الإنذارات الهاتفية في زمن الحرب.. حين يصبح الهاتف سلاح دمار شامل
كأنّ الحرب، بمآسيها وقساوتها وإنذارات الإخلاء الإسرائيلية، لم تكف اللبنانيين، فأتى من يعبث باستقرارهم، نفسياً ومعنوياً، من خلال بث رسائل كاذبة باتت بمنزلة كابوس.
مع قرب انتهاء مدّة اتفاق وقف إطلاق النار في الـ27 من كانون الثاني/يناير 2025، والترقّب لما ستؤول إليه الأمور على صعيد انسحاب "الجيش" الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية، لا بد من قراءة هذه الحرب من عدّة زوايا، ولاسيما لناحية ظهور سلاح جديد، هو الإنذارات الهاتفية والاتصالات، فالعدو الإسرائيلي لجأ إلى اختراق خطوط الهواتف اللبنانية من أجل بث رسائل وتحذيرات.
عمد "الجيش" الإسرائيلي إلى نشر رسائل تحذيرية حقيقية، غبر المتحدث باسمه، أفيخاي أدرعي، من خلال منصة "أكس"، تفيد بإخلاء مبانٍ سكنية بحجة وجود منشآت عسكرية لحزب الله، بينما استغل بعض الأفراد هذا الوضع لنشر إنذارات وهمية في منصات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي وضع العائلات اللبنانية في سباق مع الزمن في إثر تهديدات وهميّة هدفت إلى تخويف الناس والعبث بالأمن وإثارة البلبلة بين المواطنين، فباتت نغمة الهاتف مرادفةً للتهديد والخوف، وأداة مزدوجة في حرب نفسية لا تقل ضراوة عن المواجهات العسكرية.
لكن، كيف عاش اللبنانيون هذا الفصل؟ وما دور "إسرائيل" في تأجيج هذا الجانب من الحرب؟
وصلتني رسالة تطلب مغادرة المنزل فوراً.. حملت أطفالي وهرعت
"وصلتني رسالة عند العاشرة مساءً، الأحد، تطلب إليّ مغادرة المنزل فوراً"، هكذا يبدأ يوسف حيدر، المقيم بمنطقة البسطة، روايته مع الإنذارات الوهمية، ويتابع: "سارعت إلى إبلاغ سكان العمارة، وحملنا أطفالنا النائمين وهرعنا جميعاً إلى الكورنيش، إذ لم يكن لدينا مكان آخر نلجأ إليه. بقيت أنا وعائلتي داخل السيارة حتى ساعات الفجر، إلى أن تلقينا اتصالاً من أحد أعضاء لجان العمارة يخبرنا بأن الإنذار كان كاذباً. لن أنسى تلك اللحظات أبداً، كنت أشعر بغضب لا يوصف كلما نظرت إلى أطفالي وزوجتي ووالديّ المسنَّين."
وفي تجربة أخرى، تحدث علاء قبلان، النازح عن الجنوب إلى منطقة النويري في بيروت، عن معاناة مشابهة، قائلاً: "تركنا منزلنا تحت تهديد الإنذارات ولجأنا إلى أقربائنا، لكن لم يطل الأمر حتى تلقينا إنذاراً جديداً، فلم يكن في وسعي إلا اصطحاب عائلتي إلى وسط بيروت قرب جامع الأمين.
هناك بقينا خمس ساعات على الرصيف لأنني لا أملك سيارة، وليس لدينا مكان أخر نلجأ إليه. ومع مرور الوقت، من دون أن نتبلّغ بشأن أي استهداف للمبنيين اللذين أُخليناهما، تواصلنا مع الجهات المعنية، واكتشفنا أن أحد سكان المنطقة كان وراء هذه الإنذارات الوهمية، عادّاً الأمر "مزحة" لتخفيف التوتر، على حد تعبيره".
الأمن السيبراني بين الإنذارات الوهمية والحقيقية
كأنّ الحرب، بمآسيها وقساوتها وإنذارات الإخلاء الإسرائيلية، لم تكف اللبنانيين، فأتى من يعبث باستقرارهم، نفسياً ومعنوياً، من خلال بث رسائل كاذبة باتت بمنزلة كابوس.
في هذا الإطار، يقول الرئيس السابق لقسم استخبارات منطقة بيروت، العميد بهاء حلال، إن "الإنذارات الوهمية كانت وسيلة لتصفية الحسابات الشخصية ونشر الفوضى. وبناءً عليه، فإنّ قوى الأمن الداخلي أوقفت عددا من المواطنين المتورطين في هذا المجال".
من جهتها، أكدت مصادر معنية في قوى الأمن الداخلي أنه بعد المتابعة والتحقيق، تم توقيف عدد من الأفراد الذين أرسلوا رسائل مُضلِّلة وعارية من الصحة، تتعلق بعمليات الإخلاء، لافتة إلى أن عددهم لا يتجاوز خمسة أشخاص. وأكدت المصادر عينها أن شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي استدعتهم، وألزمتهم بالتوقيع على تعهّد خطي بعدم تكرار هذا الفعل، تحت طائلة الملاحقة القانونية.
يناءً عليه، فإنّ هذا الواقع ليس إلا دليلاً على غياب الوعي الكافي والمسؤولية للمحافظة على السلم الأهلي، ولاسيما في الظروف الحساسة. فبث هذه الإنذارات، عن معرفة أو سوء إدراك لمفاعيلها السلبية، كان كفيلاً بتهجير الناس من منازلهم، وإرباك الاستقرار، وأحياناً خلق فتنة طائفية وتأجيج الصراع السياسي بين مختلف فئات المجتمع.
من ناحية أخرى، لم تقتصر التهديدات الإسرائيلية على نشر تحذيرات في منصة "أكس"، بل كانت تتعداها إلى الاتصال بمؤسسات تابعة للدولة والهيئات الصحية والمواطنين لطلب إخلاء إحياء سكنية بأكملها، بذريعة أنها قريبة من منشآت ومصالح تابعة لحزب الله.
وهنا، يضيف العميد حلال أن التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية أثبتت تورط جهات إسرائيلية في استخدام شركات اتصال دولية لنشر هذه الرسائل بهدف إثارة البلبلة وتأجيج الخلافات بين النازحين والمجتمع المضيف، الأمر الذي كاد يؤدي إلى فتنة تُجبر المواطنين على النزوح مجدداً، وخصوصاً في المناطق ذات التنوع الطائفي. بناءً على ذلك، نشأ تعاون بين شركة "أوجيرو" والأجهزة الأمنية لإغلاق المنافذ المستخدمة، لكن الجهات المرسلة ابتكرت وسائل جديدة زادت في خطورة العمليات، تزامناً مع تحليق الطائرات المسيرة التي توحي بمراقبة مباشرة للأهداف.
وكانت مؤسسة "مهارات" نشرت تحقيقاً يفسّر الجانبين التقني والقانوني لتحايل "إسرائيل" على شبكة الاتصالات، اذ تبيَّن، بحسب مدير المحتوى الرقمي في منظمة سمكس، عبد قطايا، أن ما حدث لجهة إرسال الرسائل النصية من جانب الجيش الإسرائيلي ليس خرقاً، مع العلم بأن هناك كثيراً من الخروقات السيبرانية، إلا أن الجيش الإسرائيلي تحايل على شبكة الاتصالات عبر منصّات تتعامل مع شركات أجنبية متعاملة مع شركات اتصالات في لبنان، وبالتالي كان يتم عبرها إرسال الرسائل".
أما قانونياً، فتنصّ المادة الـ87 من قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي على أن يتم جمع البيانات الشخصية بأمانة ولأهداف مشروعة ومحددة وصريحة، بالإضافة إلى منع معالجة هذه البيانات لغير الغايات المعلنة.
إن بيع هذه البيانات لغايات تجارية قد يكون أحد الأسباب التي سمحت بهذا التحايل وإرسال "إسرائيل" للرسائل النصيّة إلى هواتف المواطنين اللبنانيين.
الهجمات الإسرائيلية على شبكات الاتصال في لبنان.. كيف واجهت وزارة الاتصالات؟
أمام هذا الانتهاك الإسرائيلي الفاضح للسيادة اللبنانية، كان لا بد من السؤال عن مدى خرق العدو شبكة الاتصالات اللبنانية وعن كيفية مواجهتها. حملنا هذا السؤال إلى وزير الاتصالات جوني القرم، الذي أوضح أن "إسرائيل" لم تتمكن من اختراق الشبكات المحلية الثابتة أو الخلوية، بل لجأت إلى استخدام أرقام وهمية دولية، قد تكون صادرة عن دول صديقة، عبر معابر وبوابات رسمية. وبين التقنيات المتقدمة التي لجأ إليها العدو البث الآلي automated broadcast والتسجيلات الصوتية، التي طالت مناطق جغرافية واسعة، أو عبر اتصال مباشر بهدف معين، الأمر الذي مكّنه من بعث رسائل إلى آلاف الأشخاص في دقائق معدودة.
وبالتالي، فان التصدي لهذا العدوان، بحسب وزير الاتصالات، تم عبر حظر الأرقام المستعملة، الأمر الذي أدى إلى انحسار عدد الهجمات، بحيث قال: "في الأيام الأولى، رصدت شركة "أوجيرو" أكثر من 80 ألف اتصال، قبل أن تتراجع إلى الحد الأدنى، نتيجة الإجراءات التي اتخذتها الوزارة بالتعاون مع الأجهزة الأمنية اللبنانية".
ومع ذلك، أكد القرم أنه ليس هناك في لبنان أي نظام اتصال محصَّن بالكامل ضد تهديدات خارجية معقدة، ولاسيما تلك التي تستفيد من التكنولوجيات المتقدمة على مستوى الدولة والاحتيال على المكالمات الدولية، لكن الشبكة اللبنانية تُعَدّ متماسكة، إلى حد كبير، على الرغم من حاجتها إلى تطوير برمجيات وتقنيات لصد الهجمات بصورة أسرع.
القرم: تحصين شبكات الاتصالات ضرورة ملحّة في وجه الاختراقات الإسرائيلية
الحل الوحيد لوقف الخروقات في مجال الاتصالات بشكل كامل هو عزل لبنان عن الخارج، وهو خيار يحمل تداعيات وخيمة على مختلف الأصعدة. من هنا، يطرح وزير الاتصالات أكثر من حل لحماية الأمن السيبراني بصورة لا تؤدي إلى عزل لبنان، وبينها:
- إنشاء المركز الوطني للأمن السيبراني وتفعيله، وهو مشروع يتطلب استثمارات كبيرة وتمويلاً مادياً وخبراء متخصصين في الأمن السيبراني.
- تحسين العقود مع الشركات الناقلة للتخابر الدولي من أجل ضمان منع تمرير الكم الهائل من الاتصالات المشبوهة.
- التعاون مع شركات الذكاء الاصطناعي و الـ machine learning لتطوير برمجيات قادرة على التمييز بين الاتصالات العادية والهجمات المتعمدة.
وفيما يتعلق بشبكات الهاتف الخلوي، شدد القرم على ضرورة التعاون مع موردي حلول أمنية عالميين لتأمين الشبكات وتحصينها، مع تفضيل الشركات المحلية، نظراً إلى حساسية هذا المجال.
كشفت تجربة اللبنانيين مع الإنذارات الهاتفية، سواء الحقيقية منها أو الوهمية، أن الحرب لم تعد تقتصر على الميادين التقليدية، بل انتقلت إلى ساحات أكثر تعقيداً، بحيث باتت الاتصالات سلاحاً فاعلاً في زعزعة الاستقرار ونشر الخوف، الأمر الذي يطرح كثيراً من التساؤلات عن مسؤولية الدولة في حماية بيانات المواطنين.