المنطاد كفزّاعة في سياق الصراع العالمي
لا تزال بكين وواشنطن ترتبطان بمصالح واسعة النطاق، وبحجمٍ هائلٍ لا يمكن تصور انهياره في وقتٍ قصير.
لم تكن زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، والتي كانت مقررةً إلى الصين لتحلّ مشكلات الحرب الباردة الدائرة بين أكبر اقتصادين في العالم، لكنها كانت بالتأكيد خطوةً مهمةً على طريق تبريد الخلافات أو تأجيل انفجارها بالحد الأدنى، وكسب الوقت بانتظار وضوح مآلات الحرب الدائرة في أوكرانيا. لكن حدث المنطاد الصيني وتفجيره فوق الولايات المتحدة أودى بالزيارة، وزاد سبباً إضافياً إلى أسباب الصراع بين القوتين العالميتين.
كما طرح هذا الحدث أسئلةً جديدة عن المستقبل القريب للعلاقات المشتركة بين واشنطن وبكين، وأعاد خلط التوقعات وترتيبها بشأن سيناريوهات الانفجار ومواقيته. فما الغرض من إرسال المنطاد إلى فضاء الولايات المتحدة، خصوصاً مع توفر وسائل أكثر تطوراً لدى الصين فيما لو أرادت التجسس على أميركا، ولماذا الآن؟ وفيما لو كان حدثاً غير مقصود كما كرر مسؤولون صينيون، كيف يمكن أن يبتعد منطادٌ مدني إلى هذه المسافة عن الصين مع وجود محيط فاصل؟ ولماذا تعاملت الولايات المتحدة مع الأمر بهذه الجدية وأعطته كل هذا الاهتمام، بل الترويج الإعلامي؟
كثيرةٌ هي الأسباب التي أوصلت العلاقات بين الطرفين إلى أدنى مستوياتها قبيل انفجار هذه الأزمة. إطارها الكبير هو التنافس العالمي على السلطة والسطوة والموارد، ومسارحها متعددة، من خطوط التجارة العالمية إلى الأسواق الجديدة والتنافس التكنولوجي والمواد الأولية، وصولاً إلى القوة العسكرية والنفوذ السياسي على المستوى العالمي.
صناعة الفزّاعة
مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، زادت الولايات المتحدة ضغوطها على الصين، لمنعها من تأييد روسيا والدفع بثقلها بصورةٍ علنية في المواجهة. هي تعلم أن من مصلحة بكين أن يخسر التحالف الغربي هناك، كما أنها تعلم بفهم الصين أسباب هذه الحرب وأهدافها، وتوقعها أن تكون الموضوع التالي للتحالفات الغربية، العسكرية والسياسية منها. لكن الصين، من جانبها، كانت تفهم أيضاً صعوبة الانخراط المباشر في الصراع المبكر، قبل أن تكتمل شروط قوتها لخوضه. فالغرب مجتمعاً أقدر عسكرياً منها، وهو حتى اليوم كتحالفِ لا يزال محتفظاً بالتفوق على المستويين العسكري والسياسي، ذلك أن النظام العالمي الحالي بمؤسساته وآلياته مستمرٌ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعديلاته الكبرى التي أحدثها انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، عززت السيطرة الغربية. لم تظهر الصين كقوةٍ اقتصادية ناشئة وبارزة سوى في أواخر القرن الماضي ومع بداية الألفية الجديدة. لقد بدأت في ذلك الوقت استراتيجية الانفتاح والإصلاح التي أطلقتها بكين منذ العام 1979 تثمر، لكن ذلك لم يكن مصحوباً بطموحاتٍ سياسية وعسكريةٍ معلنة. كانت الصين تمد خيوط التعاون الاقتصادي للعالم، من دون أي ملامح للرغبة في السيطرة أو ممارسة النفوذ في الخارج. كانت، في المقابل، تقدم صورة الشعب العامل بجد، والمدمن على الإنتاج، والذي تشكّ في كونه ينام كبقية البشر.
لكن، مع مرر السنوات، كان التخويف من الصين يكبر. بدأت الدراسات ومراكز التفكير بنشر موادها عبر العالم عن الصعود الخطر لقوة آسيا، وتم تدعيم هذه المواد بأرقام حقيقية تاريخية للنمو الاقتصادي الصيني. فمع نسب نمو سنوية تفوق الـ 10%، صارت المعجزة الاقتصادية الصينية حديث العالم. رافق ذلك استحضارٌ لمخاوف الجيران الآسيويين ولمّهم ضمن تحالف أصدقاء أميركا بعناوين مختلفة، وبما أن الصين لم تبدِ أي إشارة قوة فعلية ضد جيرانها، كان التركيز الأميركي ينصب على استخدام كوريا الشمالية، حليفة الصين، كفزاعةٍ عالمية حادة الأنياب. كثرت قصص الغرائب عن النظام الكوري الشمالي، و"جنون" رئيسه كيم يونغ أونغ، واتسقت هذه القصص، الحقيقي منها والمضخم، مع مسار تشكيل رأي عام عالمي يرى في هذا الرجل شيطاناً خفيف الظل، لكن بموازاة ذلك، كانت الرسالة الإعلامية الدائمة التي تتسلل بسرية بين المواد الجدية والمبتكرة تقول إنه "ميني شيطانٌ صيني". المعنى الأهم كان باستمرار أن الصين ديكتاتورية تسعى لتسود العالم، والنموذج الذي يجب أن تحفظوه هو زعيم كوريا الشمالية.
في مقابل ذلك، كانت بكين تواصل إدارة سياسة ودية مع الغرب، وخصوصاً مع الولايات المتحدة. أرقام الاستثمارات الصينية في الاقتصاد الأميركي وفي السندات الحكومية تحكي ذلك. إلى أن جاءت رئاسة باراك أوباما الثانية لتضع مواجهة الصين هدفاً استراتيجياً كبيراً لواشنطن. حينها، انطلقت صافرة بداية الحرب المقبلة، وبدأت ساعة الصراع بالتحرك. ومع الرئيس التالي دونالد ترامب، تم الإعلان عن الحرب التجارية بوضوحٍ وفخر. نخوض حرباً مع الصين، ونريد جعل أميركا عظيمة مجدداً، أما بالنسبة إلى كل الحلفاء (وبقية العالم) الذين نسجوا خيوط التعاون لسنوات طويلة مع بكين، فالجواب على كل مصالحهم وخططهم هو أن "أميركا أولاً".
من التعاون إلى المواجهة
لكن التركيز على الاقتصاد والتنمية لم يكن حلماً. فالصين حضارة قديمة تدرك طبيعة العالم، وسيرة القوى الكبرى بقديمها وجديدها، وتعرف ديناميات الصراع عن ظهر قلب، وأن لا قوة اقتصادية تحمى بالورود فقط. لذلك، كان تطوير القدرات العسكرية عملاً دائماً لها، زادت نفقاته منذ العام 1979 بصورةٍ كبيرة للغاية، ومنذ التسعينيات كانت اختبارات الصواريخ الصينية تتوالى، خصوصاً أن أزمة تايوان كانت تلوح في الأفق منذ التسعينيات بصورةٍ أكثر وضوحاً.
في عام 2008، ساهمت الصين بصورةٍ كبيرة في حماية النظام المالي العالمي، ولم يظهر يومها أنها استغلت تلك الأزمة لإحداث تحوّلٍ في هذا النظام، حتى إن موقعها في النظام الاقتصادي الدولي لم يتغير كثيراً. تصرفت عوضاً عن ذلك كشريكٍ رأسماليِ كامل فيه، وساهمت في تخفيف وطأة الأزمة ومنع انهيارات أكثر دراماتيكية في الولايات المتحدة نفسها، خصوصاً أنها أكبر حملة الديون الأميركية.
وعلى الرغم من ذلك، كان تحفيز جيرانها على مناوءتها كبيراً ومستمراً منذ ذلك الوقت، وهي بدورها واجهت بتحدٍ ومن دون هوادة أي بوادر لزعزعة استقرار مجالها القريب، لكن بالنتيجة، صارت دول آسيا المحيطة بها بمعظمها حليفة للولايات المتحدة، وتحتاج حماية دائمة منها، وتحولت الصين إلى مصدر الخطر الذي يُخشى.
هذا الواقع وفّر التبريرات الضرورية للحضور العسكري الأميركي في شرق آسيا، من جنود وقواعد عسكرية وبوارج واتفاقيات وتسليح وإدارة تحالفات، حتى وصلت إلى تأسيس "أوكوس" العام الماضي، للعناية بأمن المحيطين الهادئ والهندي، وبات أكثر من نصف القوة البحرية الأميركية منتشراً في آسيا.
لكن هذه الأحداث، وتفاعلات السنة الأخيرة خصوصاً، ووهج الأزمة الأوكرانية بالأخص، غيّرت الصين، وبدّلت لغة دبلوماسيتها، لتعلن التشدد داخل نظام الحكم فيها بشأن التسامح مع أميركا، خصوصاً خلال مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم الأخير، والذي حسم خلاله الرئيس شي جين بينغ التنافس الداخلي لمصلحته في وجه حمائم الإدارة تجاه واشنطن، كما أطلقت بكين خطة بناء قوتها البحرية العسكرية للمياه العميقة، وأظهرت أنيابها في قضية تايوان، وبدأت بإرسال رسائل القوة في أكثر من اتجاه. لقد كانت هذه الأحداث مناسبات ملائمة للقول إن بكين لن تنتظر الحرب في مكانها، ولن تقف متفرجةً بانتظار احتشاد التحالف الغربي حولها كفريسة، كما يحدث مع روسيا في أوكرانيا، بصرف النظر عن مآلات ذلك، والصورة النهائية بعد جلاء الغبار.
خاضت بكين منازلة التنافس على الموارد في أفريقيا، وقطعت أشواطاً كبرى هناك. شاركت في توفير العمق اللازم لمنع عزل روسيا عن النظام العالمي، ومن دون تدخل مباشر، كانت تزيد الضغوط في المسألة التايوانية وترفع نسق استجابتها هناك، وكان كل ذلك يؤدي إلى توزع تركيز الغرب بينها وبين أوكرانيا، وزيادة حساباته تعقيداً. وكما كانت واشنطن تستبطن مواقفها من روسيا تهديدات لبكين، كانت الأخيرة تضمن ردودها على تايوان تهديدات واضحة لواشنطن.
ومع زيادة حدة المواجهة في أوكرانيا، كانت معالم حدث مهم وكبير تتشكل. إنها المرة الأولى منذ بداية سيطرته العالمية (مطلع السبعينيات من القرن الماضي تحديداً) التي يتم تحدي الدولار فيها. الصين وروسيا تتبادلان بالعملات المحلية. تنضم دول أخرى إلى المبادرة، يصبح التبادل بالعملات المحلية موضةً عالمية بسرعة قياسية، الهند ودول الخليج، الهند وروسيا، روسيا ومصر، روسيا وإيران تقتربان من توحيد نظاميهما المصرفيين... معطيات كثيرة تتراكم بسرعة ضمن هذا السياق. وهو ما يمكن أن يؤدي إلى أزمة كبرى للدولار. وإن تداعت الأحداث، هناك من الخبراء من يتوقع انهياراً وشيكاً للدولار، إلى جانب ما يمكن أن يحمله ذلك.
وعلى الرغم من كل ذلك، لا تزال بكين وواشنطن ترتبطان بمصالح واسعة النطاق، وبحجمٍ هائلٍ لا يمكن تصور انهياره في وقتٍ قصير.
لكن، من المعلوم أيضاً، أن التفوق العالمي للإمبراطورية الأميركية يقف على هيكل ثلاثي القوائم: الدولار، القوة العسكرية الطاغية، والإمساك بالمؤسسات الدولية الناظمة. وهذا القائم الأخير يكون عادةً انعكاساً لحضور السببين الأولين. الآن، تتحدى روسيا عسكرياً الغرب مجتمعاً في أوكرانيا، وتقود الصين موجة تحدي الدولار، بمشاركة دول كبرى وأخرى من الحجم الإقليمي تسعى لمصالحها، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك بجدية واضحة. هذا بالتأكيد يقرع جرس إنذارٍ مدوٍ في واشنطن.
المنطاد في هذا السياق
ثم، في خضم كل ذلك، يطير منطادٌ صيني فوق ولاية مونتانا الأميركية، وبالتحديد فوق منطقة تضم "صواريخ نووية بصوامع تحت الأرض ومواقع عسكرية حساسة"، بحسب التصريحات الأميركية. تلغى زيارة منتظرة خمس سنوات لوزير الخارجية الأميركي إلى بكين، وتسارع الأخيرة إلى القول إن منطادها غير مأهول ومدني وغرض استخدامه محصورٌ بالبحوث المتعلقة بالأحوال الجوية، لكن هذه الأحوال الجوية هي المسؤولة عن خروجه عن مساره.
واشنطن كانت ترى أن الزيارة لن تؤدي إلى اختراقات في جدار الخلافات الثنائية، لكنها كانت بحسب بلينكن محاولة لتجنّب انحراف المنافسة وتحولها إلى صراع. في الواقع، ربما كانت محاولةً لإبطاء تسارع انفجار الأزمات الدولية إلى حين تغير ظروف المواجهة في أوكرانيا. العام المقبل، سوف يشهد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وحتى ذلك الوقت، لن يكون مفيداً لإدارة بايدن أن تفتح كل الملفات دفعةً واحدة، وفي مواجهة قوى كبرى مجتمعة في المقلب الآخر. المؤشرات على تمرد مزيد من القوى الإقليمية في وجه واشنطن تتزايد، وهو إن لم يرقَ إلى التمرد، فسيكون على الأقل عدم التزام تام بالمصالح الأميركية، كان مضموناً إلى وقتٍ قريب.
هذه القراءة تستبعد أن يكون حدث المنطاد مناسبةً لتفجير واشنطن أزمة كبرى مع الصين لكنها، في الوقت نفسه، روّجت للحدث بأنه بالغ الخطورة، وفتحت وسائل الإعلام الغربية هواءها لساعات لنقل عملية إسقاطه.
هكذا يبدو أن واشنطن تريد تحقيق الاستفادة القصوى من حدثٍ هو إما يحتوي على رسالةٍ صينيةٍ مباشرة، نظراً لوجود وسائل أخرى أكثر تطوراً لممارسة التجسس، وإما يكون حدثاً عرضياً بالفعل، ونتج من انحرافٍ للمنطاد من خارج إرادة بكين. في الحالتين، من مصلحة واشنطن الاستفادة بأكبر قدرٍ ممكن من ترويج الخطر الصيني وإظهار بكين كقوة تجسس كبرى مخيفة لبقية الدول، وخصوصاً تلك التي في محيطها، تأسيساً لمرحلةٍ يُطلب فيها من دول العالم مواجهة هذا الخطر.
وحيث إن هذا الطلب يتجاوز بصعوبته بمسافة بعيدة الطلب من الأوروبيين الاستغناء عن الاعتماد على الغاز الروسي، فإن واشنطن حين تقرر توجيهه، يحتاج إلى مخزون كبير من الخوف المتراكم لدى الكثير من دول العالم التي باتت الصين بالنسبة لها الشريك التجاري الأول، خصوصاً أن البشر لم يبتكروا حتى اليوم وسيلةً للقيادة والسيطرة وتوجيه الإرادات أكثر فاعليةً من الخوف.