بين تونس والجزائر.. من يريد فرض خطاب التطبيع؟
يؤكد الخبراء أنه لا توجد تربة في تونس، سياسياً وفكرياً وثقافياً، يمكن أن تقبل التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
ليست المرة الأولى التي تُتهم فيها الدولة التونسية بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي كخطوة تستهدف حصار الجزائر، فقبل أن يُدلي عبد القادر بن قرينة، رئيس حزب البناء الوطني الجزائري بحديثه الأخير، الذي أثار ردود فعل واسعة، تحدّث الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، منذ نحو عامٍ وأكثر، عن وجود لوبيات صهيونية تسعى لمحاصرة الجزائر، عب جرّ تونس نحو التطبيع بعد أن أدّت مهمتها في المغرب.
الاتحاد العام للشغل، وهو أكبر منظمة نقابية في تونس، له موقف معارض بقوة للتطبيع مع "إسرائيل"، وأشار المتحدث العام باسم الاتحاد، سامي الطاهري، منذ أيام، إلى أنّ ثمة محاولات منذ مدة طويلة للتسرب الصهيوني إلى تونس، مستفيدة من حالة السيولة السياسية وضعف الدولة وانفتاح الحدود بعد "الربيع العربي"، على النحو الذي أدّى إلى تمكين الاستخبارات الصهيونية من الانتشار، ثّم السعي لإقامة علاقات تجارية بأصحاب رؤوس الأموال، وبث الحملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن المعلوم أنّ زين العابدين بن علي، رئيس الجمهورية التونسية منذ عام 1987 إلى عام 2011، قام بفتح مكتب علاقات في تونس ومثله في "تل أبيب" خلال عام 1996، لتبدأ مرحلة "ربيع التطبيع والانفتاح على إسرائيل"، لكنها ظلت تجربة شكلية، ولم تترتب عليها علاقات فعليّة، كما تم لاحقاً إغلاق أبواب مكاتب التمثيل مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000.
لاحقاً، لم تجرِ أيّ لقاءات رسمية بين تونسيين و"إسرائيليين" حتى عام 2005، حين احتضنت تونس القمة العالمية لمجتمع المعلومات. وقتها، نشر صحافيون معارضون للنظام معلومات تفيد بأن الحكومة سمحت بمشاركة "إسرائيلية" في تلك القمة، وهو الأمر الذي أثار ردود فعل شعبية معارضة لهذا السلوك الرسمي. وفي الغالب، فإن ما أثير بشأن استعداد نظام ابن علي للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي كان أحد دوافع الانتفاضة التي جرت في نهايات عام 2010 في تونس، وفجّرت بركان "الربيع العربي" لاحقاً.
العلاقات التونسية الجزائرية.. تاريخ من التعاون والتوترات
بطبيعة الحال، فإن ما يجمع تونس والجزائر أكبر مما يفرقهما، فهناك عروبة توحّد ودينٌ يُقرّب إلى جانب الجوار الجغرافي، على النحو الذي يحتّم على البلدين التعاون لتحقيق المصالح المشتركة للشعب العربي في كل من تونس والجزائر، لكنّ الأمور لم تسِر دوماً على هذا النحو المتفائل.
فبعد عقود من الاستعمار الفرنسي، نالت تونس استقلالها رسمياً في عام 1956، ثم تلتها الجزائر، بعد ملحمة نضالية دامية، في عام 1962. ومنذ الاستقلال، شهد كلا البلدين فترات من الخلاف بشأن قضايا، مثل أمن الحدود والإرهاب، إذ يبلغ طول الحدود الجزائرية التونسية نحو 1034 كم (642 ميلاً)، إلى جانب عدد من التوترات السياسية بسبب تباين التوجهات الأيديولوجيّة للأنظمة الحاكمة.
فخلال فترة الحرب الباردة، كانت تونس، المحكومة من الرئيس الحبيب بورقيبة، أقرب إلى المعسكر الغربي، الأمر الذي جعل التوتر يحيط بعلاقاتها بجيرانها العرب، وخصوصاً تلك الدول العربية التي لديها توجهات قومية واشتراكية، وتتميّز بمتانة العلاقة بالاتحاد السوفياتي. لكن كل هذا لم يمنع تونس والجزائر، على سبيل المثال، من توقيع معاهدة الأخوة والوفاق في عام 1983، ثم لاحقاً تطور مجالات التعاون الاقتصادي، وخصوصاً في مرحلة حكم ابن علي، والتي اتسمت بكونها أكثر دبلوماسية ومرونة.
وأبرز دلالات التعاون هو خط الأنابيب العابر للحدود، والذي يمتد من الجزائر عبر تونس إلى إيطاليا، بالإضافة إلى تشكيل اتحاد المغرب العربي في شباط/فبراير 1989، بحيث كانت تونس والجزائر من الأعضاء المؤسسين له، وكذلك التنسيق بهدف التصدّي لنشاط التنظيمات المتطرفة، خلال فترة التسعينيات. وتكرر هذا النوع من التنسيق بعد عام 2011، إذ أفضى خلع ابن علي إلى حدوث فراغ في السلطة وفوضى حدودية ونشاط مكثف لعصابات التهريب، بالشكل الذي تطلّب تكثيف العمل الأمني من جانب الجزائر، التي لم تتأثر كثيراً بـ"الربيع العربي"، وكذلك تونس التي كانت تحاول أجهزتها الأمنية التعافي.
اليوم، على الرغم من محاولة كُلّ من الرئيس التونسي قيس سعيد، ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون، المحافظة على أعلى درجة من استقرار العلاقات بين البلدين العربيين الجارين، فإن عدداً من الساسة والناشطين في البلدين غالباً ما يجذبون المناخ العام نحو التوتّر والتلاسن. ودوافع هذا السلوك لا تكون دوماً قُطرية أو شوفينيّة، بل يمكن أن تكون تكتيكية ذات بواعث أيديولوجية. فالتنظيمات العابرة للحدود داخل الوطن العربي تضمّ أعضاءً من مختلف الدول، وعندما تتعرض أحد تلك التنظيمات لتضييق ما في إحدى الدول، يكون الأعضاء في الدول الأخرى جاهزين دوماً للهجوم على النظام الذي يضغط على "رفقائهم" أو "إخوانهم".
مؤخراً، كما نشر عدد من وسائل الإعلام، اتهم السياسي الإسلامي الجزائري، عبد القادر بن قرينة، الدولة التونسية بالتوجه نحو التطبيع، وهو ما أثار رد فعل تونسياً حادّاً، وخصوصاً من جانب أنصار الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي يعيش بدوره صراعاً مع تنظيم الإخوان وحركة النهضة، منذ تموز/يوليو من العام قبل الماضي.
وردّت البرلمانية التونسية، فاطمة المسدي، على تصريحات ابن قرينة، وقالت إن السياسة الخارجية التونسية مسؤولة عن قرارتها، وتحافظ على سيادتها بعيداً عن تدخل أي أطراف أخرى، و"إن القرار التونسي لا دخل فيه لأي حزب من دولة أخرى"، مشيرة إلى أن المجلس التشريعي لديه مشروع قانون قيد الدراسة يجرم التطبيع مع "إسرائيل".
ومن المعلوم أن المسدي تنتمي إلى تيار سياسي واسع داخل تونس، يعارض هيمنة "الإسلاميين" على الدول العربية بعد عام 2011، كما كانت ناشطة في مجال مكافحة الإرهاب، وأدّت دوراً في كشف عمليات تسفير الشبان التونسيين للقتال ضد الجيش السوري، عبر دعاوىً دينية وطائفية واهية، وهي إحدى التهم التي تعرض بسببها راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة ، للمحاكمة أمام القضاء التونسي.
الموقف تجاه التطبيع مع "إسرائيل" داخل تونس
يؤكد الخبراء أنه لا توجد تربة في تونس، سياسياً وفكرياً وثقافياً، يمكن أن تقبل التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. حتى في تلك الفترات التي تطوّرت فيها العلاقة على المستوى الرسمي، كان الرأي العام التونسي والحاضنة الشعبية يمنعان أي طرف من الأطراف من اتخاذ موقف علني وصريح يساند الكيان الصهيوني، بأي درجة من الدرجات.
وهناك عدة جهات داخل تونس عادةً ما تعبّر عن موقفها المناهض للتطبيع مع "إسرائيل"، على غرار الجمعيات المدنيّة واتحاد الشغل والأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية. حتى إن الإعلام التونسي، المحسوب على بعض رجال الأعمال، لم يتورط في الدعوة إلى التطبيع، خشية خسارة جمهور المتابعين.
إلا أن هذا الموقف الشعبي لم يمنع بعض الجامعيين من محاولة العمل في اتجاه التطبيع الأكاديمي، بدعوى تطوير البحث العلمي في مجالات التاريخ، كما تورط بعض الفنانين في أوحال التطبيع بعد زيارتهم الأراضي المحتلة وإقامة حفلات هناك. وكان الرئيس التونسي، قيس سعيد، قال في أثناء حملته الانتخابية، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، إن "التطبيع مع إسرائيل جريمة كبرى وخيانة عظمى"، مؤكدا رفضه التعامل مع كيان شرّد شعباً كاملاً مدةً تجاوزت قرناً.
وفي 19 أيار/مايو 2021، أعاد سعيد وصف من يُقيمون العلاقات بـ"إسرائيل" بالخونة، مؤكداً أن المشكلة القائمة ليست مع اليهود، لكن مع "الصهيونية التي أرادت أن تبيد الشعب الفلسطيني". وأعلن البرلمان التونسي، مطلع الشهر الجاري، شروع لجنة الحقوق والحريات في دراسة مقترح قانون يطالب بـتجريم التطبيع مع "إسرائيل"، انطلاقاً من موقف الشعب التونسي المساند للقضية الفلسطينية العادلة. وتأتي هذه المساعي من جانب برلمانيين تونسيين كامتداد لمحاولات قام بها آخرون على مدار الأعوام الماضية، وتحديدا منذ عام 2012، بيد أنها لم تنجح في تحقيق أهدافها.
ولطالما أكدت وزارة الخارجية التونسية أن كل الشائعات بشأن عزم تونس على تطبيع العلاقات بـ"إسرائيل" لا أساس لها من الصحة، وقالت إنها غير معنية بالتطبيع معها، وشددت على أنّ "موقفها لا تؤثر فيه التغيرات الدولية".
وكانت وزارة التجارة وتنمية الصادرات التونسية أكدت، في صيف العام الماضي، التزامها أحكام المقاطعة العربية لـ"إسرائيل"، رداً على ما تم تداوله حينها من تقارير صحافية بشأن إجرائها مبادلات تجارية مع "دولة" الاحتلال.
دور خليجي في دفع الدولة التونسية نحو التطبيع
لا مفر من الاعتراف بأن تونس تعاني ظروفاً اقتصادية شديدة الصعوبة، وأن معدّلات التضخم آخذة في الارتفاع، في ضوء تراجع القيمة الشرائية للعملة الوطنية والارتفاع المستمر في الأسعار. ويعود السبب في ذلك إلى ضعف الموارد الطبيعية مع استمرار النمو السكاني، بالإضافة إلى الظروف الدولية الصعبة، والتي أعقبت جائحة كوفيد 19، ناهيك بحالة الاضطراب السياسي الداخلي في البلاد وغياب الاستقرار.
ويؤكد خبراء العمل السياسي أن تلك الأزمات والظروف الصعبة، التي تمر فيها الدول، تكون الفرصة المثالية للقوى الدولية والإقليمية بهدف الضغط على الحكومات، التي تكون بدورها في أمسّ الحاجة إلى العون والمساندة، إذ يتم وعدها بدعم، مالياً ودبلوماسياً، في مقابل الحصول على موقف سياسي معين، أو قبول أجندة اقتصادية محددة مسبقاً.
وبحسب التسريبات الصحافية وتدوينات الناشطين المحليين، فإن ثمة دوراً متعاظماً للدبلوماسيين الخليجيين داخل تونس، وخصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى دولٍ تورطت في علاقات صريحة بالعدو الإسرائيلي، خلال الفترات الماضية، ضمن "اتفاقات إبراهيم"، إذ تسعى هذه الدول لمساومة الحكومة التونسية، ودفعها نحو تخفيف موقفها الرافض للتطبيع مع "تل أبيب"، كخطوة نحو التطبيع الكامل.
ورصد عدد من المراقبين للمشهد التونسي نشاطاً مكثفاً لعدد من السياسيين والكتّاب والدبلوماسيين السابقين، المحسوبين على العواصم الخليجية، والذين سعوا، خلال الفترة الماضية، لصرف أنظار الشعب التونسي عن القضية الفلسطينية، والتهكّم على الخطاب المناهض للهيمنة الغربية، والتلاعب بالكلمات، من أجل إيهام المواطن التونسي بأن معاناته الاقتصادية مرتبطة ببعض مواقفه السياسية المؤيدة للقضايا العربية والمناصرة لفلسطين.
وتبذل الحركات التونسية المناهضة للتطبيع، على أسس دينية أو قومية، جهوداً مكثفة بغرض كشف نشاط المطبّعين التخريبي داخل تونس، وإعلان أهدافهم الحقيقية، التي يحاولون سترها عبر الحديث عن امتلاكهم حلولاً سحرية لأزمات البلاد الاقتصادية، بينما الحقيقة أن الدول العربية، التي سارت في اتجاه طاعة البيت الأبيض واعترفت بالعدو الإسرائيلي، لم تشهد أي تحسّن في أحوالها المالية، ولم يتغير فيها شيء سوى أنها جنت مزيداً من الديون والعثرات الاقتصادية.