المجتمع الدولي والمستقبل المشترك
المشهد العالي الخانع والمريب من جراء ما يحدث من جرائم إسرائيلية في قطاع غزّة يتناقض تناقضاً صارخاً مع قيام 143 دولة بالتصويت لمصلحة مشروع القرار الذي يُوصي بمنح فلسطين صفة دولة عضو في الأمم المتحدة.
لقد أثبتت عملية ما يُسمى بـ"الوساطة والتفاوض" بهدف وقف حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها التحالف الصهيوني الغربي في غزّة، والتي راح ضحيتها أكثر من 100 ألف شهيد وجريح، أغلبهم من الأطفال والأمهات، أمراً واحداً فقط، هو إصرار حكومة "إسرائيل" الصهيونية وحليفاتها الإدارة الأميركية برئاسة الصهيوني بايدن وحكومات بريطانيا وألمانيا وفرنسا على إبادة الشعب الفلسطيني برمّته وبناء دولتهم العنصرية الاستيطانية على جماجم وعظام أطفال وأبناء فلسطين، مع شللٍ تام لإرادة المجتمع الدولي والإسلامي والعربي ولأيّ أثر للقانون الدولي أو قانون حقوق الإنسان أو ما يسمّى "الشرعية الدولية"، ومع الدعم الكامل الذي تقدمه حكومة بايدن الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية لهذه الإبادة الجماعية عسكرياً ومالياً وسياسياً وإعلامياً. لقد انتهك الكيان الصهيوني في حربه هذه كل القواعد الإنسانية والأخلاقية ودنّسها بأبشع الطرق والوسائل.
ردود أفعال معظم دول العالم كانت مُخجلة فعلاً مقارنةً بحجم المأساة الواقعة بالشعب الفلسطيني، باستثناء بعض التحرّكات النبيلة التي قام بها طلاب الجامعات الأميركية ممن حاولوا إنقاذ شرف بلدانهم وإنقاذ حياة الفلسطينيين الأبرياء.
إنّها المرّة الأولى التي نشهد فيها بصورة مباشرة الانتهاك الوحشي لحرمة الحياة الإنسانية وحرمة الثقافة وحرمة الدين؛ فالاغتصاب المروّع للنساء الأسيرات أمام أفراد أسرهن، ومن ثمّ قتلهم جميعاً لدى اعتراضهم على ذلك الفعل الشائن، لهوَ أفظع الجرائم التي يُمكن لأيّ إنسانٍ أن يرتكبها. ومع كلّ هذا وذلك لم تصدر مذكرة اعتقال واحدة بحقّ من يعطي تلك الأوامر أو يرتكب تلك الأفعال الإجرامية الوحشية.
كلّ ما نشهده ونراه من خنوعٍ عالمي مُريب وغادر لجرائم الصهاينة يتناقض تناقضاً صارخاً مع قيام 143 دولة بالتصويت لمصلحة مشروع القرار الذي يُوصي بمنح فلسطين صفة دولة عضو في الأمم المتحدة، وهو مشروع القرار ذاته الذي صوّتت الولايات المتحدة، ويا للعار، ضدّه في مجلس الأمن قبل أسابيع قليلة.
العبرة المستفادة من هذا الحدث ومن العديد من الأمثلة المشابهة الأخرى هي أنّ الولايات المتحدة التي استولت الصهيونية عليها ممثلة بمنظمة "آيباك" الشريرة، والتي تُشكّل أعتى قوّة عسكرية، هي التي تقف عائقاً في طريق تحقيق العدالة، ليس للفلسطينيين فحسب، إنّما للعديد من الشعوب في بلدان مختلفة في العالم أيضاً، وهي التي تُؤجج الصراعات، وتشعل الحروب، وتقتل الملايين من المدنيين الأبرياء، وتنشر الأوبئة، وتقوّض كلياً أيّ سلطةٍ مؤسساتية دولية تحاول تحدّي هيمنتها على الإرادة الدولية والتطلعات المشروعة للشعوب.
ربما لهذا السبب حظيت الجولة الأوروبية التي أجراها الرئيس الصيني شي جين بينغ في 3 دول أوروبية باهتمام بالغ؛ فقد تناولت وسائل الإعلام الغربية الزيارة بكل تفاصيلها، وصدر سيل غزير من المقالات والأخبار حول هذه الجولة التي جاءت في توقيت مدروس وظهرت بمنزلة بيان قوي وحكيم للرئيس الصيني في غمرة الفوضى الدولية والإقليمية التي يعيشها العالم في الوقت الحاضر.
وقد تزامنت زيارة الرئيس جين بينغ إلى صربيا مع الذكرى الـ25 لقيام "الناتو" بقصف السفارة الصينية في بلغراد خلال حرب تفكيك دولة يوغوسلافيا إلى عدّة دول على أسس دينية وطائفية، وفي ذلك إشارة إلى أنّ الصين لا تسعى لخدمة مصالح الشعب الصيني فحسب، إنّما إلى ما فيه مصلحة شعوب العالم أجمع ممن يبحثون عن نظام عالمي عادل ومسالم بديل من النظام الحالي الذي تسيطر عليه الصهيونية، ما يفرز مجتمعاً دولياً يفتقر إلى وجود أيّ نظام شرعي في العصر الراهن.
أحد الأمور المثيرة للاهتمام بحقّ هو متابعة المراجعات الغربية حول جولة الرئيس الصيني، سواء في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أو في صحيفة "الغارديان" أو وكالة "رويترز" أو محطة "يورو نيوز" أو "فورين بوليسي"، والتي تدفعك إلى التبسّم في كثيرٍ من الأحيان غير مصدق، وينتهي بك المطاف إلى شعور واضح بأنّ تلك الوكالات والوسائل الإعلامية التي أصبحت تماثل الإعلام السوفياتي بالصوت الواحد، وهي لا تزال تعتقد أنّها صاحبة قضية أو أنها تمتلك الوزن والمصداقية لتقييم ما يقوله الآخرون أو يفعلوه. ويتضاعف هذا الشعور لديك ألف مرة عندما تجرؤ تلك الوسائل الإعلامية على الحديث عن الرئيس شي جين بينغ المعروف باتزانه وبعد نظره ورؤيته الواضحة والمؤثرة التي لا تهتمّ بمستقبل الصين وشعبها فحسب، بل تسعى إلى رفاه مستقبل العالم بأسره أيضاً.
لا يتمالك القارئ نفسه ضحكاً ساخراً لدى قراءة أنّ واشنطن أصدرت عبارات تحذيرية ضدّ الرئيس جين بينغ بشأن الحرب التجارية التي تلوح في الأفق مع بروكسل، وأيضاً بشأن مساعدة الرئيس فلاديمير بوتين في الحرب التي يخوضها في أوكرانيا. كذلك الأمر عندما تقرأ أنّ الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا وصربيا والمجر)، والتي اختيرت للجولة التي قام بها الرئيس جين بينغ، هي الدول "الأكثر تردداً تجاه النظام الذي فرضته واشنطن على العالم بعد الحرب العالمية الثانية"، فهل أصبحت هذه الدول تؤمن فعلاً وتدرك أنّه لم يبقَ من هذا النظام إلا ممارسة الضغط والظلم والإساءة والتنمّر والتهديدات بالحرب؟
تتجلى الرؤية التي يقدّمها الرئيس شي جين بينغ في تقديم نظام عالمي بديل يقوم على مبدأ المصير المشترك المبني على أساس سلامة كل الأراضي والبلدان وسيادة جميع الأطراف، وعلى التعاون والتشاور الذي يأخذ بالاعتبار مصالح جميع الأطراف؛ ففي حديثه مع الرئيس الفرنسي، قال جين بينغ: "الصين وفرنسا عضوان دائمان في مجلس الأمن، وبإمكانهما المساهمة في نشر السلام والاستقرار العالميين". كذلك، دعا الرئيس الصيني إلى الحوار والنقاش بشأن كل القضايا التجارية والاقتصادية وجميع القضايا ذات الاهتمام المشترك، وتوجّه إلى الرئيس الصربي قائلاً: "يتوجب علينا مجتمعين مواجهة الهيمنة وسياسات القوة".
التعليق الذي نشرته وكالة "رويترز" بعد مغادرة الرئيس الصيني فرنسا كان: "شي يغادر فرنسا بعد زيارة استمرت يومين لم يقدّم خلالهما أي تنازلات تذكر حيال التجارة أو السياسة الخارجية بالرغم من محاولات الرئيس ماكرون الضغط عليه بشأن الوصول إلى الأسواق وبشأن قضية أوكرانيا"، وفي هذا تأكيد على ما اعتاده الغرب من ممارسة الضغوط على الآخرين من أجل انتزاع التنازلات منهم، وهذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الغرب ويتقنها، وهذا هو النجاح الوحيد الذي يعترفون به.
أما بالنسبة إلى الرئيس الصيني، فهو يأتي من منظورٍ مُختلف تماماً، ويعمل من أجل هدف مغاير كلّياً. أوَليس أمراً مفاجئاً لأيّ مسؤول غربي أن يعلم أنّ اتفاقية التجارة الحرّة بين الصين وصربيا تتضمن إعفاء جميع الصادرات من المنتجات الصربية إلى الصين بنسبة %95 من الرسوم الجمركية خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة؟! فيما أراد الاتحاد الأوروبي عام 2009-2010 أثناء التفاوض على اتفاقية الشراكة مع سوريا أن يفرض شروطه بإغراق الأسواق السورية بالمنتجات والبضائع الأوروبية وعدم السماح للمنتجات السورية بدخول الأسواق الأوروبية، باستثناء النزر اليسير منها، الأمر الذي رفضت سوريا التوقيع عليه إطلاقاً.
لقد وجّهت وسائل الإعلام الغربية اللوم إلى صربيا والمجر والصين لعدم قيامهم بإدانة ما سمته "الغزو الروسي لأوكرانيا"، وحاولت اتهام الصين بدقّ إسفين الخلاف بين الدول الأوروبية. كذلك، تجرأت وسائل إعلامهم على التحدث عن "انتهاكات لحقوق الإنسان في الصين"، وهم الذين يشنّون حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ويعتقلون الطلاب المتظاهرين ويحرمون حرية الرأي في بلدانهم.
لقد تحدّث رجل الدولة الرئيس جين بنيغ بأسلوب يُشعر باهتمامه وحرصه على كلّ نفس بشرية في أنحاء العالم، وكان في حديثه ورؤيته يبني الطرق والأحزمة والممرات الاقتصادية لأيّ دولة تشترك معه في الرؤية والمصالح العالمية. إنّ الرئيس الصيني بعيد كلّ البعد عن العقلية الغربية التي قامت بإعادة 11 مواطناً أميركياً من مخيمي الهول والروج في شمال شرقي سوريا المحتلّة من قبل القوات الأميركية، في الوقت الذي تترك ما يزيد على 30 ألف شخص من أكثر من 60 دولة في معسكرات اعتقال تحت حكمهم الظالم.
الرئيس شي جين بينغ قادم من مكانٍ مُختلف تماماً، ويتسلّح برؤية واضحة وعميقة لمجتمع دولي يتمتّع بمصير مشترك ومستقبل واحد تتمتع فيه جميع الدول والشعوب بالسلام والازدهار، ويسوده الاحترام والتساوي في الحقوق والواجبات الإنسانية؛ مجتمع لا يمكن فيه لأيّ حكومة أن ترتكب أفظع جرائم الإبادة ضدّ المدنيين العزّل في فلسطين بالتواطؤ والتآمر مع الغرب برمّته.