عذراً.. هي ليست حرب حدود بل حرب على الوجود
لم تكن حرب حدود، بل حرب وجود افتتحتها روسيا على أراضي أوكرانيا، داخل أراضي الدول الغربية، بهدف إثبات أن الدول غير الغربية قادرة على الدخول في نهج التطور والإبداع.
ما إن انتهت حرب النكسة عام 1967، حتى أدرك العرب أن الحرب التي قامت بها "إسرائيل" كانت بهدف تغيير المعادلة، وقلب المفاهيم، من حرب لإزالة "إسرائيل" من الوجود، إلى ترسيخ معادلة الأرض في مقابل السلام. على الرغم من إصدار الأمم المتحدة يومذاك قراراً أممياً تحت رقم 242 تدعو فيه العدو إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلها، إلا أنّ "إسرائيل" لم تستجب لأنّ جلّ ما كانت تريده هو أخذ العرب إلى مفاوضات سلام من أجل استعادة أراضيهم.
لأن "إسرائيل" لا تستطيع أن تستمر في ظلّ إصرار العرب على "رميها في البحر"، لهذا كانت الخديعة في الخامس من حزيران 1967، بحقّ العرب، واحتلالها أراضي عربية بهدف التفاوض على ترسيخ مبدأ السلام. أما اليوم، وفي ظلّ ما تشهده مناطق ساخنة من العالم، يتساءل المتابع، هل هناك أزمة حدود حقاً أم أزمة ترسيخ وجود؟
أطلق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تهديداته قبل أن يبدأ جيشه بشنّ عملياته العسكرية على الأراضي الأوكرانية، إذ إن روسيا الكبرى يجب أن تعود إلى وجودها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. لهذا لعب "عقل بوتين"، المفكّر الروسي ألكسندر دوغين، دوراً في تحفيز بوتين على إعادة بناء أوراسيا التي إن وجدت، فسترسخ حضوراً روسياً طويلاً في العالم ولفترة زمنية.
ظنّ البعض أنّ الوجود الذي تحدث عنه بوتين مرتبط بضمّ المحافظات والأقضية الأوكرانية إلى الأراضي الروسية. لهذا توقعوا أن تنتهي العملية العسكرية الخاصة، التي بدأها الجيش الروسي في 24 شباط/فبراير من العام الحالي، بعد الاحتفال الرسمي الذي أقامته موسكو لإعلان أن تلك الأراضي أصبحت روسية.
في المقلب الآخر من القارة، انطلقت يوم الثلاثاء 9 من تشرين الأول/أكتوبر 2022، مناورات "مالابار" العسكرية المشتركة الواسعة النطاق بين القوات البحرية التابعة لكل من اليابان والولايات المتحدة والهند وأستراليا. مناورات الدول الأربع في منطقة المحيط الهادئ في منطقة كانتو على السواحل اليابانية، تحاكي المخاوف من المدّ الصيني، الذي أصبحت طموحاته تتخطى حدود البلاد وتهدّد وجود دول الجوار.
إن استمرار المعارك في أوكرانيا، وارتفاع منسوب التوترات التي تحصل في بحر الصين الجنوبي، يوضحان صورة الحرب التي تعيشها البشرية اليوم؛ إنها حرب عالمية ثالثة لترسيخ الوجود في ظلّ نظام أحادي الجانب، يسيطر عليه الغرب المتمثل في الولايات المتحدة الأميركية.
تتوضح الرؤية كلما سارت الأمور نحو التصعيد الخطابي والعسكري، بأن ما يحدث في الساحة الدولية اليوم لا يشبه ما حدث في الحربين الأولى والثانية. فهناك كانت أهداف الدول تحقيق التوسع وتثبيت مستعمرات جديدة، ومناطق نفوذ على حساب الدول الأخرى، أما اليوم، فالحرب التي افتتحها بوتين لم تتوقف عند إعلانه ضمّ المناطق الأوكرانية، بل لم تزل مستمرة، فهي تظهر أن هناك تحدّياً آخر، تريد روسيا والصين الوصول إليه، وهو ما ظهر للعلن في قمة شنغهاي الأوزباكستانية.
لهذا، تتضح آفاق هذه الحرب، بعد انتهاء قمة "شنغهاي الاقتصادية" التي انعقدت في أوزبكستان في منطقة سمرقند في 17 من أيلول/سبتمبر 2022، حيث روّجت الصين وروسيا خلال القمة "لنظام دولي جديد" يهدف إلى تثبيت الوجود عبر رفع سقف التحدي للنفوذ الغربي من خلال حشد قادة المنطقة في هذا التجمّع الذي أُسس عام 2001 وبات بمثابة بديل "للمنظمات المتمركزة حول الغرب".
على شفير سقوط الدول في المحظور، هذه هي نهاية النفق حيث الحرب الكبرى المدمرة، التي دخلت ضمنها حرب أوكرانيا. إذ اعترف الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، بأن الحلف لا يسعى لوقف إطلاق النار في أوكرانيا بشروط روسية، لأنّ ذلك سيعني أن استخدام القوة يؤدي إلى تحقيق الأهداف السياسية.
اذاً، لن تنتهي الحرب في المدى المنظور، حيث وصلت إلى نقطة اللاعودة بين الأطراف المتصارعة. فتصريح ستولتنبرغ يؤكد أن الغرب لن يسمح لروسيا بتحقيق مبتغاها قلب النظام الدولي. كما أن تجهيز قوة سلاح مشاة البحرية الأميركية التي تعمل الولايات المتحدة لتطويرها، يدخل في إطار خطط جديدة ضمن حروب الجيل الرابع، تزامناً مع تصنيف واشنطن بكين العدو المقبل، بحسب ما تطرق إليه موقع "ديفنس نيوز".
بحسب "مصيدة ثيوسيديدس"، للمؤرخ اليوناني، الذي تحدث عن حتمية التصادم بين الدول الصاعدة، والدول الفارضة لوجودها، ينطبق ذلك على ما يحصل بين الدول الغربية والدول التي تشكل حلفاً مع روسيا والصين. لهذا لا يكون التصادم على أساس ضمّ أراضٍ، كما فعلت روسيا في شبه جزيرة القرم عام 2014، أو ما يحدث من صراع بين الغرب والصين على ضم جزيرة تايوان، حيث تعمل الصين لتطبيق مبدأ "صين واحدة" على الجزيرة، فيما الغرب ينظر إلى أنها جزيرة ذات سيادة مستقلة عن الصين.
لم تكن حرب حدود، بل حرب وجود افتتحتها روسيا على أراضي أوكرانيا، داخل أراضي الدول الغربية، بهدف إثبات أن الدول غير الغربية قادرة على الدخول في نهج التطور والإبداع، وأن النظرة "الدونية" التي تعانيها الصين وروسيا تجاه الغرب يجب أن تنتهي. لهذا وجدت تلك الدول أن الدخول في الحرب العسكرية والاقتصادية على الغرب أمر حتمي، كي تحدث التغيير المنشود وتقلب النظام الأحادي، إلى نظام متعدد القطب.
أخيراً، وبعيداً من الدوافع وراء الحرب القائمة، المؤكد أن كلا الفريقين المتقاتلين، رسّخ واقعاً مفاده أن العودة إلى الوراء باتت شبه مستحيلة، وأن الاستمرار في الحرب بمختلف أشكالها هو ما سيحدِّد مصير النظام العالمي بعد نهايتها.. إن ظلّ هناك نظام بعد استخدام الأسلحة النووية.