"الهدايا" القادمة من السّماء.. عجز عربي ونفاق عالمي!

لوحظ وقوع كثير من الأخطاء الإجرائية في أثناء عمليات إلقاء المساعدات، أدّت إلى سقوط شهداء وجرحى من المدنيين الفلسطينيين. وبات مشهد الصناديق المندفعة نحو الأرض بسرعة كبيرة نتيجة فشل عمل المظلات، أو تمزقها في الهواء، مألوفاً لدى المواطنين.

  • كشفت حرب غزة أن المتفائلين بإمكان خروج النظم العربية من تحت العباءة الأميركية كانوا على خطأ.
    كشفت حرب غزة أن المتفائلين بإمكان خروج النظم العربية من تحت العباءة الأميركية كانوا على خطأ.

لم يعتد الغزيّون، طوال تاريخهم الحديث أو القديم، على رؤية طائرات الشحن الضخمة وهي تحلّق على ارتفاعات منخفضة فوق المدن والمخيمات الفلسطينية في قطاع غزة المنكوب بفعل القتل والحصار، ولم يتوقّعوا في يوم من الأيام ان يشاهدوا تلك الطائرات وهي تُلقي مظلات تحمل صناديق من المساعدات الغذائية والدوائية، والتي هم في أمسّ الحاجة إليها بعد أكثر من 160 يوماً من الحصار الإسرائيلي الخانق، والذي انعكست تداعياته الكارثية، وغير المسبوقة، على كل مناحي الحياة في القطاع الساحلي الصغير. 

بحسب عدد من البيانات الإعلامية، التي لا تخلو من كثير من المبالغة والتهويل، فإن جزءاً من هذه المساعدات مقدَّم من دول عربية كمصر والأردن والإمارات وغيرها، بينما الجزء الآخر مقدّم من الولايات المتحدة الأميركية التي تقود الحرب على غزة، ودول أخرى، مثل بريطانيا وفرنسا، وأنها، أي هذه المساعدات، تهدف إلى التخفيف من وطأة الحصار المفروض على سكّان القطاع منذ ما يزيد على خمسة أشهر، ولاسيما في ظل العراقيل الكبيرة التي تضعها قوات الاحتلال أمام حركة نقل المساعدات عبر المعابر والطرق البريّة، والتي يأتي معبر رفح بين قطاع غزة ومصر على رأسها.  

وللتذكير فقط لمن لا يعرف جغرافيا قطاع غزة عن قرب، فهذا المعبر يقع عند الحدود المصرية – الفلسطينية، وليس الإسرائيلية، إلا أنه للأسف لا يستطيع أحد الدخول او الخروج منه إلا بموافقة من "الدولة العبرية"، لأسباب يعرفها الجميع، ولا داعي للخوض فيها.

صحيح أن هذه المساعدات قد تساهم بصورة أو بأخرى في التخفيف من معاناة بعض السكّان، وخصوصاً من يحالفه الحظ منهم في الحصول على بعض ما تحمله من مواد غذائية، وخصوصاً الدقيق، وفي بعض الأحيان على قطعة من "اللحم"، والتي باتت خلال أشهر العدوان تُشكّل حلماً بعيد المنال لكثير من الناس، ولاسيما من فئة الأطفال، إلا أنها لم تؤدِّ لا من قريب أو بعيد إلى حلحلة الأزمة الإنسانية الطاحنة في غزة، لأنها ببساطة لا توفّر الحد الأدنى مما يحتاج إليه السكّان، سواء على مستوى الكم، أو النوع.

وهنا يجب الإشارة إلى حقيقة نلمسها من خلال معايشتنا الواقع عن قرب، وهي تتعلّق بالكمّيات التي تلقيها هذه الطائرات، إلى جانب المناطق التي يتم إسقاطها فيها، والتي كشف كثير من العمليات، التي جرت خلال الأسبوعين الأخيرين، فشلاً إجرائياً أدى إلى سقوط شهداء ومصابين من المواطنين الفلسطينيين.

على مستوى الكم، فهو أقل كثيراً مما يتم إعلانه من الدول التي تقدّم هذه المساعدات، ولوحظ أن الإعلانات الأميركية تحديداً تحاول ترويج معلومات مضلّلة، بعيدة كل البعد عن الواقع، وهي تُعَدّ استمراراً لحملة الكذب والتضليل الأميركية فيما يخص كثيراً من تفاصيل العدوان على غزة، والدور الذي تؤديه في هذا المجال.

بحسب شهادات كثير من السكان، الذين وصلوا بصعوبة بالغة بسبب التدافع والأعداد الكبيرة إلى أماكن سقوط بعض المساعدات، فإن الحديث يدور عن طرود متوسطة الحجم، لا تزيد في أحسن الأحوال على نصف طن، وهي تشتمل على كمية محدودة جداً من الدقيق – هناك تركيز واضح على تخفيض نسبة الدقيق -، إلى جانب بعض عبوات حليب الأطفال، والتي لا تُستخدم عادة في غزة، بالإضافة إلى بعض الفواكه واللحوم وغيرها.

لو قمنا بعملية جمع بسيطة لعدد الصناديق التي تُلقى يومياً بصورة غير منتظمة، لوجدنا أنها أقل كثيراً مما يُعلَن، أو يتم ترويجه في وسائل إعلام بعض الدول، وأن هذه الكميات لا تؤدي إطلاقاً إلى إحداث أي فارق يُذكر على صعيد الأزمة الإنسانية، التي تحتاج، بحسب إفادات الهيئات الدولية المعنية بهذا الشأن، إلى جهد أكبر وأشمل ومستدام.

على صعيد آخر، لوحظ وقوع كثير من الأخطاء الإجرائية في أثناء عمليات إلقاء المساعدات، أدّت إلى سقوط شهداء وجرحى من المدنيين الفلسطينيين. وبات مشهد الصناديق المندفعة نحو الأرض بسرعة كبيرة نتيجة فشل عمل المظلات، أو تمزقها في الهواء، مألوفاً لدى المواطنين، وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط خمسة شهداء قبل أيام، كما أعلن الدفاع المدني الفلسطيني، مع أن من المفترض لعمليات كهذه أن تكون آمنة، وخصوصاً في ظل سرعة الرياح المعتدلة في غزة من ناحية، إلى جانب تحليق الطائرات على علو منخفض، الأمر الذي يقلّل من المسافة بينها وبين الأرض، ويقصّر المدة الزمنية من لحظة إلقاء الطرود حتى وصولها إلى اليابسة.

بحسب كثيرين من شهود العيان، والذين باتوا يستطيعون التفريق بين أنواع الطائرات، سواء من ناحية الشكل، أو بعض الإشارات الموسومة بها، فإن أغلبية العمليات الفاشلة كانت من طائرات أميركية من طراز C130 الأميركية، والتي تُعَدّ من أكفأ الطائرات على مستوى العالم، وهي الوسيلة الأكثر استخداما لدى الجيش الأميركي في عمليات النقل الجوي، سواء التكتيكي او الاستراتيجي، ويمكنها القيام كذلك بعمليات إنزال لفرق الكوماندوس القتالية.

وعلى الرغم من أن الجيش الأميركي نفى مسؤوليته عن "الأخطاء" التي وقعت، وحاول إلصاق التهمة بدول أخرى، فإن هذا الأمر فتح الباب أمام كثير من التساؤلات المتعلّقة بأن يكون هذا العمل مقصوداً، أو على أقل تقدير يحوي نوعاً من الاستهتار، وعدم المسؤولية، والاستخفاف بحياة الفلسطينيين.

نقطة أخرى يمكن أن نشير إليها في هذا الإطار نفسه، تتعلّق بسقوط المساعدات في عرض البحر أحياناً، وفي أحيان أخرى داخل مستوطنات العدو إلى الشمال من حدود قطاع غزة، في حين سقط بعضها في مناطق قريبة جدا من الحدود الشرقية للقطاع، وهي المناطق التي دمرها "جيش" الاحتلال، ونسف مبانيها، وجرّف بياراتها، وبالتالي يستحيل الوصول إليها، وهو ما يمنع الناس من الاستفادة من المساعدات التي سقطت فيها أو في جوارها! 

وهذا ما يجعل كمية الأسئلة بشأن هذا الأمر، وإمكان أن يكون مقصوداً، تزداد وتتوسّع، وهو ما يعزّز نظرية المؤامرة التي تُلقي ظلالها على كثير من تفاصيل المشهد في قطاع غزة.

بعد هذا العرض المفصّل لقضية باتت تشغل بال كثيرين، ولاسيما من المحاصَرين في غزة، وتملأ مساحة لا بأس بها عبر الشاشات ووسائل الإعلام المتعددة، دعونا نسأل عن السبب الحقيقي من وراء استخدام هذه الوسيلة لإيصال المساعدات إلى قطاع غزة، وخصوصا أن الجميع يعرف، بمن فيهم من يقومون بذلك من دول عربية وأجنبية، أنها ليست الوسيلة الأنجع، ولا الخيار الأسلم، وأن مردودها الحقيقي ضعيف للغاية، ولا تكاد تؤدي إلى أي حلول تُذكَر على صعيد الحد من الأزمة الإنسانية الطاحنة في القطاع المنكوب.

بحسب وجهة نظري، فإن هناك عدة أسباب تقف وراء اللجوء إلى هذا الخيار، أولها محاولة التقليل من الانتقادات الحادة التي طالت جميع الدول التي لم تساند الشعب الفلسطيني في غزة، وأظهرت عجزاً قاتلاً تجاه ما يحدث فيها من مجازر وحصار، على نحو فاق في بشاعته كل ما حدث خلال القرن الأخير.

والحديث هنا يدور عن دول عربية بعينها تجاهلت مأساة الغزيين، ومنعت شعوبها من مجرد التظاهر السلمي مناصرة لهم، بل إن أراضيها تحتضن كثيراً من القواعد العسكرية الأميركية، التي تمد الكيان الصهيوني بالسلاح، وتوفّر له كل ما يحتاج إليه من دعم لوجستي يقتل به الفلسطينيين، ويمارس بحقهم إبادة جماعية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.

وكأني بهذه الدول تحاول، من خلال ما تقدمه من "فتات" لا يسمن ولا يغني من جوع، تبرئة ذمتها، وتبييض صورتها، والتكفير عن تقصيرها بحق الشعب الذي كان على الدوام إلى جانبها، وفي أحيان كثيرة قام أبناءه في بناء حضارتها، ووضعها في طريق التقدّم والحداثة، بعد أن كانت تعيش عصورا طويلة من الجهل والفقر، على رغم امتلاكها مخزوناً هائلاً من الثروات الطبيعية.

فيما يخص الولايات المتحدة الأميركية، فهي تحاول، كما العادة، القيام بعملية خداع وتضليل، تسعى من خلالها لإظهار نوع من التوازن في موقفها الذي بانَ انحيازه بصورة مطلقة إلى الكيان الصهيوني، ووصل إلى حد المشاركة المباشرة في العدوان، بالإضافة إلى تماهيها الواضح مع مطالب "دولة" الاحتلال المتعلّقة بتقليص حجم المساعدات من خلال الطرق البرية، على رغم إعلانها عكس ذلك عبر وسائل الإعلام، وهذا الأمر ظهر جليّاً في عدم قيامها بأي ضغط حقيقي يساعد على زيادة كمية المساعدات من خلال المعابر، على رغم قرار مجلس الأمن الصادر في الثاني والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي، والذي نص على زيادة كمية المساعدات المقدّمة إلى قطاع غزة، وعدم وضع العراقيل أمامها.

إلى جانب ذلك، تسعى الولايات المتحدة لتقليص صلاحيات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، "الأونروا "، وقادت حراكاً مع حلفائها أدى إلى وقف الدعم المقدم إلى هذه الهيئة الأممية، في إشارة واضحة إلى دعم الموقف الإسرائيلي الساعي لزيادة الضغط على الفلسطينيين، والهادف إلى إفقارهم وتجويعهم كإحدى وسائل الضغط التي يحاول ممارستها على المقاومة لتقديم تنازلات.

ختاماً، يمكننا القول إن الحرب على غزة، والتي ارتكبت فيها "دولة" الاحتلال جرائم بشعة، لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً، واستخدمت فيها سلاح الحصار والتجويع لقهر الشعب الفلسطيني، والضغط على مقاومته الباسلة، كشفت، بما لا يدع مجالاً للشك، عجزاً هائلاً يعانيه النظام العربي الرسمي، وانسحب بعض تداعياته الكارثية على الشعوب أيضاً، والتي، إلا من رحم الله، جلست في مقاعد المتفرّجين، تراقب أحداث المجزرة، وتذرف الدموع من دون أي فعل حقيقي يُذكر.

كشفت حرب غزة أن المتفائلين بإمكان خروج النظم العربية من تحت العباءة الأميركية كانوا على خطأ، فلا الحكّام امتلكوا الشجاعة لاتخاذ قرارات تاريخية تضعهم في مصاف العظماء، كما الرئيس البرازيلي الشجاع لولا دا سيلفا، ولا هم قاموا بخطوات ملموسة يكفّرون بها عن خطاياهم السابقة بحق شعب فلسطين المظلوم، كما فعلت جنوب أفريقيا الصديقة. 

على مستوى العالم، كشف العدوان على غزة كمية هائلة من النفاق امتازت بها مجموعة من الدول، وسيطرت على تصرفاتها التي بدت منحازة إلى حد بعيد لمصلحة الاحتلال، بل إن بعضها، مثل ألمانيا على سبيل المثال، والتي ليس لها ناقة ولا جمل، أرسلت طائرات استطلاع للمشاركة في الحرب، ومساندة العدوان.

النفاق العالمي، الذي تتقنه أميركا وبريطانيا وغيرهما، ظهر في أبشع صوره، وساهم بصورة مباشرة في زيادة أمد الحرب، وارتفاع تكلفتها في كل الأصعدة، وأدى إلى استخفاف الاحتلال بكل المناشدات والمطالبات، وإلى ضربه بعرض الحائط كل القرارات المتعلّقة بوقف العدوان، أو على أقل تقدير التخفيف من وطأة الحصار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية من دون أي عراقيل.

لكن، على الرغم من كل ذلك، فإن هذا الشعب الشهم والأصيل، والذي لم يعتد يوماً أن يرفع الراية البيضاء امام أعدائه، وصمد وقاوم خلال أكثر من 75 عاماً، قدّم خلالها تضحيات جمّة، من دماء أبنائه الشجعان، ومقاتليه الأبطال، قادر بمساندة الشرفاء من أمتنا على تخطّي هذه المحنة، وتجاوز آثارها، كما فعل في كثير من مراحل ثورته المستمرة والمتواصلة.

قادر، على رغم الجوع والفقر والحصار، على التحليق من جديد كطائر العنقاء، ليرفع شارة النصر فوق مآذن غزة المدمّرة، وفي ساحاتها وميادينها المهدّمة.

قادر بعنفوان شبانه، وحكمة شيوخه، وصبر نسائه وبناته وثباتهن، على الخروج من هذه المأساة، أكثر قوة وإرادة، وأكثر عنفواناً ورغبة، ليبني وطنه، ويُعيد مجده، ويحتفل بنصره، موقنا بقول الله عز وجل: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوّان كفور".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.