شاحنة أم "قلوب مليانة"؟
حذار من الوقوع في الفتنة فقد لا تبقي ولا تذر، فالعدو الصهيوني يتربص، وعملاؤه يعملون ليلاً نهاراً لإشعالها.
كان ينقص لبنان حادثة بلدة الكحالة، شرقي بيروت-جبل لبنان، كي يطلع علينا بعض السياسيين "المنتفخين" حقداً للتصويب على سلاح المقاومة التي دافعت عنهم وحمتهم من الاعتداءات الصهيونية والتكفيريين، وشاء القدر أن يكون الشهيد أحمد قصاص الذي أضاء شمعة للسيدة العذراء عليها السلام في إحدى كنائس معلولة السورية أن يسقط شهيداً مضرجاً بدمه أمام كنيسة بلدة الكحالة، وهو يقوم بحماية السلاح الذي يحمي جميع اللبنانيين من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه.
والأغرب مما سمعناه وشاهدناه في وسائل الإعلام المتنوعة والسوشال ميديا هو كلام بعض السياسيين "الموتورين" الذين صوّبوا اتهاماتهم في اتجاه الجيش اللبناني، وهو المؤسسة الوحيدة المتبقية من مؤسسات الدولة اللبنانية التي ما زالت تحافظ على وطنيتها وثباتها بحماية اللبنانيين على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم. فأطلقت التهم والعبارات المسيئة لقيادة الجيش، واعتباره عامل "ديلفيري"، من جانب قيادات وأحزاب كان من المفترض أن تكون داعمة للجيش وشاجبة لأي محاولة للنيل من كرامته وقيادته.
تعددت الروايات حول ما جرى، وبصرف النظر عن الحقيقة المنشودة والتي رآها الناس من خلال الفيديوهات التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تروي حقيقة ما جرى بالفعل، يبقى انتظار كلمة الفصل من التحقيق القضائي الذي باشر عمله لكشف حقيقة ما جرى والرواية الرسمية.
وما يعنينا هنا أنَّ هناك جماعة "لبنانية" (تدّعي أنها لبنانية أكثر من غيرها)، وأن لها حقوقاً "حصرية" انتزعت منها قسراً في اتفاق الطائف، ولم تستطع لغاية الآن أن تستسيغ هذه الاتفاقية، وكل ما يقال من قياداتها عن استعدادها لتنفيذ اتفاق الطائف بكامل بنوده هو "كلام لا يتعدى اللحظة" التي يقال بها، بدليل أنه منذ توقيع الاتفاق ولغاية الآن صدرت آلاف الدعوات لإلغاء الطائفية السياسية، ولم يحدث أي من ذلك.
هؤلاء "المتعصبون" لا ينظرون إلى الواقع اللبناني الذي يعيش ضمن منطقة ملتهبة، وسط كيان صهيوني محتل لأراض عربية ومعادٍ لما هو عربي وإسلامي، ويتربص باللبنانيين، ولا يلتفتون فعلياً إلى القيام بمصالحة أو إعادة النظر بشكل صحيح وفعلي في اتفاق الطائف، بل ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على "شركائهم" في هذا الوطن، لإعادة البوصلة إلى الوراء، ولا مانع لديهم من المحاولة ثانية للقيام بحرب أهلية، والتعامل ثانية مع العدو الصهيوني لحكم البلاد كما يشتهون.
بتاريخ 7/11/2022، قالت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف "إن لبنان مفتوح على كل السيناريوهات، بما فيها تفكك كامل للدولة، وأن اللبنانيين سيضطرون على الأرجح إلى تحمل المزيد من الألم، ونحن أيضاً نضغط بشكل مباشر على القادة السياسيين هناك لإنجاز عملهم، لكن لا يوجد مثيل للضغط الشعبي، وعاجلاً أم آجلاً سينفجر الوضع من جديد، وهذا النوع من الضغط هو الأسوأ، الذي قد يواجهه القادة السياسيون".
ما قالته باربرا ليف دليل على أن ما يجري هو المزيد من الضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية، وأحداث متنقلة من شمال لبنان إلى جنوبه، ويجري وفق ما تريده الإدارة الأميركية وبتنفيذ من جانب الموظفين التابعين لها في لبنان والمنطقة، فوسائل الإعلام اللبنانية والعربية والخليجية تحديداً ساهمت في تأجيج وتكبير حجم الأحداث وتصويب التهم في اتجاه المقاومة اللبنانية، وبشكل فاضح وواضح، وخاصة الأحداث المتنقلة من حادثة بلدة شويا في آب/أغسطس 2021، (مصادرة راجمة صواريخ تابعة للمقاومة أثناء إطلاقها صواريخ على الكيان الصهيوني، والاعتداء على عناصرها بالضرب من جانب أهالي بلدة شويا جنوبي لبنان)، وأحداث بلدة خلدة، جنوبي بيروت، وما جرى بعدها ومروراً بأحداث مخيم عين الحلوة، وصولاً إلى حادثة بلدة الكحالة.
لا أدري إذا كان هؤلاء يعلمون بأن الفتنة إذا وقعت (لا سمح الله)، ستحرقهم قبل أن تحرق غيرهم، وقد تقضي على آخر ما تبقى ممن يتشدقون "بالحرية والسيادة والاستقلال"، فوجود أكثر من مليوني نازح سوري وانتشار المخيمات على كامل الخريطة اللبنانية، وما تحتويه من خلايا نائمة للتكفيريين وعملاء السفارات الأجنبية ينتظرون الإشارة للقيام بـ "وظائفهم" الموكلة إليهم بتخريب الأوضاع والعمل على تأجيج الصراعات الداخلية، قد لا يعطي أي فرصة لهؤلاء للبقاء في منازلهم أو في مراكزهم إن لم نقل تهجيرهم إلى أصقاع الأرض، وبالتالي تفريغ البلد منهم ومن أمثالهم.
لماذا التصويب على الجيش اللبناني الذي يقوم بحراسة المخيمات من جهة ويسهر على حماية المواطنين من جهة أخرى، ولماذا ضرب هيبة الجيش اللبناني عند القيام بوظيفته وإطلاق عبارات التسخيف والتوهين من جانب قيادات حزب الكتائب اللبنانية وغيرهم من أحزاب وميليشيات امتهنت على مر التاريخ اللبناني المجازر والتخريب والقتل والسرقة على الحواجز، هل لأن هذه المؤسسة (الجيش اللبناني) المؤسسة الوحيدة المتبقية المتماسكة والوطنية والوحيدة القادرة على توحيد اللبنانيين حولها؟ وهل المطلوب إزالتها أو تقسيم الجيش اللبناني كما حصل في السابق، وبالتالي تقسيم البلد إلى مناطق أمنية تخضع لزعماء الطوائف وميليشياتها؟
لعل الكلام الحكيم للرئيس اللبناني السابق، ميشال عون، الذي قال عبر صفحته في موقع "إكس" "إنّ التحريض الذي حدث في أثناء حادثة الكحالة وبعدها كاد يُشعل فتنة، يمكن أن نعرف كيف تبدأ، لكن لا نعرف كيف تنتهي". و"مدّ جسور الثقة بدلاً من بثّ سموم الكراهية"، ومن أنّه "إذا سقط الهيكل فلن يسلم أحد، وخصوصاً في ظل الظروف التي تحيط بنا كلبنانيين". قد يكون الكلام الأبرز لغاية الآن ممن ناشدوا الجميع وأد الفتنة وعدم "المتاجرة" بها لمكاسب آنية وشخصية كما جرت عادة بعض السياسيين اللبنانيين وغيرهم ممن يمتهنون "قنص" الفرص وانتهازها للترويج "لبضاعتهم" الرخيصة. وجاء كلام الأب بولس عبد الساتر، راعي أبرشية بيروت للموارنة، خلال مراسم تشييع ابن بلدة الكحالة فادي بجاني ليضيف إلى كلام الرئيس عون المزيد من التوعية درءاً للفتنة التي حاول البعض الاستثمار فيها ضد سلاح المقاومة.
حذار من الوقوع في الفتنة فقد لا تبقي ولا تذر، فالعدو الصهيوني يتربص، وعملاؤه يعملون ليلاً نهاراً لإشعالها، وإذا ما اندلعت فلن تبقي للبلد قائمة، ولعل أول من سيدفع الثمن هم "الانعزاليون" كما كانوا يُسمّون في السابق.