولوبي يهودي، أي وكأننا من الوزن ذاته وأننا خصم كفء لكن، وكما يُقال "اللي يدري يدري...".
في هذا السياق، أتذكر موقفاً رُوي في إحدى الندوات، حصل في واحدة من مدن ألمانيا النازية إبان حكم أدولف هتلر. لاحظ شاب يهودي أن جاره الحاخام يقرأ الصحف المعادية لليهود فسأله لماذا لا يقرأ الصحف اليهودية فأجابه...
"إذا قرأتُ تلك الصحف فماذا سأجد فيها؟ يهودي ينقصه المال للزواج، يهودي لا يملك ثمن الطهور لابنه، يهودي يطلب التبرع للعلاج. أما حين أفتح الصحف المعادية لليهود فأقرأ فيها.. اليهودي فلان رئيس بنك كذا، اليهودي علّان مدير المؤسسة كذا.. فأحس بالراحة".
حينما كان اليهود الألمان يطلبون المساعدة من أثريائهم كانوا يحصلون عليها. أما أثرياؤنا نحن العرب - والحديث عمّن في روسيا - فهم منفصلون تماماً وفي معزل عن الواقع المتعلق سواء بقضايا العرب أو بهموم العربي على بُعد أمتار، حتى أنه يصعب التوجه إليهم أصلاً بأي طلب أو رجاء. قد يقول قائل إن الميسورين العرب لا يبخلون بالمساعدة لكنهم يقدمونها تحت بند "فاعل خير"، وهنا أتمنى على كل فاعل خير أن يكشف عن هويته كي يعرف الشعب أبطالَه، وفقاً لمقولة شائعة في روسيا، وليُعرَف كذلك مَن هم ليسوا مِن أبطاله.
أخيراً، هل أكره رجال الأعمال العرب في روسيا؟ لا. عن نفسي لا أكره ولا أحب أياً منهم، لا بل أتمنى كل الخير لهم فرداً فرداً ومن صميم قلبي، إنما كل ما هنالك أنني لا أطيق هؤلاء كما لا أطيق كل من على شاكلتهم من اللامبالين.. غنياً كان أم فقيراً.