العلاقات مع روسيا.. حاجة ألمانية لا يمكن الاستغناء عنها
مرت العلاقات الألمانية الروسية بتحديات عديدة طيلة عقود من الزمن، لكن الحاجة الألمانية لروسيا بقيت ثابتة حتى يومنا هذا.
تعتبر العلاقة بين روسيا وألمانيا ضرورية لتشكيل البيئة الأوسع التي تعيش فيها الدول الأوروبية، على الرغم من مرورها بمطبات عديدة خلال عقود من الزمن.
مرت العلاقات الألمانية الروسية بفترة انفتاح اقتصادي وتعاون في مجالات مختلفة، وذلك في عهد المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، التي اتخذت إجراءات عديدة عززت من العلاقات بين البلدين، ولكن في الوقت نفسه كانت تمارس "الخداع".
قبل أيام، كشفت ميركل لصحيفة "Zeit" الأسبوعية الألمانية أن اتفاقيات "مينسك" بين روسيا وأوكرانيا عام 2015، كانت تهدف لمنح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدرات كييف العسكرية.
ميركل أشارت إلى أنّ أوكرانيا استغلت هذه الفرصة جيداً، وهي اليوم أقوى مما كانت عليه في الأعوام 2014-2015، وأنّ اتفاقيات "مينسك" لم تنه الأزمة في شرق أوكرانيا، إلا أنّها جمدتها لفترة من الزمن، كون حلف الناتو لم يكن قادراً على إمداد قوات كييف بالأسلحة خلال تلك الفترة بذات الوتيرة التي يقدمها اليوم.
تصريح المستشارة السابقة يحمل في طيّاته ما كان يضمره الغرب تجاه روسيا، ففي وقتٍ نصّت اتفاقيات "مينسك" على حل الأزمة في شرق أوكرانيا ووقف إطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، وعدم التعرّض للمدنيين المتحدثين بالروسية في تلك المناطق، لم يمارس الغرب أي ضغوط على كييف لتنفيذ التزاماتها.
اقرأ أيضاً: اتفاقية مينسك: مخطط غربي لخداع موسكو؟
لطالما شكلت سياسة ألمانيا تجاه الأزمة الأوكرانية مصدر قلقٍ لروسيا، حيث راهنت برلين وبدعمٍ أميركي على الانقلاب في كييف عام 2014، لدعم عودة كييف إلى المربع الأوروبي، وهو ما تحاول إتمامه بعض الدول الأوروبية اليوم عبر السعي لمنح أوكرانيا عضوية الاتحاد الأوروبي، على حساب التكامل الإقتصادي الذي تسعى له روسيا ويحقق منفعة متبادلة للطرفين.
روسيا موّرد أساسي للغاز
تعاني ألمانيا بصورة كبيرة تبعات قرارها المشاركة في حملة العقوبات الغربية الشاملة ضدّ روسيا. ومنذ شباط/فبراير الفائت، بدأت تقلّص على نحو كبير اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا، من 55% من إجمالي واردات الغاز في حينها إلى لا شيء حالياً.
ولطالما وقّعت برلين بين سندان الحفاظ على العلاقة مع موسكو والمطرقة الأميركية الضاغطة لاستخدامها ورقة ضد الروس، ما أفضى إلى تخبّطٍ ألماني واضح وفي التصريحات، وخشية من تداعيات الحرب السيئة، ويندرج في هذا الإطار تصريح المستشار الألماني أولاف شولتس، اليوم الثلاثاء، بأنّ "التعاون الاقتصادي مع روسيا يجب أن يصبح ممكناً بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا".
لا يستطيع المستشار الألماني فكّ الارتباط بشكل كامل مع موسكو، فالمؤشرات تدل على التمسك بقوة العلاقات الاقتصادية، ومنها إصرار ألمانيا على استكمال مشروع "نورد ستريم 2" رغم معارضة واشنطن ودول أوروبية أخرى له بشدة.
ويضمن إنجاز هذا المشروع ضخ أكثر من 50 مليار متر مكعب من الغاز الروسي لمد السوق الألمانية والأوروبية بمصدر طاقة نظيف وأرخص من مثيله الأميركي. وهذا تماماً ما تحتاجه ألمانيا، خصوصاً بعد فشل رهانها على الأميركي طيلة سنوات مضت، وهذا ما أكدته صحف ألمانية تحدثت عن هذا الموضوع.
اقرأ أيضاً: ما هو أفق التفاوض مع روسيا بعد اعتراف ميركل؟
يشار إلى أنّ المستشار الألماني أولاف شولتس تجنّب في أكثر من مرة انتقاد مشروع "نورد ستريم 2" لأنابيب الغاز الروسي، وإدخال في السجال السياسي.
وعلى الرغم من الأهمية المتزايدة للطاقات المتجددة، فإنّ الغاز الطبيعي يضطلع بدور محوري باعتباره ثاني أكبر مصدر للطاقة في ألمانيا لهذه الصناعات.
اقرأ أيضاً: ألمانيا: احتجاجات رافضة لأداء الحكومة والتبعية لأميركا
انعكاسات سلبية للحرب على ألمانيا
وبناءً على كل ما سبق، فإنّ دخول ألمانيا في دوامة الدعم العسكري لأوكرانيا، وفرضها للعقوبات على روسيا، انعكس سلباً على الحياة في ألمانيا، التي أدركت جيداً حجم الضرر الذي لحق بها، بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، على الصعد كافة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً أيضاً.
في الفترة الأخيرة، وسائل إعلام ألمانية تحدثت غير مرّة عن أن تصدير برلين للأسلحة إلى كييف أدّى إلى انخفاض كبير في كمية الذخيرة في ألمانيا، وتحدثت كذلك عن مشكلات كبيرة تعترض مسار عملية إنتاج الأسلحة والذخائر الجديدة.
وتراجعت ألمانيا عن وعدها بزيادة الإنفاق العسكري إلى 2% على الأقل من ناتجها الاقتصادي، متراجعةً بذلك عن التزامها الرئيسي الذي قطعته على نفسها بعد أيام من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتصبح قوة عسكرية أكثر جدية، وفق ما ذكرت صحيفة "بوليتيكو".
اقرأ أيضاً: ألمانيون يتساءلون: لماذا توهب أموالنا لأوكرانيا الغارقة في الفساد؟
كذلك، قفز التضخم في ألمانيا، بعد العملية العسكرية، إلى أعلى مستوى له منذ نحو 70 عاماً، مدفوعاً بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وارتفعت أسعار المستهلكين في أيلول/سبتمبر بنسبة 10.0% مقارنةً بنفس الشهر من العام الماضي، ويتوقع الاقتصاديون أيضاً معدلات تضخم من رقمين في الأشهر المقبلة. ولم يسبق وجود مثل معدلات التضخم الحالية في ألمانيا.
وتقلل معدلات التضخم المرتفعة من القوة الشرائية للمستهلكين وتضعف القدرة المالية للناس.
مصالح مشتركة
يقول المراقبون إنّه بقدر ما تحتاج برلين لروسيا كسوق للصادرات الألمانية وقبل هذا وذاك كمصدر للطاقة، فإنّ موسكو لا تستطيع الاستغناء عن ألمانيا كسوق لمنتجاتها من الطاقة التي يعتمد عليها اقتصاد البلاد بشكل كبير. كما أنّ هناك معادلة أخرى في العلاقات بين البلدين وهي أنّ روسيا ترى في ألمانيا بوابة مهمة إلى الإتحاد الأوروبي وبديلاً مناسباً للتحرر من أي ضغوط غربية وأميركية بوجه خاص.
يشار إلى أن ألمانيا كانت قبيل عام 2007 هي الشريك الاقتصادي الأكبر لروسيا في الاتحاد الأوروبي. ومنذ سنوات، علق السفير السوفياتي الأسبق لدى المانيا ونائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الروسي يولي كفيتسينكي بالقول إنّ " ألمانيا تتصرف مثل العروسة التي تنتظر عريساً أفضل"، في إشارة الى غرام ميركل بواشنطن وحاجتها لموسكو.
يوجد فجوة واضحة في الرؤية السياسية لكل من ألمانيا وروسيا. كما أنّ السلوك السياسي، لا سيما على الصعيد الدولي، يحتاج إلى تقارب أكبر لا يمكن الوصول له قريباً، حيث تُعاني ألمانيا من مُعضلة الخروج من التبعية الأميركية وهو ما يصعب القيام به بسرعة دون توفُّر ظروف ملائمة وقرار ألماني صادق.
ثانياً: باتت العلاقات الروسية الألمانية أهم تحدٍ يواجه برلين، خصوصاً أنّ أمامها العديد من التحديات الداخلية ومنها الآثار الاقتصادية للعقوبات الأوروبية ضد روسيا والتي باتت تؤثر بشكل سلبي في ألمانيا.
تصريح المستشار الألماني، اليوم، بشأن إمكانية التعاون الاقتصادي مع روسيا بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا، يعكس أنّ الاقتصاد الأكثر تضرراً في أوروبا من جراء حرب أوكرانيا وما تلاها من عقوبات يطمح إلى استعادة ما دُمّر قريباً.