أحداث دار "المايقوما" للأيتام في السودان.. كيف قتلت الحرب الأطفال؟
طبيبة في السودان تسرد أحداث دار "المايقوما" للأيتام في السودان في ظلّ الصراع، وتحكي كيف أدّت الحرب إلى وفاة عشرات الأطفال من الذين كانوا في الدار.
صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية تنشر تقريراً كتبته غابريال شتاينهاوزر ومحمد زكريا، يتحدّث عن الحرب في السودان، وكيف أدّت إلى وفاة عشرات الأطفال من دار "المايقوما" للأيتام في السودان.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
في الليلة الرابعة للحرب، أطلقت الدكتورة عبير عبد الله، وهي مديرة الشؤون الطبية في دار "المايقوما" للأيتام في السودان، نداء استغاثة يائساً بعد أن أمضت الأيام والليالي السابقة في رعاية 370 طفلاً. وقد صودف وقوع دار الأيتام وسط أعنف المعارك التي خاضتها العاصمة الخرطوم بعد أن أدّى التنافس المحتدم بين أقوى جنرالين في السودان إلى حدوث أعمال عنف شاملة.
لقد تركت الحرب دار "المايقوما" من دون أيّ طاقم تمريضيّ ومع أقلّ من 12 شخصاً بالغاً لرعاية الأطفال، الذين لم يتجاوز عمر معظمهم العام الواحد. وكانت عبير، وهي طبيبة أسرة تلقّت تدريبها في المملكة العربية السعودية، الطبيبة الوحيدة الموجودة في الدار.
وقد أدّى انقطاع التيار الكهربائي إلى توقّف التبريد في دار الأيتام في ظلّ حرارة تصل إلى 46 درجة، وهزّت الانفجارات جدران المبنى. في حين يكافح مقدّمو الرعاية المرهقون لتأمين الطعام والماء للأطفال حديثي الولادة وغيرهم ممن يعانون من إعاقات معقّدة. وكثيراً ما هرعوا من غرفة إلى أخرى ليجدوا طفلاً ميتاً في سريره.
في الليلة الرابعة من الحرب، تسللت الدكتورة عبير عبر بوابة الدار المعدنية، ممسكةً بهاتفها ودعت الله أن يحجبها الظلام عن القنّاصة المتمركزين في المباني المجاورة. وإلى جوار شجرة في الفناء الأمامي لدار الأيتام، أضاءت شاشة هاتفها وكتبت منشوراً على منصة "فيسبوك": "أنقذوا دار المايقوما". وخلال الأسابيع والأشهر التالية، أدّت رسالة الطبيبة إلى حشد استثنائي لمجموعة من المدنيين معظمهم من السودانيين لإنقاذ أيتام الدار. وقد أفضت هذه الجهود إلى نقل بعض الأطفال ومقدّمي الرعاية في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر أربع مدن سودانية ونحو 1000 ميل، أملاً بالحصول على الأمان رغم أنهم يدركون أن شرارة الحرب قد تصيبهم من جديد.
في إحدى المرات، توقّف بعض المقاتلين عند دار الأيتام للمساعدة. وفي وقت من الأوقات، قام رجال مسلحون من الميليشيا نفسها بالسرقة.
لقد تسبّبت الحرب في السودان بأكبر أزمة إنسانية في العالم. ووفقاً لبعض التقديرات، فقد قُتل نحو 150 ألف شخص في خضمّ الاقتتال الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية التي تحوّلت إلى متمرّدين، وانهار قطاعَا الرعاية الصحية والزراعة. ويعاني أكثر من نصف سكان السودان البالغ عددهم 48 مليون نسمة من مستويات كارثية من الجوع، وترزح أجزاء من البلاد رسمياً تحت وطأة المجاعة. واضطر ربع السودانيين إلى النزوح عن منازلهم.
وقد تعرّض الأطباء وعمال الإغاثة والمتطوّعون، الذين نسّقوا عملية إنقاذ دار "المايقوما"، لخطر كبير. وفرّقت الحرب بينهم وبين أسرهم، وكان معظمهم يبحث عن مكان آخر. ولا تزال جهودهم مستمرة للحفاظ على سلامة الأطفال حتى يومنا هذا.
يستند هذا التقرير إلى مقابلات مع الدكتورة عبير عبد الله وغيرها من موظفي دار "المايقوما" والمتطوّعين ومنظّمات الإغاثة المشاركة في عملية الإنقاذ، بالإضافة إلى مراجعة الوثائق والصور من دار الأيتام.
دار مضطرب
تأسس دار "المايقوما" في عام 1961 ليكون ملجأ للأطفال المتروكين. ففي السودان ذي الأغلبية المسلمة، كان إنجاب طفل خارج إطار الزواج يثقل كاهل المرأة ويفرض عليها وعلى طفلها ضغوطاً اجتماعية. وفي كل عام، يستقبل دار الأيتام الخاضع لإدارة الدولة مئات الأطفال، الذين يصل عدد منهم في حالة صحية سيئة أو تظهر عليهم علامات سوء المعاملة.
تتناقض جدران دار الأيتام الملوّنة والمزيّنة بصور شخصيات كرتونية مع واقع المؤسسة التي تعاني من تهالك معداتها ونقص في التمويل والموظفين. وقد عملت منظّمة أطباء بلا حدود غير الربحية في السنوات الأخيرة على تحسين النظافة والرعاية الصحية والتغذية في الدار.
بدأت الدكتورة عبير عبد الله عملها في دار "المايقوما" عام 2021، وقالت إنّ الوضع في دار الأيتام كان مستقراً في الأشهر التي سبقت الحرب. كانت للدار عيادة خاصة لمعاينة الأطفال المرضى. وتعمل الألواح الشمسية ومولد الطوارئ على تشغيل الحاضنات والمعدات الطبية الأخرى أثناء انقطاع التيار الكهربائي. وكانت كلّ مربية من ضمن عشرات المربيات العاملات في دار الأيتام مسؤولة عن 5 إلى 10 أطفال. وقد يفجعن في عملهنّ؛ إذ يموت نحو 6 أطفال شهرياً، على الرغم من أنّ ذلك يمثّل تحسّناً مقارنة بالسنوات السابقة.
إلا أنّ كلّ شيء قد تغيّر يوم السبت 15 نيسان/أبريل 2023، حين استيقظت عبير في منزل عائلتها على دوي انفجارات وأصوات قذائف. وقد قطع الاقتتال طريق زميلها إلى دار الأيتام، فاتصل بها ليطلب منها أن تنوب عنه. واقتناعاً منها بأنه سيتمّ حلّ الاشتباكات في غضون أيام، انطلقت إلى "المايقوما" سيراً على الأقدام أولاً، ثم على ظهر عربة الريكشا.
وفي دار الأيتام، جلس الأطفال الأكبر سناً في الزوايا يبكون عند سماع صوت الانفجارات الضخمة. وقامت المربيات بنقل أسرّة الأطفال بعيداً عن النوافذ لحماية الأطفال من الرصاص الطائش أو الشظايا. أما الموظفون فكانوا قلقين بشأن أطفالهم الموجودين في المنزل. وكانت شبكات الهاتف شبه معطّلة.
وفي اليوم التالي، تمكّنت بعض المربيات من العودة إلى منازل عائلاتهن. والمربيات الأخريات اللاتي كان من المفترض أن يتولين رعاية الأطفال لم يظهرن أبداً؛ ما أدّى إلى ترك الدكتورة عبير ونحو 10 مربيات لتغطية غرف الدار البالغ عددها 13 والموزّعة على 3 طوابق وعدد من المباني. وكانت كل غرفة تضمّ بين 18 و23 طفلاً، وغالباً ما يكون اثنان أو ثلاثة منهم في سرير واحد. وكان مخزون حليب الأطفال قد أوشك على النفاد. وكانت أول حالة وفاة لطفلة تبلغ من العمر 6 أشهر تدعى جود، وتعاني من سوء التغذية. وتعتقد الدكتورة عبير بأنها توفيت يوم الأحد، أي في اليوم الثاني من الحرب، بسبب العدوى على الأرجح.
وقد قامت المربيات بوضع الأطفال في دوائر حولهنّ لتسريع عملية الرضاعة وتغيير الحفاضات. وجرّدن الأطفال من ملابسهم باستثناء الحفاضات في ظل الحر الشديد. لم تكن عبير مدرّبة كطبيب أطفال ولم تكن تمتلك خبرة كبيرة في وضع القطرات الوريدية للأطفال لعلاج الجفاف الشديد. واستمر موت الأطفال، ودوّنت عبير أسماءهم والسبب المرجّح لوفاتهم في دفتر.
معركة من أجل إنقاذ الأرواح
بعد أن نشرت عبير رسالتها على "فيسبوك"، توقّف عند دار الأيتام الدكتور عبد الله كناني، وهو جرّاح سبق له أن تطوّع في دار "المايقوما". فوجد صديقته وجارته القديمة تبكي على الأرض، محاطةً بأكثر من عشرة أطفال. فقام بفحص العلامات الحيوية للأطفال في العيادة، وبإجراء الإنعاش القلبي الرئوي لبعض الذين فقدوا وعيهم. أما بالنسبة للآخرين، فلم يتبقَ المزيد للقيام به.
وفي ذلك المساء، قام الدكتور كناني بإعداد زجاجة حليب لمولودة اسمها نادية ونشر صورة له وهو يطعمها على "فيسبوك"، داعياً المتطوّعين إلى تقديم المساعدة إلى دار "المايقوما". ومنذ ذلك اليوم، كان كناني يقود سيارته "هيونداي أكسنت" المتهالكة إلى دار الأيتام في الصباح ويعود إلى المنزل ليلاً. وقد تمّ إغلاق المستشفى الذي كان يعمل فيه بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وعندما لم يتمكّن من العثور على وقود لسيارته، استقلّ دراجته وسلك الطرق الخلفية لتجنّب نقاط التفتيش التي أقامتها قوات الدعم السريع، وهي الميليشيا التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على جزء كبير من الخرطوم.
وفي يومه الثاني في الدار، طلب أحد الموظفين من كناني أن يأخذ جثث الأطفال الثلاثة إلى مقبرة قريبة لدفنها. وكانت نادية إحداهن، الطفلة التي أطعمها بعد ظهر اليوم السابق. أصيب كناني بالصدمة؛ فقد بدت نادية بصحة جيدة، وشعر وكأنهما مرتبطان في لحظتهما القصيرة معاً. والتقط صوراً للجثث الثلاث الصغيرة، الملفوفة بأكفان بيضاء، على مقاعد سيارته، ونشرها على "فيسبوك".
وخلال الأسابيع التالية، ضجّ هاتف كناني بالرسائل والمكالمات كلما كان متصلاً بالشبكة. وشارك الفنانون والمشاهير منشوره ووصلت التبرّعات. وتبرّعت مؤسسة خيرية ألمانية بـ450 علبة حليب للأطفال. وأحضرت المجموعات المحلية الطعام للأطفال الأكبر سناً والموظفين. وجاءت نساء الحي والطبيبات والممرضات للمساعدة في رعاية الأطفال. وبقي كناني حتى وقت متأخر يتلقّى المكالمات ويتحدّث إلى وسائل الإعلام السودانية.
ومع ذلك، استمر وفاة الأطفال. وبعد 9 أيام من الحرب، مات 24 طفلاً. فشعرت عبير بالقلق من أنّ بعض المساعدين من الخارج قد جلبوا الأمراض التي تنتشر الآن بين الأطفال الضعفاء، لكنها كانت بحاجة إلى مساعدة إضافية. وقضت أيامها ولياليها في العيادة، وأصبحت قريبة من يوسف، وهو طفل يبلغ من العمر عامين ونصف العام عُثر عليه مقيّد اليدين وذراعه مكسورة والحروق تملأ جسده قبل وقت قصير من الحرب. وفي الليل، كان يتسلل يوسف، الذي بدا أنه أبكم، إلى سريرها.
ومع إغلاق الطريق المؤدي إلى المقبرة، قام الموظفون بدفن الأطفال في حقل خلف دار الأيتام. وانقطعت مياه البلدية وبدأ الطبيبان عبير وكناني بتقنين الكميات الصغيرة التي تمكّنا من ضخّها من الأرض باستخدام الطاقة الشمسية. ومع استمرار الحرب، فرّ بعض الأطباء والممرضين المتطوّعين من الخرطوم. وكانت عائلة عبير تستعدّ للمغادرة أيضاً. فتوسّل إليها إخوتها لتنضمّ إليهم أو على الأقل لتعود إلى المنزل لبضعة أيام كي ترتاح، وكانت والدتها مريضة وبحاجة إلى رعاية طبيب. إلا أنّه عندما جاء شقيقها وشقيقتها إلى دار الأيتام وشاهدوا ما يحدث بأمّ العين رضخوا للأمر الواقع. وفكّرت عبير أنّه يتوجّب عليهم جميعاً المغادرة. وقد توصّل آخرون خارج دار الأيتام إلى النتيجة نفسها.
التخطيط لإنقاذ الأطفال
لقد عمل عثمان أبو فاطمة، وهو مسؤول حماية الطفل السوداني لدى منظّمة اليونيسيف في مدينة أم درمان، عبر نهر النيل من الخرطوم، منذ فترة طويلة على تحسين الظروف في دار "المايقوما". وعندما اندلعت الحرب، سارع لإيصال زوجته وأطفاله الأربعة إلى برّ الأمان. إلا أنّ الدار كان يشغل باله أيضاً.
وفي الأسبوع الأول من الحرب، انضمّ إلى مجموعة من النشطاء السودانيين ومدير "المايقوما" عبر الواتساب، للبحث عن طرق لتوصيل المؤن إلى دار الأيتام. وناضل زملاؤه للعثور على سائقي الشاحنات المستعدّين لنقل علاجات سوء التغذية وحليب الأطفال عبر الخطوط الأمامية. وفي منتصف شهر أيار/مايو، وصلت شاحنة تحمل علاجات سوء التغذية، وهي مزيج من زبدة الفول السوداني وغيرها من العناصر الغذائية الرئيسة، إلى دار الأيتام. وبعد خمسة أيام، قامت شاحنة بتسليم كمية من حليب الأطفال تغطي الأشهر الثلاثة المقبلة.
ومع احتدام القتال، توجّهت أنظار أبو فاطمة نحو إخلاء دار "المايقوما". وتبادل الرسائل مع مارينا فاخوري، منسّقة الحماية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي تعمل على حماية المدنيين في مناطق النزاع. وتلقّى موظفو اللجنة الدولية للصليب الأحمر سيلاً من الدعوات من الناس الذين يناشدون إجلاءهم من الخرطوم، لكن الأيتام في "المايقوما" استحوذوا على الاهتمام. وأخبرت فاخوري أبو فاطمة أنّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر يمكنها إخراجهم من العاصمة، طالما وجدت اليونيسف والحكومة مكاناً آمناً لاستقبال الأطفال والموظفين.
إلا أنّ نقل الأيتام كان يستدعي تقديم طلب إخلاء من وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية السودانية، التي اضطرت هي نفسها إلى الانتقال من الخرطوم بسبب الحرب.
تضييق الخناق
أصابت رصاصات طائشة جدران دار "المايقوما" لرعاية اليتيم. وكلما كانت هواتف الموظفين متصلة بالإنترنت، قرأوا عن عمليات الاغتصاب والقتل العشوائي التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي نشأت من مقاتلي الجنجويد سيّئي السمعة الذين أرهبوا دارفور في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في حين وجّه الجيش السوداني ضربات جوية عشوائية على ما يبدو للعاصمة الخرطوم. وفي أحد الأيام، انهار السقف على الأطفال في عدد من الغرف بعد أن أصابت قذيفة أو طائرة مسيّرة مبنى مجاوراً.
ويُعدّ يوم 26 أيار/مايو 2023 بالنسبة للدكتورة عبير والدكتور كناني أفظع يوم في الحرب. ففي غضون 24 ساعة، توفي 14 طفلاً وتكدّست الجثث في العيادة، ولم يتبقّ سوى مساحة صغيرة لعلاج الأحياء. وكانت عبير قلقة من احتمال موت جميع الأطفال. في تلك الليلة، قام كناني بتسجيل الدخول مرة أخرى إلى "فيسبوك" وكتب: "رسالتنا للعالم: إخلاء دار الأيتام من الخرطوم إلى مدينة آمنة عبر مسار آمن. أنقذوا إنسانيتنا. أنقذوا الأطفال". وانتشرت أنباء وفاة الأطفال في جميع أنحاء السودان، ما أدّى إلى مزيد من الدعم. وقام مقاتلو قوات الدعم السريع بإحضار الحفاضات والأدوية والوقود للمولّد.
وأخيراً، في 29 أيار/مايو، أرسلت الوزارة طلب الإخلاء الذي تحتاجه اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ولم يواجه مسؤولو اللجنة الدولية مقاومة تذكر لتأمين مرور آمن من قوات الدعم السريع والجيش الذين قرأوا عن الأطفال المحتضرين. وضغط أبو فاطمة من منظمة اليونيسف على المقاولين لإنهاء أعمال التجديد في مبنى حكومي في ود مدني، وهي مدينة تقع على بعد نحو 120 ميلاً جنوب شرق الخرطوم وستكون المنزل الجديد للأطفال.
بارقة أمل
في 7 حزيران/يونيو 2023، توقّفت 6 حافلات و4 سيارات تابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر وسيارة إسعاف خارج دار "المايقوما"، في حين كانت المربيات يحضرن الغداء للأطفال. وقد علمت عبير أنّ خطط الإخلاء يجري التحضير لها بخطى سريعة، إلا أنّ أحداً لم يخبرها أنهم سيأتون في ذلك اليوم.
بلغتها الإنكليزية المتردّدة، ناشدت عبير موظفي اللجنة الدولية العودة في يوم آخر. فهم لا يمتلكون العدد الكافي من الأشخاص البالغين لاحتواء جميع الأطفال. لكنّ ردّ الموظفين كان واضحاً: لقد حصلوا على ممر آمن ليوم واحد فقط. وكان عليهم أن يغادروا.
وقام مقاتلو قوات الدعم السريع المرافقون للقافلة بتمشيط الحي بحثاً عن النساء اللاتي يمكن أن يساعدن في حمل الأطفال أثناء الرحلة. وشكّل بعض المقاتلين سلسلة بشرية لإدخال الحفاضات وحليب الأطفال إلى الحافلات. وكان كل شخص بالغ وطفل كبير يمسك ثلاثة أطفال أو أكثر أثناء خروج الحافلات من دار الأيتام. وبقي الدكتور كناني لرعاية أسرته في الخرطوم. ومع كل مطب، كان أطفال صغار يسقطون على الأرض. وكان في مقدمة كل حافلة سرير أطفال يستخدم لوضع الجثث بعيداً عن الأطفال الآخرين في حال توفي أحدهم في الطريق.
انتهى الأمر بالدكتورة عبير منفصلة عن أطفال العيادة بمن فيهم يوسف، وكانت قلقة بشأن مستقبله من دونها. وشاهدت من خلال النوافذ شوارع الخرطوم المزدحمة عادةً مهجورة إلى حد كبير. وقد تمزّقت بوابات المباني، وكان الأثاث ملقى على الأرض بعد جولات من النهب.
وفي سيارة الإسعاف، تمّ توصيل محمد، وهو طفل رضيع يعاني من سوء تغذية حاد، بجهاز الأوكسجين. وكانت مارينا فاخوري منسّقة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وممرضة والسائق يتتبّعون أنفاسه ويأملون أن يصمد في رحلته.
كان الظلام قد حلّ عندما وصلت الحافلات إلى مدينة ود مدني. وبعد مرور 54 يوماً على بدء الحرب، تمكّن 298 من أطفال "المايقوما" البالغ عددهم 370 طفلاً من النجاة من الموت. وتمّ نقل 28 طفلاً على الفور إلى وحدة العناية المركّزة في مستشفى قريب، وانفجرت المربيات بالبكاء. وبقيت الأسرّة الموجودة في مقدّمة الحافلات فارغة. في تلك الليلة، نامت عبير على فرشة على أرضية قاعة الزفاف، وهي ملجأ مؤقت وجده أبو فاطمة ريثما تنتهي أعمال تشييد مقرهم الحكومي. لقد كانوا آمنين في تلك اللحظة.
تقدّم آخر
كانت مباني دار الأيتام في ود مدني مكتظة، لكن عبير والأطفال والمربيات اعتادوا على روتينهم الجديد. وتمّ تبنّي 100 طفل من أيتام دار "المايقوما". وكل بضعة أيام، يصل طفل جديد إلى دار الأيتام. وبحلول منتصف كانون الأول/ديسمبر، تعافى معظم الأطفال الذين كانوا يعانون من سوء التغذية. والتأمت جروح يوسف لدرجة أنه قضى أيامه مع الأطفال الآخرين. إلا أنّه أصرّ في الليل على النوم في سرير عبير. بعد ذلك انتشرت أنباء عن هجوم لقوات الدعم السريع على أطراف ود مدني. وبعد يومين، سمعت عبير أصوات القصف وإطلاق النار المعهودة.
وأرسل كناني، الذي كان في ذلك الوقت في إثيوبيا مع عائلته، رسالة إلى الدكتورة عبير وحثّها على الدفع من أجل إخلاء المكان. وقام بجولة جديدة من المنشورات والمقابلات الإعلامية على "فيسبوك"، وفي غضون ساعات تلقّى نحو 600 مكالمة ورسالة. وفي تلك الليلة، أطلق مقاتلو قوات الدعم السريع النار على بوابة دار الأيتام. وصرخ الرجال على عبير والمربيات، مطالبين بمعرفة ما يفعلونه مع هذا العدد الكبير من الأطفال. وقاموا بتفتيش حقائب النساء وسرقوا هواتفهن.
وجمع أبو فاطمة زملاءه في مكتبه في بورتسودان، العاصمة المرتقبة الجديدة للبلاد، للتخطيط لعملية إجلاء أخرى. إلا أنّه هذه المرة لم تتمكّن اللجنة الدولية للصليب الأحمر من تقديم المساعدة. فقبل بأيام، تعرّضت قافلة تابعة لها لإطلاق نار خلال مهمة إنقاذ أخرى، ما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة سبعة. واستغرق وصول الحافلات إلى ود مدني 12 يوماً لنقل 254 يتيماً ومقدّمي الرعاية لهم. ووصلوا إلى كسلا، وهي مدينة تقع على الحدود الشرقية للسودان مع إريتريا. وتوفي بعد فترة وجيزة ثلاثة أطفال، من بينهم ماجدة، البالغة من العمر 12 عاماً والتي كانت تعتمد على جهاز الأوكسجين.
ولا تزال الدكتورة عبير والمربيات يراقبن بقلق تقدّم قوات الدعم السريع من موقعهن الجديد، ويعاني عدد من الأطفال من حساسية تجاه الأصوات العالية. أما الدكتور كناني، فهو موجود حالياً في المملكة العربية السعودية، حيث لم يفلح حتى الآن في العثور على عمل.
بدأ يوسف يتكلم، وتمّ تبنّي المزيد من الأطفال، معظمهم من قبل أسر في بورتسودان. ولم يعد دار الأيتام يستقبل أطفالاً جدداً. وفي شهر حزيران/يونيو الماضي، سافرت عبير لرؤية والدها وإخوتها، بعد أن توفيت والدتها في شباط/فبراير وتبعتها عمتها وخالها بعد فترة وجيزة. وعادت إلى دار الأيتام بوثيقة مهمة كانت تحتاجها كامرأة غير متزوجة: إذن والدها لتبنّي يوسف. وفي هذا الصدد، تقول: "حتى لو توقّفت الحرب، فإنه سيبقى معي إلى الأبد".
نقلته إلى العربية: زينب منعم.