"فورين بوليسي": أوروبا وحيدة.. كيف يبدو مستقبل القارة من دون أي دعم أميركي؟
يُحتمل أن تكون ولاية ترامب الثانية، إلى جانب التآكل الحقيقي للروابط عبر الأطلسي في وقت يتسم بالتهديدات المتزايدة لأوروبا، الأزمة التي تقصم ظهر الاتحاد الأوروبي.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً تتحدث فيه عن مستقبل أوروبا، بعد خروج محتمل قد يقوم به دونالد ترامب إذا فاز بالرئاسة، من حلف الناتو، مستندةً بذلك إلى ملاحظات وآراء من تسعة مفكّرين هم:
مارك ليونارد، وهو المؤسس المشارك ومدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وكونستانزي ستيلزينمولر، وهي مديرة مركز الولايات المتحدة وأوروبا في "معهد بروكينغز"، وناتالي توتشي، وهي باحثة وأستاذة جامعية ومديرة معهد الشؤون الدولية، وكارل بيلت، وهو الرئيس المشارك للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ورئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق للسويد، وروبن نيبليت، وهو زميل متميّز ومدير سابق ورئيس تنفيذي في المعهد الملكي للشؤون الدولية، ورادوسلاف سيكورسكي، وهو وزير خارجية بولندا، وجونترام وولف، وهو زميل أول في جامعة "بروجيل" وأستاذ في كلية "ويلي براندت" للسياسة العامة بجامعة "إرفورت"، وبيلاهاري كوسيكان، وهو رئيس معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية والسفير المتجوّل السابق لوزارة الخارجية السنغافورية، والممثل الدائم لدى الأمم المتحدة، والسفير لدى روسيا، وإيفان كراستيف، وهو رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية في صوفيا، بلغاريا، وزميل دائم في معهد العلوم الإنسانية في فيينا.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
على مدى السنوات الـ75 الماضية، لم تكن أي مجموعة من البلدان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة كما كانت عليه أوروبا. فقد ازدهر نصفها الغربي، منذ نهاية الحرب الباردة، وقسم كبير من نصفها الشرقي بموجب السندات الأكثر شمولاً على مستوى العالم في مجالات التجارة والتمويل والاستثمار. كما استطاعت أوروبا الاعتماد على التزام الجيش الأميركي، المنصوص عليه في حلف الناتو منذ 75 عاماً، للدفاع عنها. ومعاً، قامت الولايات المتحدة وأوروبا، إلى جانب عدد قليل من الدول الأخرى، بإنشاء الكثير من المؤسسات التي تمثّل ما نسمّيه بالنظام الذي يقوده الغرب. ويمكن القول إنّ التحالف الأميركي - الأوروبي كان بمثابة الدعامة الأساسية للنظام العالمي الذي نعرفه اليوم.
إلّا أنّ العصر الذي كان بوسع أوروبا أن تعتمد فيه على الولايات المتحدة قد يقترب من نهايته. وبغض النظر عمّن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر، فإنّ اهتمام واشنطن يتحوّل نحو بكين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي حال عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يُتوقّع أن تخفّف الولايات المتحدة في التزامها تجاه حلف شمال الأطلسي، أو حتى تنسحب من الحلف تماماً، وهو السيناريو الذي سيخيّم على قمة الذكرى السنوية الخامسة والسبعين للتحالف التي ستُعقد في واشنطن في تموز/يوليو.
لذلك، قد تواجه أوروبا قريباً تهديداتها بمفردها. فقد أطلقت موسكو أول حرب برية كبرى في أوروبا. وإذا تحوّلت الحرب في منطقة الشرق الأوسط إلى مواجهة أوسع، فقد ترسل موجات جديدة من المهاجرين إلى دول الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، تحوّلت القارة الأوروبية إلى مسرح للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، وكانت الحرب الروسية - الأوكرانية بمثابة الفصل الأول في المنافسة بين النظام الذي يقوده الغرب والتحالف الذي تقوده الصين.
وتكمن المشكلة بالنسبة للأوروبيين، باعتراف عدد من قادتهم ومفكّريهم طوعاً، في عدم استعدادهم لمواجهة عالم من القوة الصارمة. فقد أُوجد الاتحاد الأوروبي لإبعاد شبح الحرب عن القارة، ويبدو أنّ غياب حرب واسعة النطاق في أوروبا بين عامي 1945 و2022، وهي فترة سلام طويلة ومدهشة بالمعايير التاريخية، قد أثبت نجاح هذا المشروع. ولكن في مرحلة ما، ظنّ الأوروبيون أنّ الحرب قد اختفت في أماكن أخرى أيضاً؛ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنّ الأميركيين سيحافظون على سلامتهم دائماً. وفي هذا الإطار، قال جوزيب بوريل، منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أمام حشد في جامعة جورج تاون في آذار/مارس: "بدا الأمر كما لو كان الأوروبيون يقولون: في حال حدوث حرب، يرجى الاتصال بالولايات المتحدة".
من الناحية النظرية، يُعَدّ الاتحاد الأوروبي، بمواطنيه البالغ عددهم 450 مليون نسمة، واحداً من تكتلات القوى الكبرى في العالم. ويحتل ناتجه المحلي الإجمالي الجماعي المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة ويبلغ نحو 10 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في روسيا. والكثير من أعضائه، ولا سيّما تلك الدول القريبة جغرافياً من روسيا، تمتلك رؤية استراتيجية متشددة للعالم. إلا أنّه وبشكل عام، لم تترجم أوروبا مواردها الاقتصادية إلى قوّة جيوسياسية من ذلك النوع الذي يمكن أن يُبقي موسكو تحت سيطرتها، على سبيل المثال.
إنّ الشعور بأنّ عطلة أوروبا الطويلة من التاريخ قد انتهت بات ملموساً في العواصم الأوروبية. فبعد الحرب في أوكرانيا في عام 2022، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس عن حدوث تغيير في الحُقب. والمثير في الأمر أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حذّر من أنّ أوروبا "قد تموت" إذا لم تتكيّف بالسرعة الكافية مع هذا التغيير.
وبالتالي، يصبح السؤال: هل تستطيع أوروبا ضمان أمنها واستمرار ازدهارها بدعم أقل من الولايات المتحدة، وتعلّم كيفية التعامل مع ما أسماه بوريل "قسوة العالم المنسية" بمفردها؟ سألنا تسعة من المفكّرين البارزين عن آرائهم حول ما إذا كانت أوروبا مستعدة لمستقبل ما بعد الولايات المتحدة:
اتحاد أوروبي جديد تشكّله الحرب
لقد وفّر الكونغرس الأميركي لأوكرانيا وحلفائها الأوروبيين متنفّساً ضرورياً عندما وافق أخيراً على حزمة مساعدات بقيمة 61 مليار دولار أميركي في أواخر نيسان/أبريل. ولكن ما قد يحدث بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر لا يمكن التكهّن به. فعلى المدى الطويل، وبغض النظر عمّن سيفوز، يُرجّح أن يكون انخراط الولايات المتحدة في أوروبا قد بلغ ذروته. وبالتالي، سيتوقّف قريباً كل شيء على ما إذا كانت أوروبا قادرة على الارتقاء إلى مستوى الجهة الفاعلة الجيوسياسية وسط التقشّف الأميركي.
لقد شهدت أوروبا الكثير من البدايات الخاطئة منذ نهاية الحرب الباردة. فخلال حروب البلقان في التسعينيات، واجه الاتحاد الأوروبي عجزه في مواجهة الحرب للمرة الأولى. ولفترة من الوقت، بدا الأمر كما لو أنّه قادر على بناء المؤسسات والقدرات اللازمة لتحويل نفسه إلى جهة فاعلة جيوسياسية حقيقية. فقد أطلق سياسة الأمن والدفاع المشتركة وأنشأ وكالة الدفاع الأوروبية وهيئة الأركان العسكرية للاتحاد الأوروبي. وعندما لم تسفر هذه الجهود عن شيء، بدا ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 بمثابة لحظة أخرى من الحقيقة. وشهدت السنوات التالية بروز اتفاقية التعاون المنظّم الدائم، وهو إطار آخر للتعاون الأمني، وصندوق الدفاع الأوروبي. إلّا أنه وعند كل منعطف، كانت الجهود الرامية إلى تحويل الاتحاد الأوروبي من مشروع سلام إلى مشروع يتبنى القوة الصارمة، تُعرقَل بسبب الافتقار إلى التأييد من قِبَل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وكانت المصالح الوطنية الضيقة تتفوّق دائماً على المصالح الاستراتيجية الأكبر.
لقد غيّرت عملية روسيا في أوكرانيا في عام 2022 كل شيء من خلال إعادة فكرة إمكانية نشوب حرب واسعة النطاق في القارة الأوروبية. فهذه ليست مجرد أزمة أمنية، بل أزمة تمس جوهر هوية الاتحاد الأوروبي. ولم يجبر مرور أكثر من عامين على تلك الحرب الأوروبيين على التفكير بشكل مختلف بشأن السياسة فحسب، بل غيّروا أيضاً أمراً أكثر جوهرية يتمثل في كيفية تفكير الدول المختلفة في هويتها والغرض من المشروع الأوروبي. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، كان يُنظر إلى التكامل الأوروبي باعتباره مشروع سلام يركّز على الازدهار والتجارة ونوعية الحياة، ولكن الزخم نحو التكامل اليوم يأتي من الحرب. ومن خلال هذه التغييرات الأعمق في هوية القوى الأوروبية الأساسية، بدأت الخطوط العريضة لأوروبا الجيوسياسية الحقيقية تتشكّل للمرة الأولى.
إنّ انتقال الاتحاد الأوروبي من مشروع سلام إلى مشروع حرب له أبعاد كثيرة. التغيير الحاسم الأول يحدث في باريس. فبعد الحرب الباردة، فضّل الاتحاد الأوروبي فكرة أوروبا التعاونية والعالمية والأحادية القطبية على أوروبا متعددة الأقطاب حيث تتنافس الجهات الفاعلة على مناطق النفوذ. ولطالما شكّلت فرنسا العقبة الأكبر عندما يتعلق الأمر بإزالة الغموض المحيط بالدول العالقة في الخارج. فقد عارضت المشروع المقترح لانضمام كل من أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو في عام 2008، واستخدمت حق النقض ضد محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مع مقدونيا الشمالية وألبانيا في عام 2019. ولكن على مدى العامين الماضيين، شهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحوّلاً كاملاً في نظرته للأمور وبات من المؤيدين المتحمسين لتوسيع كل من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، بدءاً من كييف. وعليه، بات هناك إجماع أوروبي بشأن الحدود الاستراتيجية للقارة وإعادة تأسيس الاتحاد الأوروبي على طول الخطوط الاستراتيجية للمرة الأولى.
ولعلّ التحدي الأكبر تجسّد في إحجام أوروبا عن تبني القوة الصارمة حقاً. أمّا الآن، فقد قلبت ألمانيا، التي تشكّل أكبر عائق في أوروبا أمام الدفاع القوي، استراتيجيتها رأساً على عقب. ومنذ أن أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس أنّ العملية الروسية كانت بمثابة تغيير في الحُقب، لم تكن النتيجة تحوّلاً نموذجياً في الإنفاق الدفاعي فحسب (من المقرر أن تصبح ألمانيا خامس أكبر دولة تنفق على الدفاع في العالم بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند)، بل في العقلية أيضاً. ومن المؤشرات الملموسة على هذا التحول أنّ الحلفاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي سيصلون بشكل جماعي إلى هدف إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع هذا العام. وكان هذا التركيز على القوة الصارمة سبباً إضافياً في تغيير الكيفية التي تفكّر بها مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل في التعامل مع السياسة الاقتصادية. وفي السابق، كان يعتقد الاتحاد الأوروبي أنّ التأسيس للاعتماد المتبادل هو المفتاح لتحويل الخصوم إلى أصدقاء. أمّا اليوم، فينظر الاتحاد الأوروبي إلى طبيعة الاعتماد المتبادل، وهو مشغول بالتخلص من المخاطر التي يتعرض لها اقتصاده، وينظر إلى القوة الاقتصادية باعتبارها أداة جيوسياسية.
لطالما كان ظهور أوروبا الجيوسياسية عالقاً بين مفهومين متنافسين حول ما يعنيه في الواقع أن تكون جهة فاعلة جيوسياسية. فمن ناحية، سعت فرنسا من أجل تحقيق الاستقلال الاستراتيجي، لكن بقيامها بذلك خاطرت بالوحدة الأوروبية. ومن ناحية أخرى، دعت بريطانيا ومعظم دول أوروبا الوسطى والشرقية إلى تحقيق الوحدة بين شطري الأطلسي، ولكن على حساب الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي. واليوم، حلّت الحرب في أوكرانيا هذه المعضلة من خلال تسليط الضوء للولايات المتحدة على أنّ مشكلتها الكبرى ليست في أوروبا المستقلة بل في أوروبا المفرطة في الاعتماد، بينما تُظهر في الوقت نفسه لفرنسا أنّ الولايات المتحدة تؤدي دوراً حاسماً في حرب أوكرانيا ضد روسيا، لدرجة أنّه سيكون من المستحيل توحيد الاتحاد الأوروبي ضد واشنطن. وفي حال وصل حزب العمال البريطاني إلى السلطة هذا العام كما هو متوقّع، فمن المرجح أن تتعاون لندن مع الاتحاد الأوروبي في حال انتخاب ترامب. ومن المفارقات، أنّه على الرغم من العواقب المشؤومة بالنسبة لأوكرانيا، فإنّ عودة ترامب قد تخلق إطاراً لمزيد من التعاون الأوروبي.
إنّ النجاح في كل هذه المجالات محتمل بشدّة وليس مضموناً. ومن الممكن أن تغير السياسات الوطنية في هذه البلدان مساراتها بشكل جذري، وقد لا يكون هذا أكثر وضوحاً في فرنسا، حيث تتصدر ماري لوبان استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة. ومن الجدير بالذكر أنّ التغيّرات التي طرأت على ثقافة أوروبا وعقليتها وشعورها بالهوية، والتي أحدثتها حرب روسيا، ستستغرق وقتاً طويلاً وتتطلب صبراً حتى تنضج. إلّا أنّ هناك أسباباً تجعلنا نعتقد بأنّ هذه المرة ستكون مختلفة في نهاية المطاف.
أوروبا في قلب العاصفة
يشبّه رئيس الاستخبارات الداخلية الألمانية، توماس هالدينوانغ، حرب روسيا ضد أوكرانيا بالعاصفة، في حين يشبّه سعي الصين للهيمنة العالمية بتغيّر المناخ. إلا أنّ ما تواجهه أوروبا اليوم ليس أقل من عاصفة جيوستراتيجية نارية.
فروسيا لا تنفّذ هجوماً في أوكرانيا فحسب، بل تشن أيضاً حرباً هجينة على أوروبا. كما تنظر الصين إلى أوروبا باعتبارها جائزة استراتيجية: فهي تشتري البنية التحتية المادية والرقمية، وتستعد لشنّ حرب اقتصادية عن طريق إغراق الأسواق الأوروبية بالسيارات الكهربائية، وتحتفظ بمراكز شبه عسكرية على الأراضي الأوروبية لمراقبة المنشقين والضغط عليهم. وقد شكّل اختيار الرئيس الصيني تشي جين بينغ لفرنسا وصربيا وهنغاريا للقيام برحلته الأوروبية في أيار/مايو أوضح إشارة حتى الآن حول استراتيجية بكين في التعامل مع أوروبا: فرّق تسُد.
فبالنسبة لبكين وموسكو وبيونغ يانغ وطهران، تشكّل الحرب في أوكرانيا مجرد خط أمامي لصراع عالمي أكبر مع الولايات المتحدة، حيث تمثّل أوروبا وضواحيها مسرحاً رئيساً في هذا الصراع. وفي منطقة الشرق الأوسط، قد تنفجر الحرب بين "إسرائيل" وحماس وتتحول إلى مواجهة إقليمية أكبر، وتتسبب بحدوث هجرة جماعية إلى أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، فتحت روسيا جبهة أخرى في أفريقيا ساعدت على دفع قوات حفظ السلام الأوروبية والأميركية إلى الخروج من منطقة الساحل، ومنح الكرملين وسيلة أخرى للضغط على أوروبا.
وكل ذلك يمثّل نهاية الإجازة التي أخذتها أوروبا من التاريخ والجغرافيا السياسية. كما يمثّل فشلاً ذريعاً في عملية صنع السياسات، وأوله فشل رهان ألمانيا الاستراتيجي على العولمة المفرطة، استناداً إلى افتراض مفاده أنّ الترابط التجاري والاقتصادي من شأنه أن يضمن السلام والتعاون.
ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه أيضاً هي لحظة ولادة أوروبا الجيوسياسية. والدليل الأكثر وضوحاً على أنّ الأوروبيين قد أدركوا خطورة هذه اللحظة هو أنّهم نهبوا ميزانياتهم ومخازن الأسلحة الخاصة بهم لصالح أوكرانيا، ويعملون على زيادة معدل الإنفاق الدفاعي وعلى تطوير الدفاع الإقليمي والردع الإقليمي للمرة الأولى منذ الحرب الباردة. علاوة على ذلك، شهدت السياسات في العواصم الرئيسة تحولات جذرية؛ فباريس تريد الآن توسيع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بينما تقول برلين إنّها ترغب ببناء أقوى قوة تقليدية في القارة؛ في حين تسعى لندن إلى العمل مع الاتحاد الأوروبي؛ وهذا هو ما ترغب به أيضاً وارسو بعد ثماني سنوات من الحكومة المناهضة للاتحاد الأوروبي. وقد انضمت كل من فنلندا والسويد المحايدتين إلى حلف شمال الأطلسي؛ وحتى السويسريون يدرسون خياراتهم بهدوء.
وتُعدّ هذه التحوّلات حقيقية لأنها مدفوعة بالخوف. ولأنّ أسباب هذا الخوف حقيقية، فقد وُجدت هذه التحوّلات لتبقى.
ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير من العقبات الخطيرة. فالحكومات الوطنية لم تتمكن بعد من إيجاد السبل للتغلب على العمليات المؤسسية المرهقة، والقيود المفروضة على الميزانية، والتشرذم المتزايد في عملية صنع القرار السياسي؛ وقليلة هي الدول القادرة على صياغة الاستراتيجية ومتابعتها، والقوى الأوروبية الكبرى سيئة للغاية في العمل مع بعضها البعض. والدول الأصغر تشعر بالاستياء من جيرانها الأكبر حجماً لكونهم متعجرفين أو أنانيين، لكنها نادراً ما تتحداهم بمقترحات وبناء تحالفات خاصة بها. وبالتالي، فإنّ التغلب على الانقسامات العميقة بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، وبين المركز والأطراف سيتطلّب أفكاراً وقيادة؛ وكلاهما غير متوفّر في الوقت الراهن.
وعندما يلقي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطاباً عاطفياً آخر حول مستقبل أوروبا، قد يدير زعماء الاتحاد الأوروبي الآخرون وجوههم، لكنهم في المقابل لا يقدمون رؤية بديلة. فقليلون هم الساسة الذين يمتلكون الشجاعة للقول إنّ توجيه القارة بأمان خلال هذه الفترة الخطيرة لن يكون بالمجان ولكنه سيتطلب تضحيات - ليس فقط من حيث إعادة تحديد أولويات الإنفاق ولكن أيضاً بالمعنى الحرفي من حيث زيادة الردع عبر الاستعداد للقتال. أما بالنسبة لأوكرانيا، فإنّ أنصارها الأوروبيين يهنئون أنفسهم بانتظام على ما يفعلونه، ولكن الخوف من التصعيد يمنعهم من القيام بما هو ضروري لأوكرانيا لدفع روسيا إلى التراجع نيابة عن أوروبا. وهم يدركون أنّ هزيمة أوكرانيا ستكون كارثية على الأمن الأوروبي وتتطلب بذل جهود أكبر لردع روسيا في المستقبل، لكنهم لا يستطيعون حمل أنفسهم على متابعة ما يعرفون أنه صحيح.
إنّ هذه الإخفاقات لا تمنع أوروبا من التصرف بمفردها من دون الاعتماد على الدعم الهائل من الولايات المتحدة فحسب. بل هي تخاطر بتقسيم السياسة الأوروبية وإعادة تأميمها استناداً إلى رؤية كل دولة لروسيا وغيرها من التهديدات. ومن شأنها أن تجعل القارة غير محصّنة أمام أعدائها وعرضة للخطر أكثر مما هي عليه اليوم.
في المقابل، يحلم اليمين المتشدد في أوروبا بأوروبا مسيحية بيضاء غير ليبرالية؛ وتتلقى هذه الحركات الدعم من موسكو وبكين. ويصلّي هذا اليمين المتشدد من أجل انضمام إدارة ترامب الثانية إليه، التي يديرها أيديولوجيون ملتزمون ومنظمون جيداً، رغم أنه يُرجح أن تتم معاملتهم على أنّهم أتباع. وعليه، لا يمكن لأوروبا الليبرالية الديمقراطية إلا أن تأمل في النجاة من أسوأ تحوّل جيوستراتيجي تشهده القارة منذ عام 1945 من خلال مزيج من التكامل العملي، والتمويل المشترك السخي للدفاع والتكاليف الأخرى، وتوسيع الاتحاد الأوروبي، والقيادة المستنيرة وغير الأنانية من قبل مجموعة أساسية من أقوى دول الاتحاد؛ وإلّا فقد يتحتم علينا مواجهة عاصفة أوروبية.
أوروبا غير جاهزة لعهد ترامب
عندما تمّ انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في عام 2016، اتّحدت أوروبا. وكانت عواصم القارة لا تزال تعاني من قرار الناخبين البريطانيين بمغادرة الاتحاد الأوروبي قبل بضعة أشهر، في حين خشي القادة من أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التأثير على دول أخرى. وكانت آثار أزمة الديون الأوروبية والانقسامات المريرة بشأن مسألة الهجرة لا تزال حديثة.
وقد لفت ترامب الأوروبيين لقصر نظرهم، مذكّراً إياهم بما يعنيه اتحادهم: الديمقراطية، والتعددية، والنظام القائم على القواعد. ومع انسحاب واشنطن من هذا النظام، أصبحت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل، زعيمة الاتحاد الأوروبي بلا منازع في ذلك الوقت. وأدرك الأوروبيون أنّهم لا يستطيعون تحمّل الانقسام؛ فقد كانت قارتهم مشتعلة بالفعل في ذلك الوقت، مع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتصاعد الشعبوية القومية. وفي ظل مواجهة التهديدات المتصاعدة وتخلي واشنطن عنهم، أدرك الأوروبيون أنه يتعين عليهم البقاء معاً.
والسؤال الذي يطارد أوروبا اليوم هو ما إذا كانت ستتحد مرة أخرى في حال عاد ترامب إلى البيت الأبيض. وبطبيعة الحال، فإنّ ترامب ليس السبب الوحيد الذي يجعل أوروبا موحدة. فأوروبا نفسها في حالة حرب، وإلى الجنوب الشرقي منها، تترنح الحرب بين "إسرائيل" وحماس على حافة صراع أوسع نطاقاً. وفي منطقة الساحل الشاسعة في أفريقيا، تم طرد القوى الأوروبية والولايات المتحدة.
ونظراً لجميع التهديدات التي تواجه أوروبا، يجب أن يكون التأثير الموحد الذي أحدثه ترامب على الاتحاد الأوروبي في عام 2016 اليوم أقوى بشكل مضاعف. وقد يكون هذا الأمر محض أمنيات. فالديمقراطيات في أوروبا واقعة في قبضة اضطرابات سياسية مماثلة لما حدث في الولايات المتحدة، مع صعود القومية اليمينية. وقد تسببت معدلات التضخم المرتفعة والنمو الاقتصادي الضئيل بنفخ الرياح في أشرعة اليمين المتشدد مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، غيّر القوميون الأوروبيون مسارهم، إذ لم يعد هدفهم السعي إلى محاكاة خروج بريطانيا الكارثي، بل إلى تفريغ الاتحاد الأوروبي من الداخل. وهم لا يهيمنون على السياسة في عدد صغير من بلدان أوروبا الشرقية فحسب، مثل هنغاريا وسلوفاكيا، بل وصلوا إلى السلطة في إيطاليا وهولندا، ومن المحتمل أن يفوزوا في النمسا في وقت لاحق من هذا العام، فينسّقون على نحو متزايد في بروكسل، ويثبتون ثقلهم الجماعي في شؤون الاتحاد الأوروبي، ويحاولون دق إسفين في الغالبية العريضة من المحافظين والاشتراكيين والليبراليين والخضر الذين قادوا الوحدة والتكامل الأوروبي لعقود من الزمن.
قد يدخل ترامب مرة جديدة إلى المشهد الأكثر توتراً وانقساماً في أوروبا. ولكن هذه المرة، سيجد مجموعة أكبر من الحكومات الأوروبية التي تتفق معه ومع استخفافه بالاتحاد الأوروبي. وسيحظى ترامب بالفرصة نفسها التي يتمتع بها تشي جين بينغ لممارسة سياسة فرّق تسُد مع أوروبا.
هذا وتمتد هذه التصدعات إلى مجالات واسعة من السياسة الأوروبية. فمع ممارسة القوميين لقوتهم المتنامية، وربما تحالفهم مع ترامب، سيكون من الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يتفق على خطوات مستقبلية طموحة في مجالات الدفاع والمناخ والطاقة والتكنولوجيا وتوسيع الاتحاد الأوروبي، وحتى في ظل الحرب في أوكرانيا وغيرها من الأزمات التي تجعل هذه السياسات ملحة بشكل مطّرد.
ويُحتمل أن تكون ولاية ترامب الثانية، إلى جانب التآكل الحقيقي للروابط عبر الأطلسي في وقت يتسم بالتهديدات المتزايدة لأوروبا، الأزمة التي تقصم ظهر الاتحاد الأوروبي.
اقرأ أيضاً: "فورين بوليسي": كيف يمكن أن تتفكك أوروبا إذا عاد ترامب؟
نقلته إلى العربية: زينب منعم