إردوغان في الجولة الثانية... أوراق قوته ونقاط ضعف المعارضة
نقطة الضعف الرئيسية للمعارضة تكمن، في استغلال الرئيس التركي للارتفاع الحادّ في المشاعر القومية الدينية الاسلامية التي أفرزتها نتائج الجولة الأولى.
بعد 20 عاماً في السلطة، قد يحصل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات التي من المقرّر أن تجري في 28 أيار/مايو الجاري، على فرصة لحكم تركيا لمدة 5 سنوات أخرى، إن لم يكن أكثر، إذ يرجح غالبية الخبراء، استناداً إلى الوقائع والمعطيات على الأرض، أن يفوز إردوغان على منافسه الرئيسي كمال كليجدار أوغلو، متجاوزاً بذلك، إلى حد بعيد، أي زعيم تركي آخر منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولا سيما السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، خصوصاً وأن ائتلافه الحاكم، حصل بالفعل على أغلبية برلمانية.
كيف كانت الصورة في الجولة الأولى من الانتخابات التركية؟
قبل يوم واحد من الجولة الأولى التي جرت في 14 أيار/مايو الجاري، كانت غالبية التحليلات والآراء في الداخل والخارج، تعطي الأفضلية لفوز المعارضة التركية بسبب الإخفاقات والارتكابات الكثيرة لإردوغان خلال عقدين من وجوده في السلطة، وفي مقدّمتها الأزمات الاقتصادية القائمة التي أثقلت كاهل المواطن التركي، وسوء تعامل حكومته مع تداعيات الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا في شباط/فبراير الفائت.
ثم جاءت استطلاعات الرأي لتغذّي الآمال بالإطاحة بإردوغان، بعدما أظهرت تقدّم زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو بقوة، في الجولة الأولى من السباق الرئاسي، وصوّرت الأمر كما لو أن إردوغان يعيش أيامه الأخيرة في السلطة.
لكن المفاجأة، أنه بعد يوم واحد من التصويت، بدا الشعور بالخيبة والفشل واضحاً بين مؤيدي المعارضة. وبدلاً من أن يتخلّف إردوغان عن كليجدار أوغلو، حقّق تقدّماً مريحاً بما يقرب من خمس نقاط مئوية، وكان في طريقه لتحقيق فوز ساحق بحصوله على ما يقرب من 50% من الأصوات.
أدوات إردوغان التي منحته تقدّماً على خصومه
في الحقيقة، أعطت السنوات التي قضاها إردوغان في الحكم، تفوّقاً ملحوظاً للرئيس التركي، في إدارة معركته الرئاسية على خصومه. إذ أجاد الرجل وببراعة التعامل مع كتلة ناخبيه، واستغلال، توجّهاتهم السياسية والدينية، بدهاء وحنكة لافتتين، لرفع حظوظه الانتخابية، وذلك بالاستفادة من سلطته الهائلة، ونفوذه المتغلغل في مختلف الإدارات الرسمية.
ولهذه الغاية، اعتمد الرئيس في حملته الانتخابية نموذجاً كان قد جرّبه بالفعل في الانتخابات السابقة في عامي 2015 و2018، عندما قام بشيطنة المعارضة، وإثارة مخاوف قاعدة مؤيديه القوميين المتدينين، عبر تحريضهم وتأليبهم ضد النخب الساحلية العلمانية تقليدياً في تركيا.
ليس هذا فحسب، أظهرت النتيجة الأولى، قدرة إردوغان على المناورة بأذرع النظام التركي الذي يسيطر عليه. فقبيل الانتخابات، كان المعارضون السياسيون الرئيسيون مسجونين بالفعل أو يتعرّضون للتهديد بالملاحقة القضائية، زد على ذلك أن الرئيس التركي كان قد عمل أثناء سنوات حكمه على زرع الموالين له بمؤسسات الدولة، ونجح كذلك في تطويع الإعلام المستقل، واحتوائه وتحويله الى منافذ إعلامية موالية للحكومة (كسلطة إضافية)، مما خلق له مساحة معلومات كبيرة، يجيّرها لصالحه كلما دعت الحاجة.
علاوة على ذلك، واجه الرئيس التركي "حزب الشعوب الديمقراطي" اليساري الكردي، بسلسلة من الهجمات المستهدفة والحرب القانونية (كلا الزعيمين الرئيسيين للحزب في السجن الآن) حيث تمّ شطب العديد من أعضاء البرلمان والمسؤولين البلديّين، وتعرّض بعضهم أيضاً لإجراءات جنائية مشحونة سياسياً. ولذلك، انضم مرشحو حزب الشعوب الديمقراطي، إلى القوائم الانتخابية لـ "حزب اليسار الأخضر"، الذي واجه أيضاً حملة ضغط مدعومة من الحكومة، شهدت اعتقال بعض مرشحيه وأنصاره.
كما عمد إردوغان إلى تسخير الآلة الدعائية الضخمة التابعة له، للنيل من المعارضة. إذ حظيت خطابات الرئيس بتغطية شاملة على وسائل الإعلام التركية، فحصل إردوغان في نيسان/أبريل الماضي، على 32 ساعة من البث التلفزيوني الرسمي مقارنة بـ 32 دقيقة لكليجدار أوغلو، بالمقابل نشر الأخير رسائله للجمهور (وهي خطابات مسجّلة إلى حدّ كبير) من خلال حسابه على منصة Twitter، وتناول فيها موضوعات مثل الاقتصاد، ففي إحداها انتقد الأخير من على طاولة مطبخ شقته في أنقرة ارتفاع أسعار البصل في الأسواق التركية، لتسرع آلة الدعاية الموالية لإردوغان بالرد عليه قائلة: "هذا يتعلّق بالاستقلال وليس البصل".
الأكثر أهمية، هو استخدم إردوغان تكتيكات أخرى في الأسابيع التي سبقت التصويت، بما في ذلك رفع رواتب موظفي القطاع العام، وتوفير الغاز المجاني للأسر.
أوراق إردوغان السياسية والشعبية القومية
في الواقع لا يوجد أحد في العالم بما ذلك الغرب، يمكن أن يتهم إردوغان "بسرقة الأصوات أو تزوير الانتخابات"، ومع ذلك يمتلك الرئيس التركي العديد من نقاط ومكامن القوة، التي تجعله قادراً على الاستمرار في الانتصار على خصومه في المعارضة وهي تتلخّص بالآتي:
أولاً: تشكليه رابطة (دينية وقومية) مع أكبر كتلة اجتماعية سياسية في تركيا وهم: المحافظون المتدينون، وهؤلاء منجذبون بطبيعتهم لإردوغان وخطابه الذي أسر بعباراته الرنّانة والهادفة قلوبهم ونفوسهم، بعدما لخّص فيه رؤيته المستقبلية لتركيا، وهي جعلها "أمة عظيمة ومسلمة مرة أخرى، بالرغم من الأعداء الشرهين والمؤامرات الشنيعة"، كما يقول إردوغان.
وعليه، تستند هذه السردية، التي تضخها آلة دعاية ضخمة تضم الكثير من وسائل الإعلام الموالية له، على الرواية المثيرة الآتية: "كان الأتراك ذات مرة، بصفتهم حكّام الإمبراطورية العثمانية، سادة العالم. لكن بسبب المؤامرات الأوروبية والخونة بداخلهم، جُثّوا على ركبهم. والأسوأ من ذلك، سيطر العلمانيون القمعيون على تركيا من عشرينيات القرن الماضي، إلى عام 2000، حيث أهانوا الأتقياء بإغلاق مساجدهم أو حظر الحجاب. ثم جاء إردوغان الذي تمّ تصويره على أنه المخلّص، وأنهى هذا العصر الطويل من العار".
وتضيف تلك الرواية المنتقاة بإتقان: "هذا هو السبب في أنهم يهاجمون إردوغان باستمرار. (هم) مزيج غني، يحتوي على أحزاب معارضة، ونقّاد ليبراليين، ووسائل إعلام غربية، وعصابات رأسمالية، وجورج سوروس، والدولة الأميركية العميقة، والمحاكم الأوروبية، والإرهابيين الكرد، ونشطاء مجتمع الميم أو المنشقين داخل المعسكر الديني. هؤلاء أعداء تركيا يحاولون إجبار الأمة المجيدة وقائدها على السقوط".
أما مفعول هذه السردية على جماهير إردوغان، فكان يتمثّل بصراخ المؤيدين لإردوغان: "يديرت مايز" - وهو شعار يعني تقريباً "لن نسمح لهم بالحصول عليه".
ثانياً: إن سيطرة ائتلاف إردوغان على البرلمان، تجعل من السهل عليه الترويج لنظرية: "إن فوز كليجدار أوغلو سيؤدي إلى مأزق سياسي في البلاد"، كما كتب هوارد آيسنستات، الباحث غير المقيم في معهد الشرق الأوسط.
ثالثاً: استثارة إردوغان لمخاوف وغرائز الأتراك المتدينين، وتحذيرهم من العودة إلى حقبة سابقة من العلمانية المتشددة، والتي دافع عنها على مدى عقود أسلاف "حزب الشعب الجمهوري بزعامة كليجدار أوغلو، أو حزب الشعب الجمهوري. من هنا، يبدو أن بثّ الذعر وتأجيج الصراع الثقافي ينجحان في المناطق النائية لتركيا، حيث يستمد إردوغان الجزء الأكبر من دعمه.
رابعاً: لعب إردوغان على الوتر الطائفي والمذهبي، من خلال استخدامه هوية كليجدار أوغلو العلوي ــ وهي طائفة إسلامية أكثر صوفية وعالمية تعرّضت للاضطهاد في الماضي بشكل كبير من دول عديدة – كعامل تحريض إضافي لتخويف بعض الناخبين المحافظين من المعارضة وهويتها الدينية.
فخارج المدن الساحلية الرئيسية، العاصمة أنقرة والمناطق ذات الأغلبية الكردية، فشل تحالف اليسار واليمين المعارض في بقية البلاد في الحصول على تأييد واسع، بحسب تغريدة سونر كاجابتاي، الزميل الأول في معهد واشنطن: "شيّطن إردوغان دعم حزب الشعوب الديمقراطي لكليجدار أوغلو وهويته العلوية، وعمل على نشر الفرقة بين الناخبين وتعميق الانقسام بين اليمين واليسار، بما يفيد في النهاية كتلته اليمينية الدينية".
خامساً: يمكن لإردوغان أيضاً الإفادة من قاعدة ناخبين مخلصين، وتبعاً لذلك أشارت صحيفة فاينانشال تايمز إلى أن "الأداء الذي يتحدى استطلاعات الرأي، يتجسد بالجاذبية الدائمة للرئيس، وصدى عرضه السياسي لقاعدة من الناخبين المحافظين المتدينين ذوي الميول القومية القوية".
سادساً: لم يكن للغضب من مشاريع البناء الرديئة في عهد إردوغان والتي انهارت بعد زلزال شباط/فبراير الماضي أي تأثير كبير على الانتخابات. وفي هذا السياق كتب الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا دارون أسيموغلو: "لم يكن لسوء الإدارة الاقتصادية، والفساد المستشري جاذبية واسعة كما اعتقد الكثيرون (بمن فيهم أنا).. كان هذا مهماً في المناطق الحضرية، ولكن ليس في الأماكن التي بنى فيها حزب العدالة والتنمية شبكات المحسوبية الخاصة به واستخدمها".
سابعاً: تضمّنت حملة إردوغان لهذه الانتخابات الإعلان عن آلتين حربيتين جديدتين: أول حاملة طائرات من دون طيار في تركيا، TCG Anadolu، و"طائرتها المقاتلة الوطنية" الجديدة، "كان". تم إطلاق كليهما في احتفالات عامة مع حشود ضخمة، وحماس حقيقي مع عظمة جديدة، طعّمها بتحديث ملفه الشخصي على تويتر لعرض صورة له في وضع حازم، مرتدياً زيّ طيّار نفّاث. والأهم من ذلك كله، أنه توّج حملته بصلاة العشاء في آيا صوفيا، التي حوّلها إلى مسجد.
ماذا عن حظوظ كليجدار أوغلو؟
عملياً، قد لا تتمكّن أحزاب الطاولة الستة التي اتحدت حول كليجدار أوغلو، من الحفاظ على تضامنها لفترة أطول. فهؤلاء يمثلون مزيجاً من الفصائل العلمانية والدينية والقومية، التي كانت قدرتها على الالتقاء إنجازاً كبيراً في حد ذاتها ورمزاً لرغبة المعارضة الواسعة النطاق في إنهاء عهد إردوغان. ولكن بعد أن استشعروا الفشل، فإن انقساماتهم الأيديولوجية ومنافساتهم السياسية قد تبرز إلى الواجهة مجدداً.
إضافة الى ذلك، فإن نقطة الضعف الرئيسية للمعارضة تكمن، في استغلال الرئيس التركي للارتفاع الحادّ في المشاعر القومية الدينية الإسلامية التي أفرزتها نتائج الجولة الأولى.
وفي حين يمكن لكل من كليجدار أوغلو وإردوغان تقديم تصوّرات متضاربة بشأن قدرتهم على استقطاب هذا الجزء من الناخبين (المحافظين المتدينين)، فإن نجاح كليجدار أوغلو يعتمد على التصويت الكردي. ومن دونهم، لا يمكنه الفوز، لكن المشكلة، التي تواجهه، أنه بالتحالف معهم أي الكرد، لن يدعمه العديد من الناخبين الوطنيين الذين تأثروا بدعاية إردوغان واتخاذه خطاً أكثر قومية وتشدّداً في السنوات الأخيرة، حيث جعل من السياسيين المؤيدين للكرد كبش فداء، وصوّرهم على أنهم متعاطفون "إرهابيون" وصعّد من حملة لمكافحة التمرد في جنوب شرق تركيا ضد جماعة انفصالية.
في المحصّلة، في عام 1992، فاز الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بانتخابه على خلفية الشعار اللاذع "إنه الاقتصاد، يا غبي". هذه المرة في تركيا، كان كل شيء يدور حول الحرب الثقافية والقومية الدينية التي يشنها إردوغان على خصومه في المعارضة.
وهي لغاية هذه اللحظة تبدو كحصان طروادة الذي سيمتطيه إردوغان للعودة والدخول الى قصره الرئاسي من جديد، وما يدعم هذا الاستنتاج أن معظم الخبراء يعتقدون الآن أن عودة شاغل المنصب إلى السلطة، هو أمر واقع.
* علي دربج: أستاذ جامعي