بين "جوع الذخيرة" وخدعة الحرب التباساتٌ كثيرة
ما السرّ في باخموت، ولماذا أرسلت مجموعة "فاغنر" إليها عوضاً عن الجيش الروسي؟ ولماذا تمسّكت بها القوات الأوكرانية إلى ما بعد اللحظة الأخيرة من ثبوت سقوطها عسكرياً بصورةٍ شبه مؤكّدة؟
أشهر طويلة مرّت على بداية المعارك فيها، لم تكشف مدينة باخموت جميع أسرارها حتى الآن. أهميةٌ كبرى يعلّقها الطرفان على بسط السيطرة هناك، لكن هذه الأسباب المعلنة لهذه الأهمية لم تصل درجة الإقناع التام في أغلب الأحيان. فوجود المدينة على عقدة مواصلاتٍ رئيسة مهم بالطبع، لكنّه معطى قابل للاستبدال لوجستياً إلى حدٍ كافٍ بالنسبة للجيشين.
أما وجودها في وسط خط الدفاع الأوكراني والممرات التي قد تفتحها السيطرة على المدينة في قلب ذلك الخط والانطلاق منها إلى المدن الأخرى نحو الغرب، فمعطيات مهمة أيضاً، لكنها كذلك لا تتناسب مع حجم الموارد وعدد الأرواح التي أحرقتها معارك هذه المدينة.
فما السرّ إذاً في باخموت، ولماذا أرسلت مجموعة "فاغنر" إليها عوضاً عن الجيش أو القوات الخاصة الروسية؟ ولماذا تمسّكت بها القوات الأوكرانية إلى ما بعد اللحظة الأخيرة من ثبوت سقوطها عسكرياً بصورةٍ شبه مؤكّدة؟
جوع ذخيرة أم لعبة خداع؟
الآن مع المعارك في الجزء الأخير الغربي المتبقّي من باخموت صدرت مواقف أطلقها رئيس "فاغنر" يفغيني بريغوجين بدويٍ أشدّ وقعاً من دوي القذائف المستمر في المدينة. هدّد بريغوجين بسحب قواته من هناك بسبب نقص الذخيرة، ووجّه رسالةً مصوّرة حادة بأسلوبه الخاص الذي بات معروفاً إلى وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف. يدعوهما في هذه الرسالة إلى الاستقالة، ويحمّلهما مسؤولية إزهاق أرواح جنوده الممدّدين خلفه في مقطع الفيديو.
ثمّ أرسل في اليوم التالي رسالةً إلى شويغو طالبه فيها بإصدار أمرٍ عسكري بسحب قوات فاغنر من المدينة، وتسليمها إلى كتيبة "آخمات" الشيشانية التي يقودها الرئيس رمضان قدديروف. الذي عبّر عن حماسته لإرسال جنوده إلى باخموت، وبريغوجين وشكره على اقتراحه، لكنّ الساعات التالية حملت للأخير أخباراً إيجابية من موسكو.
وجّهت روسيا بإرسال الأسلحة التي تحتاجها "فاغنر"، وأعطتها حرية التصرّف في المدينة، وكلّفت قائد القوات البرية الجنرال سيرغي سوروفكين التنسيق معها. وهي معطيات تناسب بريغوجين، وتستجيب لطلباته، على الرغم من أسلوبه المباشر الحاد مع وزير الدفاع ورئيس أركانه.
صراع كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة بين القيادات العسكرية، يبدو أن الكرملين يمتلك كامل القدرة على ضبطه وإدارته، كما تشير السرعة والفاعلية التي حلّت بها مسألة بقاء المجموعة في باخموت.
لكن أبعد من ذلك، تقاطعت تصريحات سابقة وأخرى حالية لبريغوجين مع تصريحاتٍ أوكرانية جديدة تتحدّث عن أن مواقف رئيس فاغنر تعبّر عن توزيع أدوارٍ داخل الإدارة العسكرية الروسية، وأن مواقفه بشكلها المسرحي ما هي إلا أداء متقن لمناورة عسكرية-أمنية لخداع القيادة العسكرية الأوكرانية. فبريغوجين سبق له أن قال في شباط/فبراير الماضي إن تعبيره عن الخلافات مع وزارة الدفاع كان الهدف منها خداع الأوكرانيين.
المتحدثة باسم قيادة العمليات الجنوبية في الجيش الأوكراني العقيد ناتاليا هومينيوك قالت إن النزاع بين فاغنر ووزارة الدفاع الروسية قد يكون دعاية، وإنها لا تصدّق الروس في هذه الإعلانات، التي تأتي في سياق الحرب الهجينة كما وصفتها. وهي ترى الخلافات بين الأجهزة الرسمية وفاغنر بصورةٍ واضحة، لكنها تشك بأن تكون هذه الخلافات فخّاً لخداع القوات الأوكرانية وقيادتهم العسكرية والسياسية.
بريغوجين عاد وصرَّح بتفاصيل العملية العسكرية في باخموت في مقالٍ على تلغرام، بما لا يُكذّب تلك الشكوك، حين قال إن هدف معركة باخموت لم يكن السيطرة على المدينة، وإنما دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإرسال كثير من قواته إليها، مما يتيح للجيش الروسي تنظيم دفاعاته بعدما تراجع في خيرسون وخاركيف.
وأضاف أنه تم تحديد مدة 6 أشهر لإتمام عملية باخموت، وجعْلِها "مفرمة لحم للجيش الأوكراني"، مؤكداً أن الأهمية الاستراتيجية للمدينة هي في تقدّم القوات الروسية بعد باخموت للسيطرة على سلافينسك وكراماتورسك وكونستانتينوفكا.
رئيس فاغنر يؤكد أيضاً أن خسائر الجيش الأوكراني وصلت إلى 50 ألف قتيل منذ بدء المعارك في باخموت. لكنه في الوقت نفسه يعيد تأكيد سبب تلويحه بالانسحاب بأنه نقص الذخيرة، بعد نحو 400 يومٍ من القتال هناك من دون استراحة.
المؤكد في المسألة أن الكرملين قادرٌ على إدارة التوازنات في التركيبة العسكرية الروسية، ولا سيما لناحية العلاقة مع "فاغنر" التي على الرغم من نيلها ما طلبت في باخموت، إلا أنها تبقى شركةً أمنيةً خاصة تعمل بالتنسيق مع الوزارة ورئاسة الأركان الروسية، وليست كياناً رسمياً موازياً لهما، ولا يمكن أن تكون كذلك مهما تعاظمت أهميتها في الميادين.
ذلك أن خدمات شركة "فاغنر" من الناحية الفنية، بما يشمل الكفاءة في القتال، الشراسة، الفاعلية والولاء، كلّها صفات مؤمّنة في القوات الخاصة الروسية "سبيتسناز"، كما في قوات "أحمد (آخمات)" الشيشانية، وفي تشكيلاتٍ أخرى من القوات المسلحة الروسية. أما ما يعزّز قيمة "فاغنر" المضافة على هذه التشكيلات فيمكن تلخيصه بسببين اثنين:
السبب الأول مرتبط بهوامش المناورة السياسية التي يتيحها استخدام شركةٍ خاصة بالنسبة لروسيا، حيث لا تكون الدولة مسؤولةً قانونياً بصورةٍ كاملة عن أعمال الشركة، على الرغم من وضوح التنسيق.
فتبقى القرارات الميدانية والتفاصيل العسكرية محصورةً بالشركة وحدها، ما يبعد الدولة الروسية عن مخاطر المسؤولية عن أي أعمال غير قانونية تبرز في المستقبل. إنه درسٌ من دروس العقدين الماضيين، وأول من صنع هذا النوع كانت الولايات المتحدة الأميركية مع "بلاك ووتر" في العراق.
أما السبب الثاني فهو أن وقع الخسائر البشرية على الداخل الروسي، دولةً وشعباً، يكون مختلفاً بين "فاغنر" وقطاعات الجيش. ليس انتقاصاً من قيمة الروح البشرية وتساويها، أو إنقاصاً من استعدادهم للتضحية، بل لحقيقة أن مقاتلي الشركة يوجدون في الميدان ويخوضون القتال بمبادرةٍ ذاتيةٍ منها، وليسوا مجنّدين ضمن الجيش الرسمي في أوقات السلم، أو معبّأين خلال الحرب.
التباساتٌ كثيرة
في كل الأحوال، يخاف الجانب الأوكراني من أن تكون الخلافات بين "فاغنر" ووزارة الدفاع توزيعاً مدروساً للأفكار، وفخاً منصوباً بعناية، على الطريقة التي درجت عند روسيا البوتينية في التعامل مع المسائل المشابهة.
لكنّ خوفاً آخر أكثر خطورةً ينشأ الآن ويتوسّع، انطلاقاً من تجربة باخموت، التي تحوّلت إلى مغناطيس جنود، و"مفرمة لحمٍ" على حد وصف بريغوجين، وهو الخوف من إمكانية فشل الهجوم المعاكس المنتظر.
الاحتمال الأسوأ ليس أن يخفق الجيش الأوكراني في الميدان، فيخسر فرصته الأخيرة في استعادة المناطق التي خسرها، وبالتالي اضطرار المستوى السياسي إلى تقديم تنازلاتٍ في العملية السياسية التي ستعقب الحرب، أو يتصل في نهايتها. إنما الاحتمال الأكثر فداحة هو أن يُرسم سياق أميركي للهجوم الأوكراني يجعله مخصصاً لخلق موقف تفاوضي مناسب فقط، أو على الأقل مقبول، بحيث يستفاد منه لتحقيق الأهداف الأميركية من المواجهة، وليس تلك الأوكرانية.
إنه احتمالٌ مرجّح بالنسبة للكثير من المراقبين الذين يرون أن الإدارة الأميركية الحالية لا تستطيع توسيع الإطار الزمني للحرب بالوكالة مع روسيا، بموازاة تفاعلات شديدة الخطورة تجري على الساحة الدولية، وفي الداخل الأميركي على حدٍ سواء.
دولياً، تواصل الصين انسحابها المتسارع من الاستثمار في سندات الخزينة الأميركية، ومن الاستثمار في الاقتصاد الغربي بصورةٍ عامة، إلا عبر شراكاتٍ ثنائية مع دوله، باتت الآن مشروطةً بمضامين تصريحاتٍ لافتة وإيحائية صادرة عن مسؤولة وزارة الخارجية الصينية، تضع التعاون الاقتصادي في كفة مقابلةٍ لعدم مشاركة الدول لواشنطن في حملتها على الصين، ولا سيما في أي عقوباتٍ متوقّعة عليها على خلفية علاقاتها بروسيا. وهذا يضع واشنطن لاحقاً في موقف صعب ضمن التحالف الغربي، يمكن أن يؤدي إلى فشلها في قيادة التحالف بصورةٍ علنية لأول مرة.
أيضاً على المستوى الدولي، في أفريقيا والشرق الأوسط، كما في أميركا الجنوبية وشبه الجزيرة الهندية، تسارع الدول إلى رفض الهيمنة الأميركية، وتشبك علاقات متزايدة مع الصين. لقد أصبحت الأخيرة بديلاً سياسياً وليس اقتصادياً فقط عن واشنطن، بالنسبة للعديد من الدول. بينما أصبحت روسيا أيضاً، و"فاغنر" تحديداً، شريكاً أمنياً رئيساً في أفريقيا.
هذا يقود إلى ضرورات جديدة، تضيّق على واشنطن هامش الوقت في أوكرانيا، في حين تزيد أزمة التضخم، وأزمة الاقتصاد الغربي عموماً هذه الأيام من خطورة هذه المعطيات.
على المستوى الداخلي، أيضاً التضخّم في أميركا لا يبدو قابلاً للّجم بصورةٍ فاعلة ومستدامة، من دون المخاطرة بقيمة الدولار على المستوى العالمي. أزمة رفع سقف الدين لا تزال تشكّل معطى سياسياً ومالياً في الوقت نفسه، لكن انعكاساتها تتأرجح بين احتمالين أحلاهما مرٌّ. إما رفع سقف الدين والمخاطرة باستمرار زيادة التضخّم، أو التخلّف عن السداد وتسريع انهيار الدولار.
ولمزيد من الإيضاح، فإن الولايات المتحدة غير متخلّفة عن السداد أو عاجزة عنه بالمعنى التقني. بل إن وسائل السداد والضرورات التي يفرضها أصبحت عالية المخاطر على الدولار كما على الاقتصاد الوطني. فإما المزيد من طباعة النقود غير المضمونة، أو السداد من اقتطاعاتٍ في الموازنة كانت تذهب لتغطية خدماتٍ عامة وأهداف اجتماعية، أو التخلّف عن السداد أخيراً.
كلّها احتمالاتٌ سيئة للولايات المتحدة، وللديمقراطيين تحديداً، قبل سنة فقط من الانتخابات الرئاسية. ذلك أن احتمال تمويل السداد من اقتطاعات الخدمات الاجتماعية يمكن أن يكون إيجابياً للجمهوريين، بحيث يساعدهم في زيادة النقمة على بايدن وإدارته.
الهجوم المنتظر مهدّد
في ظل هذه الأجواء، طرأ حدث جديد على المشهد المتعلّق بالحرب بالوكالة مع روسيا. مسيّرتان تستهدفان الكرملين، يقول الأخير إنهما استهدفتا محاولة اغتيال الرئيس الروسي، ويحمّل واشنطن مباشرةً مسؤولية الانخراط في هذه العملية، وهو تطوّر خطر يصلح كسببٍ لإعلان الحرب. لكنّ الردّ الروسي كان منضبطاً وحازماً في الوقت نفسه.
تمثّل الحزم بتأكيد حتمية الردّ عملياً على هذه الأفعال، وبتحميل واشنطن المسؤولية عنها من دون مواربة. أما الانضباط فكان بتأجيل الردّ العملي، وعدم الذهاب مباشرةً إلى أعمال متوترة عالية المخاطر.
من ناحية عسكرية، يمكن أن يكون سبب ذلك تقدير روسي بأن الهدف من هذا العمل هو جسّ نبض واستطلاع للدفاعات الروسية، لمعرفة ماذا جهّزت موسكو دفاعياً قبل بدء الهجوم. وماذا جهّزت في موسكو وحول الكرملين بالتحديد.
ذلك أن التصريحات الغربية، وتحديداً الأميركية، وأوضحها تصريحات قبل أسابيع قليلة لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، تدعو جميعها الدائرة القريبة من بوتين إلى التحرّك وإحداث التغيير، في دعوةٍ واضحة لاغتيال الرجل. إنه بالنسبة لواشنطن الخيار الأقل تكلفة فيما لو تمّ من الداخل الروسي، ووضع في إطار الصراع السياسي، أو الاعتراض الداخلي على الحرب.
لكن في المقابل، التحريض على ذلك، وفشله، يمكن أن يؤدّيا إلى كارثة كبرى في العلاقات بين البلدين، تؤدي إلى الحرب المدمّرة. فاستهداف رئيس روسيا ليس مسألةً عادية يمكن السكوت عنها في موسكو، إنها مسألة تمس المشاعر الوطنية عند الروس، وتحفّزهم على الحرب، بينما تصلح على المستويين الأمني والعسكري لإتاحة استخدام الأسلحة النووية استباقياً. لكن الإدارة السياسية الروسية فضّلت ابتلاع الحدث الآن، ومواصلة الغموض البنّاء في ردودها.
في غضون ذلك، تحوّل استهداف الداخل الروسي باغتيالات لشخصيات سياسية وإعلامية -آخرها محاولة اغتيال زاخار بريليبين-إلى نمط وسياق يحمل معه إشارات كانت متوقّعة في المرحلة المقبلة. حيث تعهّد الجيش الأوكراني بتحويل شبه جزيرة القرم إلى جبهة قتال جديدة مع القوات الروسية.
وعلّقت المتحدثة باسم قيادة عمليات الجنوب الأوكرانية العقيدة ناتاليا هومينيوك على الانفجارات التي تستهدف مواقع عديدة في شبه جزيرة القرم بالقول إن هذه الانفجارات ليست سوى البداية.
بدوره، قال رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف إن هدف أوكرانيا هو إعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم، التي ضمّتها روسيا لأراضيها عام 2014، مضيفاً "سيتمّ تحريرها لأن انتصارنا مستحيل من دون تحرير القرم".
لكنّ هذا النمط من الأعمال لا يمكن أن يحقّق نصراً في المعركة، بل إن فوائده للأوكرانيين من ناحية زيادة أعباء الأمن الداخلي الروسي يقابله تزخيم الشعور الداخلي بضرورة القضاء على أوكرانيا كدولة، وهو احتمالٌ مطروح بالنظر إلى الأطماع المحيطة بها من ناحية، وإلى عجز ميزانيتها وتلبّد أفق الدعم الغربي لها مع توسّع الأزمة الاقتصادية مستقبلاً.
كلّ ذلك يقود إلى أن انتظار الردّ الروسي غير المتصوّر على حادث الكرملين، والمعطيات العسكرية في باخموت وعلى طول خط الجبهة، ولا سيما استهداف القدرات العسكرية الأوكرانية والغربية التي استُقدمت لخدمة الهجوم المعاكس، وضعف أثر الضربات الأوكرانية في الداخل الروسي وباتجاه القرم، معطيات تقود إلى أن الهجوم المنتظر، قد لا يكون منتظراً بنتائج كبيرة، بل إنه قد لا يحدث.