الأزمة الاقتصادية تحاوط تونس والحكومة تنفي الإفلاس وترفض "الإملاءات الخارجية"
يشير الخبراء إلى أن تونس لا تزال صامدة والعجلة تدور، لكن المدة التي يمكن أن تواصل فيها هذا الصمود، صار من الصعب التنبؤ بها.
تواجه تونس أزمة اقتصادية خانقة تتصاعد بمرور الوقت، وتتسبب في زيادة معاناة كثير من المواطنين الذين يشتكون من ارتفاع أسعار السلع أو اختفائها في بعض الأحيان، ومن المؤكد أن أزمة من هذا القبيل لن تبقى محصورة داخل الحدود، بل يمكن أن تتسبب في حالة من عدم الاستقرار يتردد صداها في منطقة البحر المتوسط عموماً.
وقد تعرضت الأوضاع الاقتصادية داخل تونس لضربات متكررة منذ عام 2011، فبعد رحيل الرئيس زين العابدين بن علي في إثر انتفاضة شعبية، دخلت البلاد في دوامة من الفوضى الأمنية، ما تسبب في هروب العديد من المستثمرين وإغلاق العديد من الأنشطة الصناعية والتجارية.
كذلك تسببت الهجمات الدامية التي نفذتها جماعات متشددة خلال عام 2015 في خسائر كبيرة لقطاع السياحة، ما أدى إلى فقدان البلاد أحد أهم مصادر النقد الأجنبي، كما أدت جائحة "كوفيد 19" خلال عام 2020 إلى انكماش الاقتصاد بما نسبته 8.8%، وتدهورت أحوال قطاع الزراعة نتيجة لموجات الجفاف المتتالية.
وعلى مدار العقد الماضي، واصلت الائتلافات الحاكمة ترحيل المشكلات وتحاشي اتخاذ أي قرارات صعبة قد تضر بصورتها أمام المواطنين، وكان الحل الذي لجأت إليه دوماً لعلاج مشكلة البطالة هو زيادة التوظيف في الشركات الحكومية التي صارت تعاني من "البدانة الوظيفية".
واليوم، تتصاعد شكاوى قطاعات عديدة من التونسيين بسبب النقص الواضح في السلع الأساسية أو الأدوية، بالإضافة إلى تراجع سعر صرف العملة المحلية، ما يكشف عن مشكلات تتعلق بتمويل الواردات، وقد تسبب العجز الحكومي في تأخر صرف أجور بعض موظفي الدولة خلال العام الماضي، ما أشعر المواطنين بالخطر.
ويشير الخبراء إلى أن تونس لا تزال صامدة والعجلة تدور، لكن المدة التي يمكن أن تواصل فيها هذا الصمود، صار من الصعب التنبؤ بها، في وقت ديون الدولة بمعظمها مستحقة للبنوك في الداخل، لكن تظل فرصة إقراض الحكومة دينارات جديدة محدودة للغاية.
وكانت تونس المثقلة بالديون بنسبة 80% من إجمالي الناتج المحلي، قد توصلت إلى موافقة مبدئية للحصول على قرض جديد بنحو ملياري دولار من صندوق النقد الدولي، وذلك في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2022، لكن المحادثات تعرقلت، ثم وصلت إلى طريق مسدود بسبب رفض الحكومة إملاءات الصندوق حول طريقة إدارة الاقتصاد.
مساع حكومية لطمأنة المواطنين.. وحديث متجدد عن مؤامرة داخلية
في الوقت الذي خفّضت فيه وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني لتونس المُلزمة بسداد أقساط كبيرة في وقت لاحق من هذا العام، وتضاءل احتياطي البلاد من العملات الصعبة بنحو الربع، دعا الرئيس التونسي، قيس سعيد، منذ أيام، إلى التصدي للشائعات التي تنشر البلبلة بين المواطنين، وحثّ محافظ البنك المركزي على توضيح حقيقة الأوضاع المالية في تونس وطمأنة التونسيين، أن الدولة ليست على وشك الإفلاس.
وأوضح سعيد، الذي يخوض معركة تكسير عظام مع حركة "النهضة" الإخوانية منذ عامين تقريباً، أن هناك تمويلات خارجية تأتي للأحزاب، وأنه يجب التصدي لها، مشيراً إلى أن "هذه اللوبيات تنشر الأخبار عن إفلاس الدولة، وهي أبواق مأجورة ومسعورة".
وتؤكد الرئاسة التونسية أن البلاد تزخر بكل الإمكانيات اللازمة لتجاوز كل الصعوبات، وأن الأزمة الحالية سيتم تجاوزها بعد "تطهير البلاد والمؤسسات والتعاون بين كل أجهزة الدولة لرفع التحديات".
وكان سعيد قد دعا إلى ضرورة تطوير النصوص القانونية حتى يقوم البنك المركزي بدعم ميزانية الدولة، لافتاً إلى أن القوانين الحالية في تونس "وُضعت حتى تستفيد البنوك التجارية، وهذه أموال الدولة والشعب في نهاية المطاف".
ويرى مراقبون للشأن التونسي أن حالة الانقسام السياسي التي تعيشها البلاد قد ألقت بظلالها على ميدان الاقتصاد، فبعض المعارضين يسعى لنشر اليأس بالفعل بين المواطنين، بل ويحثّ التونسيين العاملين في الخارج على عدم تحويل رواتبهم بالعملة الصعبة إلى داخل البلاد، لكن هذا الأمر لا ينفي وجود أزمة حقيقية تعاني منها تونس.
وتكشف آراء الناشطين التونسيين على مواقع التواصل عن عمق الأزمة السياسية، لدرجة صار تقييم الأوضاع الاقتصادية خاضعاً للانتماء السياسي، فأنصار سعيد يقللون من حجم الأزمة، ويرون أن البلاد تتعرض لمؤامرة داخلية، أما المعارضة فتسعى لعرقلة أي مجهودات حكومية للإصلاح، وتعمل على تضخيم حجم الأزمة، ورسم صورة سوداء للأوضاع الداخلية.
إملاءات صندوق النقد الدولي.. والرفض التونسي
تواجه تونس ضغوطاً متزايدة في الوقت الحالي بسبب التداعيات الخاصة بالأزمة الاقتصادية، ويحاول بعض العواصم الغربية استغلال الأزمة لمساومة الحكومة لاتخاذ مسارات اقتصادية معينة، ويصر الرئيس قيس سعيد على رفضها بشكل كامل، ويعدّها "إملاءات غير مقبولة".
وكان الرئيس التونسي قد رفض الأجندة الاقتصادية المطروحة من جانب صندوق النقد الدولي لتمويل ميزان المدفوعات، خاصة الشق المتعلق بإلغاء الدعم وتسريح الموظفين الحكوميين وخصخصة بعض المنشآت العامة، ورأى أن تلك الشروط ستؤدي إلى فوضى واضطرابات واسعة في البلاد.
وتخشى الدولة التونسية من تكرار الأحداث التي وقعت في عام 1983، وسقط فيها قتلى بسبب ارتفاع أسعار الخبز نتيجة خفض الدعم عن الحبوب، وهي أحداث تعرف بـ"انتفاضة الخبز"، كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو من أكبر التجمعات النقابية المعارضة في تونس، يلوح بتنظيم إضرابات واسعة، وذلك في حال قررت الحكومة خفض الدعم أو خصخصة الشركات العامة.
وكان صندوق النقد الدولي قد قال في 2021 إن فاتورة أجور العاملين في القطاع الحكومي داخل تونس تبتلع نحو 18% من الناتج المحلي، وهي بذلك من أعلى المعدلات العالمية، بينما تمثل ديون الشركات الحكومية الخاسرة 40% منه، ويمثل الدعم 8%.
في غضون ذلك، تراجع احتياطي تونس من العملات الصعبة، وهو ما يعني تراجع قدرة الدولة على تغطية نفقات الواردات، لكن تبقى نقطتان مضيئتان في هذا السياق، وهما تعافي قطاع السياحة ليوفر مزيداً من العملات الأجنبية، بالإضافة إلى انخفاض أسعار الطاقة العالمية مقارنة بعام 2022 لتتراجع فاتورة استيراد الوقود.
وكانت الحكومة التونسية قد دخلت في مفاوضات مرهقة مع صندوق النقد خريف العام الماضي، لكن المحادثات تعطّلت منذ أشهر، وقال مسؤولون إن تونس تسعى للوصول إلى اتفاق لا يشمل خفض الدعم أو إعادة هيكلة 100 مؤسسة عامة تعاني من الخسائر والديون، لكن ذلك قد يستغرق وقتاً أطول واحتمالات نجاحه أقل.
الأزمة الأخرى التي تواجه تونس في هذا الإطار، هي أن المانحين الآخرين من الدول الغربية وكذلك دول الخليج، يربطون استعدادهم لتقديم مساعدات استثنائية كبيرة لتونس بنجاحها في إتمام اتفاقها مع صندوق النقد.
وكان الاتحاد الأوروبي قد عرض مساعدة في حزيران/يونيو الماضي بنحو مليار يورو (1.16 مليار دولار)، لكن يبدو أن الاتحاد قد ربط مساعدته باتفاق صندوق النقد أو إصلاحات اقتصادية تتفق مع أجندة مؤسسات المال الدولية.
إيطاليا تخشى انهيار تونس.. وتخوفات من تكرار المأساة الليبية
تختلف إيطاليا عن نظيراتها من الدول الغربية في رؤيتها للأوضاع التونسية، إذ تدرك الحكومة الإيطالية أن انهيار الداخل التونسي سيؤدي بالتبعية إلى حالة عامة من الفوضى، بالشكل الذي يسمح بزيادة نشاط عصابات تهريب المواطنين العرب والأفارقة إلى جنوب أوروبا.
وكانت إيطاليا قد حذرت مراراً من تبعات تدهور أحوال تونس اقتصادياً وأمنياً، إذ يؤدي ذلك إلى تصاعد موجة الهجرة وظهور تهديدات جديدة من عناصر متشددة قد تجد طريقها إلى العواصم الأوروبية.
وكانت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، قد دعت صندوق النقد الدولي، منذ نحو شهرين، إلى تبني سياسة أكثر مرونة لصرف تمويل لتونس من دون اشتراطات مسبقة، موضحة أن "تونس في وضع صعب للغاية مع هشاشة سياسية وخطر تخلف وشيك عن سداد الديون".
وبحسب ميلوني، فإن المؤسسة المالية الدولية تظهر تعنتاً في مواجهة رؤية الرئاسة التونسية التي تحاول التخفيف من حجم الشروط المسبقة.
وبحسب مراقبين، فإن دول جنوب أوروبا، قد صارت أكثر وعياً بالمخاطر المترتبة على انهيار التربة الأمنية في بلدان شمال أفريقيا، خاصة بعد تجربة ليبيا، إذ تسبب تدمير مؤسسات الدولة الليبية في انعكاسات شديدة السوء على معظم البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
ومؤخراً، تعالت الأصوات داخل الأوساط السياسية الأوروبية، والتي تشير إلى النتائج الكارثية المترتبة على تدخلات القادة الغربيين في سياسات دول شمال أفريقيا، والتي تؤدي إلى زعزعة استقرارها، والضغط على حكوماتها بشكل مستمر حتى سقوطها، في ظل عدم وجود بدائل للقيام بالمهمات المطلوبة.
مستقبل تونس مفتوح على الاحتمالات كافة
لا مفر من الاعتراف بفداحة الأزمة التي تشهدها تونس سياسياً واقتصادياً، بينما تغيب في الأفق أي بوادر لتخطي هذه الحزمة من المشكلات التي تعد الأكثر تعقيداً بتاريخ البلد الحديث. فبينما يتمسك الرئيس التونسي بالمسار الذي شرع فيه بتموز/يوليو 2021 وبلغ محطاته الأخيرة بانتخاب البرلمان، يعوّل معارضوه على الشارع بهدف تأليبه على الرئيس وتعطيل مخططاته.
على المستوى الاقتصادي، ومع استمرار تدهور الأوضاع، فإن قطاعاً واسعاً من الشباب بدأ يفكر في أن الهجرة إلى دول خليجية أو أوروبية هي الحل الوحيد العملي الذي يمكن أن يضمن له ولأسرته حاضراً ومستقبلاً أفضل، في الوقت نفسه تنزوي الأحلام المتعلقة بإمكانية إحداث تغيير داخلي ينتشل البلد من أزماته.
أما سياسياً، فيبدو قيس سعيد ناجحاً حتى الآن في كبح جماح معارضيه، خاصة بعد خضوع العديد من قادة حركة "النهضة" للمحاكمات أمام القضاء، وصدور أحكام بحق عدد منهم بالفعل، بالإضافة إلى ذلك، يتجه سعيد إلى "تطهير" الهيئات الحكومية من العناصر التي تنتمي إلى المعارضة إلى الحد الذي يدفعها إلى تعطيل العمل في المرفق العمومي.
لكن هذا الانتصار السياسي، بحسب ناشطين، قد يؤتي ثماره على المستوى الأمني عبر فرض حالة عامة من الاستقرار، لكن ستظل الأوضاع الاجتماعية متوترة إلى درجة كبيرة، خاصة أن عناصر المعارضة تتغذى من حالة السأم الشعبي الناتجة من التدهور الاقتصادي.
ويؤكد الخبراء أنه في ظل حالة التوتر الاستثنائية التي تعيشها تونس فإن مستقبل البلاد صار مفتوحاً على كل الاحتمالات، فربما تنجو تونس من أزمتها الاقتصادية عبر حزمة من المساعدات الخارجية، أو بفضل التغيرات الدولية التي تحدّ من تدخلات المؤسسات الغربية، وتستقر فيها التقلبات السياسية، وربما، تتدهور الأمور نحو الأسوأ، إذ تعجز البلاد عن سداد ديونها، وتنجرف الأوضاع نحو الفوضى والتخبط.