النزاع بين أذربيجان وأرمينيا تاريخيّ بأبعاد استراتيجية.. من يحرّكه وما مدى خطورته؟
يتصاعد النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، فيما لا مؤشرات على أنه سيهدأ، أقله في المدى المنظور، ما يدفع عن السؤال عمن حرك هذه الساحة اليوم؟ ولأي أهداف؟ وما هي طبيعة المشكلة التي تحتاج شرحاً لجمهور كبير قد لا يدرك أهميتها؟
في العنوان العام، هو نزاع تاريخي بين أرمينيا واذربيجان على إقليم "ناغورنو كاراباخ"، ولكن في الأبعاد الاستراتيجية والجغرافيا السياسية والاقتصادية، هو صراع يحضر فيه لاعبون كثر، من روسيا إلى تركيا إلى أميركا إلى إيران، وربما "إسرائيل".
بالإضافة إلى كل ذلك، فإن الصراع اليوم بين أذربيجان وأرمينيا يثبت أن الحروب التي حصلت في السنوات الأخيرة، لم تكن طائفية أو مذهبية، وإن كان الصراع الحالي يحمل أبعاداً قومية.
تدخل الطائرات المسيرة الأرمنية يغيّر الوضع
على أرض هذا الإقليم، يتجدّد أحد أقدم النزاعات في العالم، فإقليم "ناغورنو كاراباخ" أو مرتفعات الحديقة السوداء، لطالما كان قنبلة موقوتة تشتعل بين الحين والآخر بين أرمينيا وأذربيجان.
تؤكد أرمينيا أنه جزء من أراضيها لكون أكثرية سكّانه من الأرمن فيما تتمسك آذربيجان باستعادة هذا الإقليم باعتباره سلخ من أراضيها
هذه المرة، أعلنت الجارتان الحرب واندلع بينهما قتال عنيف هو الأشدّ منذ سنوات، والسبب التنازع بين يريفان وباكو في السيطرة على الإقليم الذي أعلن استقلاله عام 1991.
عسكرياً، تجددت المواجهات بهجوم من القوات الأذربيجانية على "ناغورنو كراباخ"، هذا الهجوم في بدايته استطاع أن يحقق بعض التقدم في المناطق الشمالية من الإقليم، وأيضاً كان هناك ضغط من المناطق الشرقية.
اللافت في هذه المعركة، أنه كان هناك استهداف مباشر وفعّال لدبابات الأرمنية بطائرات مسيرة تركية، هذا الموضوع الذي أعطى الأرجحية في بداية المعركة للقوات الأذربيجانية، واستطاعت أن تسيطر على نقاط الارتكاز الدفاعية للإقليم في البداية.
لاحقاً، بعد تطور المعركة، بدأنا نشاهد دبابات للوحدات الأذربيجانية أيضاً تُستهدف بطائرات مسيرة، هذه كانت نقطة فاصلة بعد 10 ساعات تقريباً من بداية المعركة، وبدأت القوات الأرمنية باستعادة المناطق التي تم السيطرة عليها في المناطق الشرقية، والتي هي قريبة من الحدود مع إيران.
وكان هناك محاولة لقطع الطريق الرئيسية بين عاصمة الإقليم وأرمينيا، ولكن تدخل الطائرات المسيرة الأرمنية غيّر الوضع.
سياقات المعركة وارتداداتها على اللاعبين الأساسيين
روسيا من جهتها، ساعدت أرمينيا في بسط سيطرتها على إقليم "ناغورنو كاراباخ"، والسبب الرئيسي لذلك هو أن هذا الإقليم تقريباً يفصل جغرافياً بين المناطق الأذربيجانية الشرقية وتلك الغربية، والتي لها امتداد جغرافي مع تركيا.
صراع قديم لكنه دائماً مرتهن للأحداث الكبرى، يعني إذا عدنا 100 عام للخلف، نتحدث عن تداعيات الحرب العالمية الأولى، انهيار الامبراطورية العثمانية، وولادة الاتحاد السوفياتي، وهذه كانت المناخات التي شكلت الصراع الأول.
الصراع الثاني تشكل في سياق انهيار الاتحاد السوفييتي، وتصريح واضح للناتو آنذاك "أننا نريد التوسع شرقاً وجنوباً"، وتم التوقيع عام 1994 على اتفاقية شراكة من أجل السلام مع حلف "الناتو".
أما اليوم، فهذا النزاع يعدّ تنافساً جيو-سياسياً، يشمل كلاً من تركيا وروسيا وإيران والولايات المتحدة حيث يمثّل واحداً من مسارح صراع النفوذ بين الروس والأميركيين جنوب القوقاز، فما هي المناخات وسياقات هذه المعركة وارتداداتها على جميع اللاعبين الأساسيين؟
أولاً، المعركة الآن قد تقدم الفائدة بشكل أو بآخر للولايات المتحدة الأميركية، بإثارة القلائل والإشكاليات على الإطار والمجال الحيوي الروسي.
الدولة الوحيدة المستفيدة من إثارة النزاع في "ناغورنو كاراباخ" والمهتمّة بالسعي لتحويلها إلى حرب واسعة النطاق يمكن أن تنجرّ إليها روسيا وتركيا، هي الولايات المتحدة ومن يتلطّى في حلفها، فإشعال الحرب قرب الحدود الروسية والإيرانية، يصبّ في مصلحة واشنطن انطلاقاً من أهمية هذه المنطقة اقتصادياً وجيو-سياسياً بالنسبة إلى روسيا وإيران وتركيا.
ثانياً، تركيا تتحرك في إطار دول بحر قزوين، وقد تشكل أي اضطرابات لاحقة، جلسات تفاوضية يستخدم التركي ورقة الخلاف بين أذربيجان وأرمينيا، في معنى آخر، أن يكون التفاوض على عدد كبير من الملفات على مستوى العالم، وتصبح هذه ورقة إضافة جديدة بيد التركي بما في ذلك للتفاوض على المسألة السورية.
كما أن تركيا تطمح أن تكون محطة لتوزيع الطاقة ما بين الشرق الأوسط وأوروبا من خلال عدد كبير من خطوط الغاز، فهي تحاول عقد هذه الاتفاقيات سواء مع أذربيجان أو مع روسيا، وعلاقة تركيا مع أذربيجان في هذا السياق علاقة استراتيجية عميقة.
أما السياسة الخارجية للدولة التركية بما يتعلق بآسيا الوسطى ودول بحر قزوين بشكل عام، هي ذات سمة توسيعة بشكل أو بآخر.
ثالثاً، لأذربيجان علاقات قوية جداً مع "إسرائيل" والأخيرة الآن تخوض مشواراً طويلاً في إطار الأسرلة مع دول الخليج، ووجودها في هذه المنطقة في أذربيجان مهم لـ"إسرائيل" على الصعيد الجيوسياسي.
دور كبير جداً تلعبة "إسرائيل" في هذا النزاع، وذلك للوجود العسكري والاستخباراتي في أذربيجان، فالعلاقات الإسرائيلية الإذربيجانية بدأت منذ 1992 بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتطورت خلال السنوات الماضية.
في تسعينيات القرن الماضي، عندما حصلت الحرب الكبرى بين أرمينيا وأذربيجان، انتصرت أرمينيا علماً أن سكان الأخيرة لا يوازى حتى الثلث من عدد سكان أذربيجان. إذاً أذربيجان كانت في حالة عسكرية سيئة جداً، ووجدت في "إسرائيل" ضالتها والقوة العسكرية التي يمكن أن تساعدها في هذه المنطقة، و"إسرائيل" أيضاً من جهتها وجدت لها مصالح مع أذربيجان، وهناك خبراء وقواعد إسرائيلية في أذربيجان تقول بنشاط دائم ومستمر لمراقبة إيران من خلف الحدود الأذربة.
إيران من جهتها، تتخوف من علاقة باكو الاستثنائية مع تل أبيب التي تتخذ الحدود الآذربيجانية منطقة نفوذ استخبارية لها ضدّ طهران.
الغاز بالنسبة لأوروبا خط أحمر
الموقف الأوروبي بكل أطرافه، وخصوصاً الطرف الفرنسي، يطالب حتى الآن بوقف إطلاق النار، ويطالب بوقف الأعمال العسكرية والذهاب للمفاوضات للتوصل إلى حلول دائمة لقضية ناغورنو كراباخ، ولكن يمكن للأوروبين، وتحديداً الفرنسيين، أن يأخذوا موقفاً مغايراً وأكثر قرباً من أرمينيا في حال تطورت الأمور.
الأوروبيون يعتبرون أن اذربيجان هي الذراع التركية في القوقاز، وهناك موقف أوروبي تاريخي يقف إلى جانب الأرمن منذ الحرب العالمية الأولى والمجازر التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن، وخصوصاً عندما أصرت أوروبا وتحديداً فرنسا على مطالبة تركيا باعتبار ما حصل قبل 100 عام مجازر، حيث ترفض تركيا هذا الأمر.
اليوم هناك ظروف سياسية وميدانية جديدة، لها علاقة بما يجري في الشرق الأوسط، ففي حال تطورت الأمور، بالنسبة للفرنسيين ومجمل الأوروبيين سيكون الأمر مصيرياً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أذربيجان ستكون مصدراً للطاقة والغاز لأوروبا، وهناك خط النفط الممتد من أذربيجان عبر تركيا إلى اليونان، وهذه المسألة يمكن أن تعتبرها أوروباً خطاً أحمر بالنسبة لها.