البرلمان التونسي الجديد.. بين خارطة قيس سعيّد ورفض المعارضة

يراقب التونسيون المشهد العام، ولديهم أمل بأن تتحسّن الأوضاع عقب عودة البرلمان إلى الانعقاد والعمل بعد عامين من الجمود السياسي، وأن يكون نجاح الرئيس في تنفيذ الخارطة بداية عشرية جديدة تمتاز بالهدوء والاستقرار.

  • البرلمان التونسي الجديد.. بين خارطة قيس سعيّد ورفض المعارضة
    البرلمان التونسي الجديد.. بين خارطة قيس سعيّد ورفض المعارضة

تعيش تونس أزمة سياسية حادة تبدو أنها عصية على الحل، رغم تدخّل عدد من الوسطاء، إذ ترفض المعارضة التي تتزعمها حركة "النهضة" ذات التوجه الإسلامي الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ قرابة عامين وما ترتب عليها، متهمةً إياه بالشروع في مسلك سياسي "استبدادي" و"انقلابي" في الآن ذاته، وواصفةً ما يجري في البلاد بأنه عودة إلى المناخ الخانق للحريات المشابه للأوضاع ما قبل عام 2011 أو ربما أسوأ.

وكان سعيّد قد اتخذ مجموعة من القرارات "الخشنة" في تموز/يوليو 2021، أفضت إلى إقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان، مبرراً قراراته حينها بارتفاع معدّلات السخط الشعبي بسبب فشل الحكومة الاقتصادي، وعجزها عن مواجهة انتشار الحالات المصابة بفيروس كوفيد-19، إضافة إلى انتشار الفساد داخل النخبة السياسية.

وفي منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته، أعلن سعيّد "خارطة طريق" لتسير عليها البلاد خلال تلك الفترة المضطربة، انتهت في الآونة الأخيرة بتشكيل برلمان جديد، وسط حالة عزوف شعبي ملحوظ عن المشاركة (11.3%).

في الحقيقة، إن أزمة تونس اليوم لا تنحصر في الميدان السياسي، بل تمتد إلى ملف الاقتصاد، إذ تشهد البلاد تراجعاً ملحوظاً في القيمة الشرائية للعملة المحلية، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة، وهرولة الشباب صغير السن نحو الهجرة إلى جنوب أوروبا، طمعاً في تحقيق حياة أفضل لهم ولأسرهم في الداخل. وكانت الفجوة في موازنة 2022 قد بلغت 10 مليارات دينار (3 مليارات دولار)، فيما تبقى موازنة 2023 مفتوحة على احتمالات خطرة، لأن تونس تحت رحمة اتفاق محتمل مع صندوق النقد الدولي.

وسط هذه الأجواء المشحونة بالتوتر السياسي والصعوبات الاقتصادية، عقد البرلمان الجديد أولى جلساته في تونس العاصمة بتاريخ 13 آذار/مارس الجاري، وشهدت الجلسة حضور 154 نائباً من أصل 161، بانتظار استكمال شغل المناصب في الدوائر الـ 7 المتبقية في الخارج، التي لم يتم فيها تقديم ترشيحات خلال الدورين الأول والثاني. وقام الحضور بانتخاب إبراهيم بودربالة، وهو رئيس سابق لنقابة المحامين، رئيساً للبرلمان. ويُعدّ بودربالة من أشدّ المؤيّدين للرئيس قيس سعيّد.

ولم يُسمح للصحافيين أو وسائل الإعلام الدولية بتغطية الجلسة، ما أثار دهشة كثير من مراقبي الأوضاع في تونس، إذ توقّعوا أن تشهد الجلسة تغطية إعلامية كثيفة؛ باعتبارها دليلاً على قدرة الرئيس على إتمام خارطة الطريق، رغم رفض معارضيه، لكنّ المسؤولين قالوا إنه سُمح للتلفزيون والإذاعة الرسمية ووكالة الأنباء الرسمية فقط بتغطية الحدث.

برلمان بسلطات محدودة 

ركّزت المطالب الأساسية للمتظاهرين في أحداث "الربيع العربي" على مسألة خفض صلاحيات رئيس البلاد، وإضافة مزيد من السلطات إلى البرلمان. جاءت تلك المطالب متوافقة إلى حدٍ بعيد مع الأجندة الليبرالية التي تبنّتها معظم الحركات التي قادت المشهد خلال تلك السنوات.

ورغم شكوك البعض في مدى صلاحية تلك الرؤية السياسية لإدارة البلاد، متهمين إياها بتشتيت الجهد وإطالة المدة اللازمة لاتخاذ القرارات المصيرية، والتسبب بمفاقمة مواطن الصراع وإشاعة روح الانقسام، فإنها فرضت نفسها على أي قطر عربي نجح فيه "الربيعيّون" في إزاحة الرئيس عن كرسيه، وكانت تونس في المقدمة بطبيعة الحال.

لكنّ الأمور تغيّرت كثيراً بمرور عقد أو أكثر على أحداث "الربيع العربي"، وبدأت الأصوات المعارضة لما بدا أنه محسومٌ ومتفق عليه بالظهور مجدداً. هنا، كانت الفرصة متاحة أمام ذوي السلطة لتغيير العديد من القرارات التي تم اتخاذها في الشهور والسنوات القليلة التي أعقبت عام 2011. وقد جرى الأمر على هذا المنوال في العديد من الأقطار العربية مثل مصر وشرق ليبيا.

في تونس، سيعمل البرلمان الجديد بموجب دستور صاغه سعيّد بنفسه في تموز/يوليو 2022، وأقرّه في استفتاء بنسبة إقبال بلغت نحو 30.5%، وستكون له سلطة محدودة مقارنة بالبرلمان السابق الذي تم حلّه، والذي كان يرأسه راشد الغنوشي قائد حركة "النهضة".

وبحسب الدستور التونسي الجديد، ليس بإمكان مجلس النواب دستورياً منح الثقة للحكومة، كما لا يمكن أن يوجه لائحة لوم ضدها إلّا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس. إضافة إلى ذلك، لا يمكن عزل الرئيس، أياً تكن الأسباب.

وكان سعيّد قد استبق جلسة البرلمان الافتتاحية، قائلاً إنّ "الوضع لن يكون كما في السابق"، مشيراً إلى أن "التشريعات يجب أن تعبّر عن الإرادة العامّة، لا عن إرادة بعض الجهات التي ما زالت تحنّ إلى العشرية الماضية وإلى البرلمان الماضي"، مشدّداً على أنّ "زمن تكوين الكتل البرلمانية انتهى".

بلا إخوان وحصانة هشّة وحضور أكبر للشباب

جاء البرلمان التونسي الجديد خالياً بشكل كامل من العناصر المنتمية إلى حركة "النهضة"، المعروفة بانتماءاتها إلى جماعة الإخوان، وهو أمر منطقي بعد عملية العزل السياسي التي جرت بحقهم، إذ واجه الغنوشي، زعيم الحركة، اتهامات قضائية تتعلق بالإرهاب وغسيل الأموال والفساد. وقد سبقه إلى ساحات القضاء العديد من قادة الحركة، مثل نور الدين البحيري وعبد الحميد الجلاصي والطيب راشد وكمال عبد اللطيف وآخرين.

ووفقاً للقانون الجديد، ينعقد البرلمان التونسي للمرة الأولى من دون حصانة تشريعية ممنوحة للنواب، كما يحقّ للمواطن عزل النائب في حال تخاذله عن تلبية طموحاته، إذ ورد في نص القانون أنه "يمكن سحب الوكالة من النّائب في دائرته الانتخابيّة في صورة إخلاله بواجب النّزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النّيابيّة".

ولسحب الوكالة، يلزم أن يقوم عُشر النّاخبين المسجّلين بالدّائرة الانتخابيّة التي ترشّح فيها النّائب بالتوقيع على عريضة بسحب الوكالة النيابية.

وتُعدّ من السمات المميزة للبرلمان أيضاً هيمنة الشباب على تركيبته بواقع 73 مقعداً، إذ صعدت الأسماء المستقلة والوجوه الجديدة في الساحة السياسية، في حين لم يفز المرشحون المتحزبون إلا بـ8.4 % من المقاعد (13 مقعداً)، فيما ستكون المرأة ممثلة بنسبة تقارب 17%.

المعارضة تتشبّث بموقفها.. والشعب يراقب

كانت جبهة "الخلاص الوطني" المعارضة، التي تأسست بعد 10 شهور من الأزمة السياسية في البلاد بقيادة أحمد نجيب الشهابي، قد أعلنت مقاطعتها انتخابات البرلمان التونسي، ولم تدفع أياً من المنتمين إليها لخوض سباق الانتخابات.

وقد وصف الشهابي العملية الانتخابية بـ"المسخ"، داعياً القوى السياسية إلى توحيد موقفها من أجل "رحيل" الرئيس قيس سعيّد، وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة.

كما دعت "جبهة الخلاص" إلى التمسك بدستور 2014، "المصادق عليه من قبل ملايين من أصوات التونسيين والتونسيات، عبر نوابهم في المجلس الوطني التأسيسي"، ودانت "حملات المداهمات المتواصلة وتلفيق التهم والتنكيل بالمساجين السياسيين"، مُحمّلة الرئيس التونسي قيس سعيّد المسؤولية. وتُعدّ حركة "النهضة" المكوّن الأبرز داخل "جبهة الخلاص".

وعدّت المعارضة تدنّي نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات التشريعية دليلاً على رفض الشارع التونسي للمسار الذي اتخذه قيس سعيّد منذ صيف 2021، فيما يرى مؤيدو الرئيس أن العزوف عن المشاركة يعود إلى تراجع ثقة المواطن التونسي في العملية السياسية برمّتها، وهو أمر تتحمّل مسؤوليته الأحزاب والحركات التي قادت البلاد ما بعد 2011 بـ"أداء مخيّب للآمال"، وهي ذاتها الأحزاب والحركات التي تتصدّر المشهد اليوم، وتعارض خارطة الطريق التي وضعها الرئيس التونسي.

بين هذا التوجه وذاك، يراقب التونسيون بغالبيتهم المشهد العام، ولديهم أمل بأن تتحسّن الأوضاع عقب عودة البرلمان إلى الانعقاد والعمل بعد عامين من الجمود السياسي، وأن يكون نجاح الرئيس في تنفيذ الخارطة التي أعلنها بداية عشرية جديدة تمتاز بالهدوء والاستقرار.

وتكشف مواقع التواصل الاجتماعي عن أن الأوضاع الاقتصادية هي أشدّ ما يشغل بال المواطنين. وهنا تبرز التساؤلات المهمة حول مدى قدرة مجلس النواب على إصدار تشريعات تساعد على تيسير حياة التونسيين وتحسين أوضاعهم المعيشية بالأساس.

ومع اقتراب شهر رمضان، سيكون البرلمان مشغولاً بعدة ملفات، أهمها تعديل بعض التشريعات والقوانين الخاصة بالاقتصاد للمساعدة في إنهاء حالة التأزم الاقتصادي، إلى جانب حزمة من الإجراءات المتعلقة بالإصلاحات السياسية التي تتوافق مع آليات مؤسسة الرئاسة وخطط عملها، استعداداً لانطلاق الجمهورية الجديدة.