مآلات الحرب في أوكرانيا
على الرغم من التراجع الروسي في خاركيف وخيرسون، والزخم الإعلامي الغربي الكبير الذي يستهدف روسيا، فإنَّ جميع المعطيات تشير إلى تفوق الروس وثباتهم في الوقت الذي بدأ الحلف الغربي يتململ ويتفكّك.
9 أشهر مرّت على بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ولا يستطيع أحد بعد التكهّن بتطورات تلك الحرب وتداعياتها على العالم كلّه. مفاعيل تلك الحرب ونتائجها، وإن بدت محدودة في المكان والفاعلين، طالت جميع دول العالم دونما استثناء، نظراً إلى ما خلفته من أزمات سياسية وعسكرية واقتصادية أثرت في حياة الناس جميعاً، وتسببت بأكبر أزمتين للطاقة والغذاء.
جاءت تلك الحرب والعالم لم يتعافَ بعد من تداعيات أزمة "كوفيد 19" وما تسببت به من كساد وتضخم، وازدياد في عدد العاطلين من العمل، وإغلاقٍ أدى إلى خلل كبير في سلاسل التوريد وما نتج من ذلك من آثار سلبية في اقتصادات الدول جميعاً.
ولم يكن من المتوقع أن تفوق نتائج الحرب الأوكرانية نتائج الحرب العالمية الثانية، فالحرب العالمية قامت وانتهت ولم تتأثر بها جميع دول العالم حينها. أما الحرب الأوكرانية، فهي عالمية التأثير، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، نظراً إلى التداخل في اقتصادات الدول اليوم، الذي يمكن أن نشبهه بـ"الأواني المستطرقة"، فما يحدث في دولة سينتقل حكماً إلى باقي الدول ويؤثر فيها، سواء كانت تلك الدولة قريبة أو بعيدة، وسواء كانت طرفاً في الحرب أم لا.
وكان لاختيار الروس مصطلح "عملية خاصّة" وقع جعل البعض يعتقد أنَّها ستكون عملية محدودة وسريعة تنقضي خلال أيام، بل ربما أسابيع على أبعد تقدير. أما في واقع الأمر، فإنَّ هذا المصطلح في الأدبيات الفكرية والسياسية الروسية كان يستخدم في روسيا القيصرية عند قيامها بأيّ حرب تجاه المناطق المنضمّة إلى الإمبراطورية الروسية، والتي لا تعد دولاً مستقلة وفقاً للرؤية الروسية.
نجحت روسيا في تحقيق عدة انتصارات في تلك الحرب، أهمها توليها زمام المبادرة واختيار ساعة الصفر قبل أن يفرضها الغرب عليها. هذا الاختيار يعني أن الروس جهزوا أنفسهم لكل الاحتمالات القائمة والتطورات المحتملة قبل اتخاذهم هذا القرار، وهو ما يقلل احتمال حدوث أخطاء أو تداعيات غير محسوبة النتائج.
خسرت روسيا منذ اليوم الأوَّل للحرب أهم معركة في الحروب الحديثة، وهي الحرب الإعلامية، فلا شك في أن الآلة الإعلامية الغربية أكثر تطوراً من الإعلام الروسي، كما أنَّ الإعلام الغربي برع في أخذ دوره الذي رُسم له كصانع للحدث لا ناقل له فحسب، وهو ما جعل الكثير من الناس على مستوى العالم ينساقون وراء الدعاية الغربية، ويأخذون مواقفاً عدائية تجاه روسيا، متناسين أنَّ هذه الحرب لم تكن لتقع لولا الاستفزازات الغربية لموسكو، التي باتت تهدد الأمن القومي لروسيا عبر التوجه إلى ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، ونشر أسلحة فيها تجعل موسكو في مرمى الصواريخ الأميركية، وهو ما لن تقبل به روسيا بكلّ تأكيد.
ونجح الروس في حشد حلفاء لهم في تلك الحرب، وإن كان هذا الحشد أقل من المتوقع ربما. وعلى صعيد الدول الكبرى، لم تعول موسكو على التحالفات التقليدية التي تعني الاصطفاف في معسكرين شرقي وغربي، بل وجهت أنظارها نحو آسيا، حيث القوتان العالميتان الصاعدتان: الهند والصين.
وقد استطاعت الحصول على بعض التأييد وتحقيق بعض المكاسب في التعامل معهما، وخصوصاً أن تلك الدولتين ما زالتا تبنيان مواقفهما بناءً على حسابات مصلحية معقدة وبراغماتية عالية قوامها حسابات الربح والخسارة، وهو ما تجسّد خلال لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكل من الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي في قمة شنغهاي الأخيرة التي عُقدت في شهر أيلول/سبتمبر الماضي في سمرقند، حيث طلبا من الرئيس بوتين البحث وإيجاد حلول لوضع نهاية سريعة لتلك الحرب.
وكان من أولى نتائج ذلك الاجتماع، إضافةً إلى الواقع الميداني والانسحاب الروسي من خاركيف، إعلان الرئيس بوتين عند عودته إلى موسكو التعبئة الجزئية، من خلال استدعاء 300 ألف جندي للخدمة الاحتياطية، وهو ما اعتبر حدثاً مفاجئاً إلى حد ما، إذ كان هذا القرار هو أول قرار تعبئة منذ الحرب العالمية الثانية، وهو قرار تعبئة جزئية، إذ تستطيع موسكو تعبئة 25 مليون عسكري عبر التعبئة العامة.
إنَّ الهدف الروسي من التعبئة الجزئية، كما يبدو، هو حشد المزيد من التأييد والالتفاف الشعبي حول الجيش لإيصال رسائل سياسية مفادها أنَّ الروس قادرون على إطالة أمد الحرب، مهما كان الثمن، وكذلك الحرص على إبقاء العمليات العسكرية بعيدة من الداخل الروسي، وتأكيد فشل العقوبات الغربية في التأثير في الاقتصاد الروسي، إذ تم الإعلان عن موازنة التسليح للعام القادم، والتي بلغت 84 مليار دولار، فيما كانت نحو 116 مليار دولار لثلاث سنوات (2018-2020).
أما الدول الصغرى الحليفة لموسكو، فقد اقتصر دورها على التأييد السياسي في المحافل الدولية، وصرف النظر عن تطويع عددٍ من المرتزقة للقتال في أوكرانيا مع الجيش الروسي، وهو ما شرعنه المرسوم الأخير الذي وقعه الرئيس بوتين، والذي سمح للمقاتلين الأجانب بالالتحاق بالجيش الروسي.
وهنا، نشير إلى أنَّ الحرب ليست حرباً بين روسيا وأوكرانيا فحسب، بل إنَّ هناك أيضاً تحالفاً دولياً يدعم أوكرانيا ويضم أكثر من 50 دولة بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو. وقد استطاع هذا التحالف تقديم دعم نوعي غير محدود لأوكرانيا، وهو ما تم الكشف عنه في الآونة الأخيرة، إذ قامت الولايات المتحدة بتوقيع صفقة لشراء الأسلحة من كوريا الجنوبية لتقديمها للأوكران، بعدما قدمت لهم الكثير مما في ترسانتها من فائض.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدول الأوروبية التي باتت غير قادرة على تقديم المزيد من الأسلحة التي هي بأمس الحاجة إليها، فيما تشير التقارير إلى أنَّ روسيا لم تستخدم إلا القليل من أسلحتها النوعية، وكماً كبيراً من السلاح الموروث من الاتحاد السوفياتي.
وعلى الرغم من التراجع الروسي في خاركيف وخيرسون، والزخم الإعلامي الغربي الكبير الذي يستهدف روسيا، فإنَّ جميع المعطيات تشير إلى تفوق الروس وثباتهم في الوقت الذي بدأ الحلف الغربي يتململ ويتفكّك، إلى درجة أننا بدأنا نقرأ تقاريراً أميركية تشير إلى رفض الرئيس بايدن الرد على اتصالات زيلينسكي، ما يعني أنّ الولايات المتحدة غير قادرة على الاستمرار في تقديم دعم عسكري غير محدود لأوكرانيا، وخصوصاً بعد الانتخابات الأخيرة وفوز الجمهوريين في مجلس النواب.
كما أنَّ بريطانيا، وهي الدولة الأكثر مكراً ودهاءً، والتي تشكل رأس الحربة مع الولايات المتحدة في قيادة هذا التحالف، بدأت تشعر بعدم قدرتها على تقديم المزيد من الدعم، بعدما قدمت لأوكرانيا كميات ضخمة من صواريخ "برايم ستون 2" التي تعمل بالليزر وتمتلك قدرات كبيرة على اللحاق بهدفها وتدميره، إذ يبلغ السعر التقريبي للصاروخ الواحد منها 200 ألف دولار أميركي. وما يؤكد هذا التوجه هو تصريح وزير الخزانة البريطاني الذي أكد أن موازنة الخريف (يوجد في بريطانيا موازنتان: موازنة الصيف وموازنة الخريف) ستخفض المساعدات البريطانية للدول الخارجية (أوكرانيا).
أما ألمانيا وفرنسا، فقد بدأتا تبحثان عن طريقة لوقف الحرب بعد الخسائر الكبيرة التي تعرّض لها اقتصادهما، وبعد عودة مواطني البلدين لشراء الخشب لتأمين التدفئة في فصل الشتاء، وخصوصاً مع التصاعد المتوقع لأزمة الطاقة، الذي سيبدأ في 5 كانون الأول/ديسمبر، حين تبدأ مرحلة تحديد سقف أسعار الطاقة لروسيا الذي ستحدده الدول السبع الكبرى.
وتشير التوقعات إلى أن سعر برميل النفط الروسي لن يتجاوز 65 دولاراً، وهو ما سيدفع موسكو إلى وقف التصدير، وبالتالي المزيد من الكوارث على الاقتصاد الأوروبي.
وعلى الرغم من التقارير الغربية التي تشير إلى إمكانية اعتماد الدول الأوروبية على الطاقة النووية كبديل محتمل، فإن هذا غير ممكن من الناحية العملية، وخصوصاً بعد التنسيق الروسي مع كازاخستان، إذ تبين الأرقام أنَّ الدولتين تؤمنان 42% من الوقود النووي اللازم لتشغيل تلك المفاعلات؛ فقطع الوقود النووي سيؤدي إلى زيادة الطلب على النفط والغاز. كما أن التقارير تشير إلى توقّف نصف المفاعلات النووية الفرنسية عن العمل بسبب الحاجة إلى الوقود النووي. وبالتالي، فإن أوروبا ذاهبة إلى تفاقم في أزمة الطاقة فيما لو تم تحديد سقف لسعر النفط والغاز الروسي.
أوراق القوة التي تمتلكها موسكو ما زالت كثيرة، وتوقّع الهزيمة أمر غير وارد وغير متوقع بالنسبة إلى دولة بحجم روسيا، وخصوصاً بعد نجاحها في كسر العقوبات الغربية المفروضة عليها، إذ تشير التقارير إلى عودة ارتفاع الصادرات الروسية إلى كلّ من كوريا الجنوبية واليابان بعدما كانت قد انخفضت إلى النصف بسبب التزام الدولتين العقوبات على موسكو، لكنهما عادتا وتراجعتا عن ذلك تدريجياً بسبب حاجتهما إلى الصادرات الروسية.
كما أنَّ تركيا أدت دوراً كبيراً في زيادة حجم التجارة الروسية، محققةً أرباحاً كبيرة جراء ذلك، ما يعني تفكك التحالف الغربي ضد موسكو، وخصوصاً أن تركيا دولة عضو في حلف الناتو الذي من المفترض أنه في حال حرب مع روسيا. ويبقى التلويح باستخدام السلاح النووي هو الحاسم والرادع كلما ازدادت الضغوط على موسكو.