هل على زيلينسكي أن يكون لبيباً؟
قد يتوجب على زيلينسكي فهم الرسالة التي باتت واضحة، والتي ترتكز على أنّ الغرب لا يريد منه أن يحقق الانتصار على روسيا، بقدر ما يسعى إلى إطالتها في سبيل تحقيق مكاسب استراتيجية في القارة.
أكّد المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن "تأزم النظام الأمني في أوروبا يتطلب تطوير أنظمة جديدة للحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي". من هنا واجب على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يلتقط الإشارات، وربما عليه أن يسارع إلى المبادرة قبل أن ينتهي كل شيء.
يقول المثل الشائع: "إن اللبيب من الإشارة يفهم"، فالرجل الذكي هو من عليه أن يلتقط الرسائل وعندها يتصرف؛ فهل بات المطلوب من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يبادر نحو الذهاب باتجاه التسويات مع موسكو قبل أن يتوقف الدعم الأوروبي؟
تغيّرت المواقف الداعمة لكييف منذ 24 شباط 2022، أي موعد انطلاق العملية العسكرية الخاصة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا بهدف إبعاد خطر مدّ حلف شمال الأطلسي (الناتو) تحت ذريعة حماية أمن بلاده القومية. طلهذا، سارت الحرب يومها في ظلّ مساندة غربية واسعة عسكرياً ودبلوماسياً، وحتى اقتصادياً، من خلال فرض العقوبات الأممية على روسيا أو حتى من خلال فتح الحدود أمام أعداد النازحين الأوكران، وأمام التصدير الأوكراني لإنتاجهم الزراعي تحديداً.
طالت الحرب في شرق أوروبا، وفشلت كييف في تحقيق نجاحات في هجومها المضاد. وبالتوازي، فتحت الحرب في الشرق الأوسط مع العملية التي تخوضها "إسرائيل" على قطاع غزة.
جميعها عوامل جديّة دفعت إلى الابتعاد الأميركي عن تقديم الدعم المطلوب للجيش الأوكراني، رغم مناشدات مستمرة من قبل زيلينسكي الذي قال الأحد 7 نيسان الجاري إن "امتناع الكونغرس الأميركي عن إقرار حزمة مساعدات عسكرية مخصصة لبلاده سيتسبّب بخسارة الحرب أمام روسيا".
لم يعد الأميركي وحيداً في لعبة تجفيف الدعم على كييف، ولا سيما أن الداخل الأميركي اليوم يعيش على وقع الاستعدادات لانتخاب رئيس للولايات المتحدة في تشرين المقبل، إذ إن المنافسة تأخذ طابع التحذيرات من الدخول في حرب أهلية بين المرشح دونالد ترامب وجو بايدن. رغم أن واشنطن هي من أطلقت سياسة "احتواء" روسيا كقوة صاعدة، فإنّ المشكلات الدولية بدأت تتشظى، ما جعل دبلوماسيتها تتلهى عن كييف لمنع انهيار النظام العالمي القائم، وإلا فقدت دورها الريادي في النظام المزمع تأسيسه من قبل الصين وروسيا.
يقف الأميركي اليوم أمام تحديات حقيقية. لهذا، ربما يكون قد تخلى عن مدّ كييف بالأسلحة لانشغالاته بقضايا أكثر إلحاحاً عنده. لهذا، بات المطلوب من كييف استيعاب تراجع الدعم الأميركي وبعض دول أوروبا، والانتقال إلى مرحلة التسويات مع موسكو حتى لو طلب منها تقديم بعض التنازلات.
وافقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي على تشديد القيود على الواردات الزراعية التي مصدرها أوكرانيا، وفق ما أفادت الرئاسة البلجيكية للمجلس الأوروبي. وبحسب الاتفاق، سيتمّ تمديد إعفاء منتجات أوكرانيا من الرسوم الجمركية عاماً واحداً بدءاً من أيار المقبل، مع وضع سقف على واردات الدواجن والبيض والسكر والذرة والعسل والشوفان يوازي معدل الكميات المستوردة بين منتصف العام 2021 ونهاية العام 2023، على أن يعاد تلقائياً فرض رسوم عليها إذا تجاوزت هذا السقف.
إن موقف دول الاتحاد الأوروبي لم يأتِ شعبوياً بقدر ما هو تعبير عن حالة الفوضى التي سبّبتها الحركة الاعتراضية التي نفّذها المزارعون في مختلف دول أوروبا.
لقد لمست بعض الحكومات في أوروبا خطيئتها تجاه روسيا منذ بداية الحرب، إذ أكّد نائب وزير الخارجية الإيطالي إدموند تشيريللي أنه كان من الممكن تجنّب الحرب الراهنة في أوكرانيا لو تبنّى الغرب سياسة مختلفة مع روسيا الاتحادية.
ما أكّده تشيريللي قد يكون معبراً عن لسان حال كثيرين من الدبلوماسيين في أوروبا، وخصوصاً مع مقارنتهم العميقة بين حلف أصدقاء روسيا، على رأسهم الصين، ودعمهم لكييف. لقد صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال محادثات مشتركة في بكين، بأن العلاقات بين موسكو وبكين بلغت مستوى غير مسبوق بفضل زعيمي البلدين، فيما أكّد نظيره الصيني وانغ يي عزم بلاده على دعم التنمية المستقرة لروسيا.
يكفي لموسكو أن تستمرّ في حربها لفترة زمنية بالتوازي مع الدعم السخي من قبل بكين، إذ إن هذا سبب إضافي لها كي تسير في تحقيق مشروع تغيير النظام العالمي بما يتناسب مع مصالح القوة الصاعدة، فيما تعتبر كييف أن الغرب خذلها في أكثر من مناسبة، وأنه لم يقم بالدعم المطلوب لمواجهة روسيا، رغم أن الحرب غير متكافئة بين الجيشين.
أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مواقف عالية السقف وصلت إلى حدّ الطلب بإرسال جيوش أوروبية إلى أوكرانيا لمساندتها، إلا أنها جوبهت برفضٍ صارمٍ، ولا سيما من ألمانيا، إذ أكّد المستشار الألماني أولاف شولتس أنه لم يتمّ إرسال أي جندي إلى أوكرانيا من الدول الأوروبية، وذلك بعد تصريحات الرئيس ماكرون.
قد يتوجب على زيلينسكي فهم الرسالة التي باتت واضحة، والتي ترتكز على أنّ الغرب لا يريد منه أن يحقق الانتصار على روسيا، بقدر ما يسعى إلى إطالتها في سبيل تحقيق مكاسب استراتيجية في القارة.
يتحسب الأوروبي فوز ترامب، الذي أعلن في أكثر من مناسبة رغبته في توجيه روسيا لضرب الدول المتخلفة عن التزاماتها. لهذا، تعمل الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، لإعادة تفعيل الجيش الأوروبي، بديلاً من حلف الناتو، الذي يعتبر أن ظروف نشأته لم تعد تحاكي الواقع الجديد الذي بات عليه العالم اليوم.
لقد تأسّس حلف شمال الأطلسي في ظلّ الحرب الباردة، إذ برز صراع القطبين الليبرالي والاشتراكي، ومعه الناتو، للوقوف كقطب عسكري في وجه حلف وارسو الذي أسّسه الاتحاد السوفياتي سابقاً. تفكّك وارسو، ولم يعد العالم اليوم يعيش صراع القطبين، مع ظهور قوة صاعدة تسعى إلى بناء نظام متعدّد الأقطاب. لهذا، تعمل دول الاتحاد الأوروبي على تمتين التضامن بين أعضائه لما يصبّ في مصلحة القارة التي يجب أن تكون قطباً في عالم الأقطاب القادم.