"فورين أفيرز": الأموال القذرة تُدمر السودان
كيف يمكن للولايات المتحدة أن تمنع غاسلي الأموال من تمويل أسوأ حرب أهلية في القارة السمراء؟
يكتب جون بريندرجاست، وهو أحد مؤسسي منظمة "Sentry" ومؤلف كتاب "قصص الكونغو: محاربة 5 قرون من الاستغلال والجشع"، مقالاً في مجلة "فورين أفيرز"، يتناول فيها الحرب الأهلية التي تعصف بالسودان، وكيف أن أطرافاً خارجية تعمل على إذكاء هذا الصراع، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة، ويرى أن الولايات المتحدة مقصرة في الضغط على حلفائها مالياً من أجل وقف دعم الجهود العسكرية.
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
تتكشّف في السودان كارثة إنسانية وحقوقية. فمع وصول عدد النازحين إلى نحو 11 مليون شخص، 3 ملايين منهم من الأطفال، أصبحت البلاد حالياً موطناً لأكبر عدد من الأشخاص المشرّدين نتيجة الصراعات الدائرة على مستوى العالم، ويقف سكانها على حافة مجاعة كبرى. أمّا النظام الصحيّ المتدهور، فيجعل العدد الحقيقي لضحايا الحرب مجهولاً، ويجري تدمير العاصمة السودانية الخرطوم بشكل تدريجيّ.
قد يكون هناك ميل إلى التفكير في هذه المأساة باعتبارها حلقة أخرى في صراع يمتد لعقود من الزمن. فقد ساعد المقاتلون الرئيسيون وهم القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وهي المجموعة شبه العسكرية التي نظمتها القوات المسلحة السودانية من الميليشيات المعروفة باسم الجنجويد، في دفع عجلة الحرب في دارفور قبل 20 عاماً. وكانت تلك الحرب سبباً في حصول أول إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين؛ واليوم، عاد عنف الإبادة الجماعية إلى منطقة دارفور. ففي عام 2023، بعد أن انقلبت قوات الدعم السريع على داعميها العسكريين السابقين وبدأت في السيطرة على مساحات كبيرة من السودان، دخلت الولايات المتحدة في شراكة مع المملكة العربية السعودية لمحاولة التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
إلّا أنّ الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة باءت بالفشل، ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى أنّ الحرب الأهلية السودانية لم تعد مجرد لازمة في التوترات القديمة. فقد انضم لاعبون جدد إلى المعركة، وهم الجهات الفاعلة الدولية التي تؤدي مساهماتها في أعمال العنف إلى تعقيد الصراع وتوفير فرص جديدة لحله. وبالتالي، ترى دول الشرق الأوسط فرصاً مغرية بشكل خاص لاستغلال الموارد الطبيعية للسودان والوصول إلى موانئه على طول البحر الأحمر واستخدامها كقاعدة لمحاربة الحوثيين في اليمن وسحق الجهود المؤيدة للديمقراطية وتعزيز قدرات الجماعات الإسلامية أو تلك المناهضة للإسلاميين.
وأصبح تصدير الذهب بشكل غير مشروع مصدراً رئيساً لتمويل الحرب. وحالياً، تشتري مصر الذهب القادم من المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوداني، في حين باتت دولة الإمارات العربية المتحدة وجهة للذهب المستخرج من المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، مقابل تسليم الأسلحة لها وفق المزاعم. كما تسهل شركة "فاغنر" شبه العسكرية الروسية عمليات شراء واسعة النطاق للذهب الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع، مقابل تزويد هذه القوات بالمساعدات العسكرية مثل صواريخ أرض جو.
وبتشجيع من الحزبين الجمهوري والديمقراطي من الكونغرس الأميركي، قام الرئيس الأميركي جو بايدن في شباط/فبراير بتعيين مبعوث خاص جديد إلى المنطقة، وهو الدبلوماسي المخضرم توم بيرييلو. وكان بيرييلو، العضو السابق في الكونغرس، خلّاقاً ومتفانياً في دوره كمبعوث خاص إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية خلال فترة ولاية الرئيس باراك أوباما، وستشكل علاقاته القوية في "الكابيتول هيل" أهمية بالغة لتأمين اهتمام رفيع المستوى من قبل واشنطن.
إلّا أنّ الفارق الأكبر الذي يمكن للولايات المتحدة أن تحدثه، لا بل الذي يتوجب عليها أن تحدثه، هو زيادة ضغوطها المالية بشكل كبير على الوكلاء الذين يتسببون في تفاقم الحرب، ولا سيّما الإمارات العربية المتحدة. وعلى المدى القصير، يتعين على الأطراف التي ترغب في إحلال السلام في السودان أن تتفاوض من أجل التوصل إلى وقف حقيقي لإطلاق النار وإنشاء ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية. كما يجب أن تعطي المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار الأولوية للتوصل إلى ترتيب سياسي انتقالي شامل، وهو أمر أساسي لإنهاء دوّامة العنف الدائرة وإرساء القاعدة لحكم مستقبلي فعال. وسيكون من الضروري أيضاً إشراك الجماعات المدنية في المفاوضات لتعكس رغبة الشعب السوداني الساحقة في إرساء السلام. لكن لتحقيق أي من هذه الأهداف، لا بد من مواجهة النظام الكليبتوقراطي العنيف الذي يمول الحرب في الوقت الراهن.
المنقبون عن الذهب
ينتج السودان كمية كبيرة من الذهب. ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، فقد احتل في عام 2022 المركز السادس عشر بين أكبر الدول المنتجة للذهب في العالم والمركز الرابع بين أكبر الدول المنتجة للذهب في أفريقيا بعد غانا ومالي وجنوب أفريقيا. وكان محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع وتاجر الإبل السابق المعروف باسم حميدتي، قد سيطر على الكثير من مناجم الذهب في السودان بعد أن أصبح مقرباً من رئيس الدولة عمر البشير الذي حكم البلاد مدة 30 عاماً. إلّا أنّ حميدتي لم يكن رجلاً مخلصاً؛ ففي عام 2019، دخل في شراكة مع الجنرال في القوات المسلحة السودانية، عبد الفتاح البرهان، وأطاح بالبشير وانضم إلى حكومة انتقالية وحمل راية الديمقراطية. وبعد عامين، أطاح والبرهان بشركائهما المدنيين، وهو الانقلاب العسكري الرابع من نوعه في تاريخ السودان ما بعد الاستعمار، قبل أن ينقلب حميدتي على البرهان.
ومع ذلك، بقي اعتماد حميدتي على الإمارات العربية المتحدة راسخاً. وبحلول أواخر عام 2010، جعلت تجارة الذهب من حميدتي أحد أغنى الرجال في البلاد. وعقب استيلائه على أحد أكثر المناجم ربحية في السودان في عام 2017، استخدم تلك الثروة لتعزيز مكانته الرائدة في النظام السياسي الكليبتوقراطي في البلاد. ومع تعاظم دوره في تجارة الذهب، تعمقت علاقاته مع قادة دبي؛ وابتداءً من منتصف عام 2010، قام بتسليح قوات المرتزقة للقتال دفاعاً عن مصالح الإمارات في ليبيا واليمن بالنيابة.
وخلص تحليل حديث للأمم المتحدة إلى أنّ الإمارات العربية المتحدة تساعد قوات الدعم السريع من خلال تلقي الذهب الذي تقوم الشركات الخاضعة للعقوبات بتهريبه بشكل غير مشروع إلى خارج السودان، وغالباً بالتعاون مع الشركات التابعة لـ"فاغنر"، وغسله وضخه في سوق الذهب الدولية. ووجد فريق خبراء الأمم المتحدة المعني بالسودان أنّ الإمارات تدعم قوات الدعم السريع عسكرياً في انتهاك صارخ لقانون حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة.
فمنذ بداية الصراع الحالي، كانت القوات المسلحة السودانية أفضل تسليحاً من قوات الدعم السريع، ولم تكن هذه الحرب الأهلية السودانية لتستمر كل هذه المدة من دون مساعدة الإمارات العربية المتحدة لقوات الدعم السريع. وقد أفادت الأمم المتحدة ووسائل إعلام متعددة بأن الإمارات تقدم مساعدة عسكرية مباشرة لقوات الدعم السريع على شكل مدافع هاوتزر، وأنظمة راجمات الصواريخ المتعددة، وطائرات مقاتلة من دون طيار، وصواريخ أرض جو محمولة.
وقد مكنت هذه المساعدات قوات الدعم السريع من تغيير ميزان القوى لصالحها في مناطق كثيرة من السودان، بما في ذلك الخرطوم وأماكن رئيسة في الشرق مثل عاصمة ولاية الجزيرة، سلة غذاء البلاد. وبحلول أواخر عام 2023، سقطت أربع من الولايات الخمس في منطقة دارفور التي واجهت الكثير من الصعوبات في أيدي قوات الدعم السريع، التي دمرت قواتها وأحرقت القرى وارتكبت اعتداءات جنسية وعمليات قتل جماعي وعرقلت إيصال المساعدات الإنسانية إليها.
بالإضافة إلى ذلك، تجري عمليات تصدير كبيرة للذهب في المناطق التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية في السودان. فمنذ بداية الحرب، حولت القوات المسلحة السودانية وجهة تصدير الذهب الرئيسة من الإمارات العربية المتحدة إلى مصر. وعلى الرغم من أنّ تهريب الذهب إلى مصر قد حظي باهتمام أقل، إلّا أنّ هذه الصادرات غير المشروعة تساعد أيضاً في إدامة الصراع العنيف.
إنّ منع الزعماء السودانيين من تهريب الذهب لن يقلل من قدرتهم على مواصلة قتالهم المدمر فحسب، بل يمكن أن يعيق جهود روسيا المبذولة لإخضاع أوكرانيا أيضاً. وكان دور حميدتي جوهرياً في الترتيبات التي تسمح لروسيا بالوصول إلى ما قيمته مليارات الدولارات من الذهب السوداني، إما عن طريق استيراده مباشرة أو من خلال الشراكة مع الإمارات العربية المتحدة لغسله في أسواق الذهب الدولية كمصدر نقدي لا يمكن تعقبه نسبياً. وفي تموز/يوليو 2023، أصدرت لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية في المملكة المتحدة تقريراً عن دور شركة "فاغنر" في تمويل الحرب الروسية ضد أوكرانيا. وأشارت إلى أن "عمليات تهريب الذهب التي تقوم بها الشركة من السودان تُعد ضخمة، حيث وصفها أحد [الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات] بأنها "حاسمة لقدرة روسيا على تحمل العقوبات الكبيرة المفروضة عليها بسبب غزوها غير القانوني لأوكرانيا". ولعل الشركة تجني ما يزيد عن مليار دولار سنوياً من الذهب السوداني الذي تم شراؤه وتصديره بطريقة غير مشروعة.
تنظيف السمعة
خلال النصف الثاني من عام 2023، سعى كلّ من نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان ومسؤولون أميركيون آخرون إلى إجراء محادثات مع قادة دولة الإمارات وحثهم على التوقف عن دعم قوات الدعم السريع. لكن هذه المساعي لم تُحدث أي تغيير في سياسة الإمارات تجاه السودان. وتحتاج هذه الدبلوماسية إلى دعمها بمزيد من الضغوط المالية، من خلال الاستخدام الأكثر قوة لأدوات مكافحة غسل الأموال وعقوبات الشبكات التي تستهدف تجارة الذهب غير المشروعة وعمليات تسليم الأسلحة غير المشروعة بصورة خاصة.
لطالما شكلت الإمارات العربية المتحدة بؤرة لغسل الأموال، وهي بمثابة نقطة عبور ووجهة رئيسة لغسل الأموال على مستوى العالم. ويُقدر أنها تستمد من هذه العملية ما يصل إلى 20% من ناتجها المحلي الإجمالي. في عام 2020، ذكر تقرير مؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي أن "القادة الإماراتيين والمجتمع الدولي يواصلون غض الطرف عن السلوكيات الإشكالية والثغرات الإدارية وممارسات الإنفاذ الضعيفة التي تجعل دبي وجهة جذابة عالمياً للأموال القذرة". ويُعد قطاع الذهب هدفاً رئيساً لعمليات غسيل الأموال تلك. وقد اعترفت دولة الإمارات العربية المتحدة نفسها بأن قطاع الذهب والمعادن الثمينة الخاص بها يجذب المجرمين، وأنه يجب عليها بذل المزيد من الجهد لوقف تدفق الأموال القذرة والذهب غير المشروع من دول مثل السودان.
وعلى الرغم من أن الإمارات العربية المتحدة قد أطلقت الكثير من المبادرات خلال السنوات القليلة الماضية لتنظيف قطاع الذهب الخاص بها، إلا أن نتائجها الملموسة لا تزال محدودة. وفي عام 2022، كشفت وزارة الاقتصاد في البلاد عن مبادئ توجيهية جديدة بشأن مصادر الذهب المسؤولة، بما في ذلك إجراء عملية تدقيق مستقلة. إلّا أنّ الدولة تملك سجلاً مشكوكاً فيه عندما يتعلق الأمر بالاعتماد على عمليات التدقيق هذه؛ ففي عام 2020، كشفت محكمة بريطانية تواطؤ شركة المحاسبة "إرنست آند يونغ" مع سلطات دبي للتستر على الأدلة التي تفيد بأن شركة مجوهرات كبرى قامت بغسل مليارات الدولارات؛ واتهم القاضي شركة المحاسبة بـ"سوء السلوك المهني" و"انتهاك" "مبادئ النزاهة والموضوعية".
وتعرضت الإمارات للتأنيب مراراً وتكراراً بسبب غسيل الأموال واستيراد الذهب بشكل غير مشروع. ففي ديسمبر/كانون الأول 2022، أضاف الاتحاد الأوروبي الإمارات العربية المتحدة إلى قائمة "الولايات القضائية للبلدان الثالثة عالية المخاطر"، وهو التصنيف الذي يتطلب من المؤسسات المالية الأوروبية تعزيز العناية الواجبة بشأن المعاملات المنبثقة من دول محددة. وفي وقت سابق من العام نفسه، وضعت مجموعة العمل المالي (FATF)، وهي منظمة حكومية دولية تأسست عام 1989 لمكافحة غسل الأموال في جميع أنحاء العالم، دولة الإمارات العربية المتحدة على القائمة الرمادية للدول التي تعاني قصوراً في أطر مكافحة غسل الأموال، ما شجع البنوك والشركات على تعزيز عمليات تدقيقها لتدفقات الأموال الواردة من دبي.
نتيجة لذلك، تملّك القيادة الإماراتية اليأس بالخروج من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي. ووجدت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي عام 2021 حول تأثير القائمة الرمادية على 89 دولة، أن تدفقات رأس المال إلى البلدان المدرجة في القائمة الرمادية تنخفض، في المتوسط، بنحو 8% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. ووفق منظمة الشفافية الدولية، فإنّ الإصلاحات المذكورة على الورق لم يتم تنفيذها حتى الساعة؛ وفي أواخر عام 2023، زارت الإمارات الدول الأعضاء الرئيسة في مجموعة العمل المالي للضغط من أجل إزالتها من القائمة، وفي منتصف شباط/فبراير، كافأت مجموعة العمل المالي جهود الدولة بإزالتها من القائمة الرمادية. ومما لا شك فيه أنّ الاعتبارات الجيوسياسية لعبت دوراً حاسماً، نظراً لموقع دبي الهام على خريطة الدبلوماسية في الشرق الأوسط وأمن الطاقة في أوروبا.
تتبّع الأموال
تكثفت الجهود الرامية لحل الأزمة السودانية دبلوماسياً. فبالإضافة إلى قرار بايدن بتعيين مبعوث خاص، قام الأمين العام للأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر بتعيين مبعوث جديد إلى السودان لدعم جهود إحلال السلام. ولكن يمكن للولايات المتحدة وشركائها أن يفعلوا المزيد لتشكيل أداة ضغط قبل بدء المرحلة التالية من الوساطة في السودان. وينبغي على واشنطن والحكومات الأوروبية الراغبة توجيه رسالة إلى دبي تفيد بأنه طالما أنها تواصل تمويل الحرب والإبادة الجماعية في السودان، فإنها ستستمر في جمع المعلومات حول أي عدم امتثال إماراتي لمعايير مجموعة العمل المالي.
وفي حزيران/يونيو 2023، قامت مجموعة العمل المالي بتحديث منهجية التصنيف الخاصة بها لتزيد من مستوى تركيزها على "فعالية" التنفيذ ولتبيّن أن بعض البلدان تتبنى أنظمة مثالية ولكنها لا تتبع سوى القليل جداً منها خلال مرحلة التنفيذ اللاحقة. كما ينبغي على الولايات المتحدة والحكومات الأخرى تكثيف عمليات جمع المعلومات الاستخبارية حول غسيل الأموال في دبي وتبادل النتائج حول الثغرات في التنفيذ وتقديم تلك المعلومات إلى مجموعة العمل المالي ومواصلة استخدام نفوذها داخل مجموعة العمل المالي للدعوة إلى سدّ هذه الثغرات. وكجزء من هذا التدقيق، من الضروري أن تقوم مجموعة العمل المالي بإجراء تحليل مستقل لمصادر الذهب في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويجب على الاتحاد الأوروبي إبقاء الإمارات العربية المتحدة على قائمته الرمادية الخاصة بغسل الأموال حتى تتوقف دبي عن استيراد الذهب السوداني بشكل غير مشروع وتسليح قوات الدعم السريع.
علاوة على ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن توضح بأنها ستنشر تقريراً استشارياً تجارياً خاصاً بالإمارات العربية المتحدة مماثلاً لتلك التقارير التي أصدرتها عن ميانمار والسودان وجنوب السودان، لتحذير القطاع الخاص من غسيل الأموال والتهرب من العقوبات ومخاطر الفساد في التعامل مع دولة الإمارات العربية المتحدة والدعوة إلى زيادة العناية الواجبة في القطاعات عالية المخاطر مثل الذهب. وبالتالي، سيكون لمثل هذة الاستشارة تأثير على سمعتها، وقد يؤدي ذلك إلى خسارة البلاد لإيراداتها إذا فرضت الشركات الأميركية رسوماً أو أسعار فائدة أعلى لتغطية تكاليف تطبيق تدابير امتثال أكثر صرامة، وواجهت الشركات الإماراتية عوائق أكبر أمام الوصول إلى السوق الأميركية.
بالإضافة إلى ذلك، يتعين على واشنطن إصدار عقوبات بحق الشركات الإماراتية وغيرها من الشركات المتورطة في تجارة الذهب السوداني غير المشروعة، وخاصة الشركات التابعة لشركة "فاغنر". وقد سبق للولايات المتحدة أن فعلت ذلك، حيث فرض عقوبات على الشركات الإماراتية المتورطة في التهرب من العقوبات الروسية. وفي العام الماضي، بدأت الولايات المتحدة فرض عقوبات على مجموعة من المسؤولين والشركات السودانية التي تستفيد من العنف الحاصل في البلاد. وفي كانون الثاني/يناير، خاض الاتحاد الأوروبي المعركة نفسها عبر فرض عقوبات على 6 شركات سودانية لدورها في تسهيل الفساد والصراع في السودان.
إلّا أنّ هذه العقوبات واجهت مشكلة شائعة في العقوبات المفروضة في جميع أنحاء أفريقيا. إذ عادةً لا يقوم الأفراد الخاضعون للعقوبات بأعمال تجارية بأسمائهم الخاصة، وبدلاً من ذلك يعملون من خلال شركات وهمية ويستخدمون أسماء أفراد الأسرة أو المقرّبين أو حتى أطفالهم القُصّر. وبدلاً من ذلك، لا بد من فرض عقوبات على الشبكة الكاملة للمصالح الاقتصادية والوكلاء وعوامل التمكين المحيطة بالمسؤولين الرئيسيين والشركات المستهدفة للتأثير بشكل فعّال على التدفقات الممولة للصراع.
هذا وتستهدف استراتيجية العقوبات الأكثر فعالية شبكات المتعاونين والشركات التي تدعم المسؤولين الرئيسيين في قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، بما في ذلك حميدتي والبرهان. كما أنّ فرض عقوبات على الجهات الفاعلة في بلدان ثالثة من شأنه أن يساعد في هذا المجال- خاصة إذا كان فرض عقوبات على الجهات الفاعلة الإماراتية يبدو صعباً للغاية من الناحية السياسية. ويمكن للولايات المتحدة وحلفائها استهداف الشركات والشبكات في بلدان ثالثة بسهولة أكبر، مثل جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وأوغندا، التي تشارك في تسليم الأسلحة الإماراتية إلى قوات الدعم السريع.
خلال العام الفائت، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مسؤولين متواطئين في العنف القائم على النوع الاجتماعي في روسيا وأفغانستان ودول أخرى. وعليه، يمكنها فرض عقوبات مماثلة على مسؤولي قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية المسؤولين نتيجة العنف الجنسي المتزايد في البلاد منذ اندلاع الحرب الأخيرة. وبدلاً من إصدار مجموعة من العقوبات كل بضعة أشهر، ينبغي على المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي زيادة هذه العقوبات القائمة على الشبكات بسرعة في انسجام تام والالتزام بتحديثها بسرعة من أجل مراعاة التغيرات المتطورة في تسميات الشركات وهيكلياتها. وأخيراً، يجب على الولايات المتحدة تعديل قرارها التنفيذي الصادر عام 2023 والمتعلق بالسودان للسماح بفرض عقوبات تتعلق بالاتجار غير المشروع بالموارد الطبيعية، على غرار القرار التنفيذي الذي يسمح بفرض عقوبات متعلقة بالموارد الطبيعية ضد كيانات في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وهذا من شأنه تسهيل عملية فرض عقوبات على التجار أو الشركات التي تشتري ذهب الصراع.
فوائد إرساء السلام
تواجه إدارة بايدن عوائق سياسية أمام ممارسة الضغوط المالية للمساعدة في حل الأزمة السودانية. وتحتاج الولايات المتحدة إلى كل من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمساعدتها على نزع فتيل التوترات في الشرق الأوسط الذي مزقته الحرب، وهي المنطقة التي تفوق أهميتها تاريخياً بالنسبة للولايات المتحدة أهمية السودان. ولا بد من استخدام أدوات الضغط المالي بهدوء، ويُرجح أن يتم النظر فيها استجابةً لمطالب مجموعة ملتزمة من أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس، الذين لطالما طالبوا باستجابة أميركية أكثر قوة للصراع في السودان.
لكن من الواضح أن دبي حساسة تجاه الضغوط المالية، كما يتضح من خلال محاولاتها للضغط من أجل الخروج من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي والاتحاد الأوروبي. ويُرجح أن يؤثر التدقيق المتزايد عن طريق المشورة التجارية، وتسميات عقوبات الشبكات الجديدة، وتبادل المعلومات مع مجموعة العمل المالي على رغبة البلاد باستيراد الذهب السوداني غير المشروع ويقلل من حافزها لدعم قوات الدعم السريع عسكرياً. وبالتالي، في حال تراجعت الإمارات العربية المتحدة عن التدخل في الصراع، فإن ذلك سيحد بشكل كبير من قدرة قوات الدعم السريع على مواصلة شن هجماتها المدمرة في جميع أنحاء السودان. وإذا خفضت مصر تهريب الذهب المرتبط بالقوات المسلحة السودانية وتم تنفيذ عقوبات جديدة على "فاغنر"، فإن ذلك سيزيد من احتمالات التقدم على طاولة المفاوضات.
علاوة على ذلك، تعمل الضغوط المالية وراء الكواليس على تعزيز موقف الدبلوماسيين إلى حد كبير، بما في ذلك بيرييلو، المبعوث الخاص الجديد للولايات المتحدة الذي يواجه مهمة معقدة؛ فالجهود السابقة الهادفة لوضع السودان على مسار أكثر استقراراً لم تتكلل بمشاركة الناشطين السودانيين المؤيدين للديمقراطية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني بشكل فعّال. وينبغي على الولايات المتحدة زيادة الدعم المادي الذي تقدمه للجماعات السودانية المؤيدة للديمقراطية والمكافحة للفساد والمؤيدة للسلام، بالإضافة إلى دعم الجهود المبذولة على مستوى المجتمع لتقديم المساعدة الإنسانية. ولمزيد من الدعم لهذه الجهود المدنية، يجب على الولايات المتحدة والدول الأوروبية الالتزام بعدم الاعتراف بأي حكومة سودانية تقوم على أنقاض الحرب، كما يجب عليها رفع مستوى تعاونها مع المحكمة الجنائية الدولية لتصنيف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من أجل محاكماتها المحتملة في المستقبل.
في المقابل ينبغي على واشنطن أن تتخذ خطوات جريئة، باعتبار أنها تمتلك مصالح حيوية في السودان، ويتعين عليها مواجهة محاولة روسيا تأمين قاعدة على البحر الأحمر. كما راهنت إدارة بايدن بقدر كبير من رأس مالها السياسي على دعم الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، ومن شأن المساعدة في استعادة الديمقراطية في السودان أن تقدم إعلاناً هاماً حول التزام الولايات المتحدة بدعم الديمقراطية الأفريقية وتحقيق السلام. هذا ويواصل دور الجماعات الإسلامية وإيران في عمليات القوات المسلحة السودانية في النمو؛ وقد شكل عدد من مسؤولي القوات المسلحة السودانية جزءاً من نظام البشير الذي استضاف أسامة بن لادن واحتضن البنية التحتية التجارية لتنظيم القاعدة.
إن الحرب التي تعصف بالسودان ليست مجرد صراع عرقي أو صراع على السلطة بين اثنين من أمراء الحرب. فقد قامت الأنظمة السودانية المتعاقبة ببناء دولة فاسدة مبنية على العنف والقمع، وتتعرض البلاد حالياً للنهب من قبل الجهات الأجنبية. ويسعى معظم اللاعبين الدوليين في السودان إلى الاستفادة من أزمة البلاد. أمّا الولايات المتحدة فهي الدولة التي تتمتع بأفضل وضع لدفع عملية السلام بدلاً من تأجيج الحرب، وذلك في حال مارست ضغوطاً مالية ودبلوماسية على مصر وإيران وروسيا والإمارات العربية المتحدة، وهي الدول الأكثر أهمية بالنسبة إليها.
نقلتها إلى العربية: زينب منعم.