كيف تؤثر التطورات العسكرية في ليبيا على صراع الغاز في شرق المتوسط؟
دراسة مسار ما وصل إليه وما يمكن أن يصل إليه الصراع العسكري في ليبيا، لا يمكن فصلها عن مسار سياسي واقتصادي يتعلق بغاز شرق المتوسط، يبدأ من تأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط"، ولا ينتهي بتأمين قوات حكومة "الوفاق" لطرابلس وضواحيها والتقدم نحو مدينة سرت الساحلية.
تطورات عديدة حملتها الأشهر الأولى من العام 2020 في مسألة غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، كانت ليبيا وما تشهده من صراعٍ فيها وعليها، الواجهة التي ظهر من خلالها تشعّب المصالح والتحالفات والصراعات في تلك المنطقة، بين تركيا من جهة، وأطراف "منتدى غاز شرق المتوسط" من جهةٍ أخرى.
دراسة مسار ما وصل ويمكن أن يصل إليه الصراع العسكري في ليبيا، لا يمكن فصلها عن مسار سياسي واقتصادي يتعلق بغاز شرق المتوسط، بدأ في تشرين الأول/أكتوبر عام 2018، حين عُقدت على جزيرة كريت اليونانية قمة ثلاثية جمعت رؤساء قبرص واليونان ومصر، تم الاتفاق فيها على إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط"، على أن يكون مقره القاهرة، ويضم الدول المنتجة والمستوردة للغاز ودول العبور بشرق المتوسط، بـ"هدف تنسيق السياسات الخاصة باستغلال الغاز الطبيعي بما يحقق المصالح المشتركة لدول المنطقة، ويسرّع من عملية الاستفادة من الاحتياطيات الحالية والمستقبلية من الغاز بتلك الدول".
تبع ذلك في كانون الثاني/يناير عام 2019، اجتماع 7 وزراء طاقة من منطقة شرق المتوسط في العاصمة المصرية القاهرة ممثلين عن: مصر واليونان وقبرص و"إسرائيل" وإيطاليا وفلسطين والأردن. وتم التوصل إلى اتفاقية لتأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط"، فيما استثنى "المنتدى" دول تركيا ولبنان وسوريا وشمال قبرص التركية من عضويته عند إنشائه، رغم أنها دول تطل على حوض شرق البحر المتوسط.
تركيا تقطع الطريق على "إيست ميد"
وجدت تركيا في إقصائها عن "المنتدى"، وإعطاء دور محوري لـ"إسرائيل" ومصر واليونان ولأطرافٍ أخرى لا تطل على المتوسط، محاولةً لـ"حرمانها وحرمان حليفتها قبرص الشمالية من ثروات الغاز الضخمة المكتشفة في تلك المنطقة". الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وضع المسألة في سياق "المواجهة المباشرة" بقوله إن بلاده "لن تسمح بخطط استخراج الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط إذا استُبعدت تركيا وحلفاؤها في جمهورية شمال قبرص"، التي لا تعترف بها إلا أنقرة.
وفي الوقت الذي كانت فيه قبرص واليونان و"إسرائيل" تتفقان على إنشاء خطّ أنابيب شرق المتوسّط المعروف باسم "إيست ميد" لمدّ أوروبّا بالغاز الطبيعيّ من دون أي مشاورات مع تركيا، توجهت الأخيرة إلى ليبيا حيث وجدت في حليفتها حكومة "الوفاق" ومقرها العاصمة طرابلس، الفرصة السانحة لقطع الطريق على أي إجراءٍ في مسألة غاز المتوسط، لا يأخذ نفوذها وطموحها في مجال الطاقة المكتشفة حديثاً بعين الاعتبار. وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وقبل أيام قليلة من توقيع اتفاق "إيست ميد" وقعت حكومة "الوفاق" التي يرأسها فايز السراج والمعترف بها دولياً، اتفاقيتان مع تركيا، إحداهما حول التعاون الأمني والعسكري، وأخرى في المجال البحري، خلال لقاء جمع السراج بالرئيس التركي في إسطنبول.
الاتفاق نصّ على تحديد مناطق النفوذ البحرية لليبيا وتركيا، إضافة إلى التعاون العسكري والأمني بينهما.
السفير التركي تشاغطاي أرجياس، المسؤول عن شؤون العلاقات السياسية الثنائية، والمدير العام للحدود البحرية والجوية في الخارجية التركية، نشر تغريدةً على تويتر بعد أيام من توقيع الاتفاقية، تظهر خريطة تبيّن الحدود البحرية والجرف القاري لبلاده، استناداً إلى الاتفاق المبرم مع حكومة طرابلس.
Türkiye'nin Doğu Akdeniz'deki KS/MEB sınırları:
— Çağatay Erciyes 🇹🇷 (@CErciyes) December 2, 2019
(A-B)2011 TC-KKTC Anlaşması
(C-D-E) 🇪🇬-🇹🇷 ana karalar arası ortay hat
(E-F)2019 🇹🇷-🇱🇾Anlaşması
Turkey's CS/EEZ Outer Boundaries in the EastMed:
(A-B)2011 TR-TRNC Agr.
(C-D-E) Median line between 🇪🇬&🇹🇷 mainlands
(E-F)🇹🇷-🇱🇾Agreement pic.twitter.com/tSTXjucLU7
ومن خلال المنطقة البحرية المحددة في الاتفاق التركي-الليبي التي نشرها أرجياس فإن الاتفاق يقطع الطريق أمام مشروع "إيست ميد" في حال عدم موافقة تركيا عليه، لأن المشوع سيمر ضمن ما تراه الأخيرة "منطقة اقتصادية تابعةً لها"، لا سيما وأن تلك المنطقة تقف حاجزاً أمام مسار أنابيب "إيست ميد" وفق الاتفاق الثلاثي بين "إسرائيل" وقبرص واليونان، إذ أن المسار المتفق عليه يبدأ من المياه الاقتصادية قبالة قبرص وفلسطين المحتلة، ثم يتجه إلى اليونان وإيطاليا ودول أخرى في جنوب شرق أوروبا، عبر خطوط أنابيب الغاز اليونانية "بوزيدون" و "أي جي بي"، على أن تمر الأنابيب من جزيرة كريت قبل ذلك، وفي هذه النقطة تحديداً تقطع الاتفاقية التركية-الليبية الطريق على خط الأنابيب.
اليونان رأت أن الاتفاق "منافٍ للعقل"، لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية الفاصلة بين الساحلين التركي والليبي، وقامت بطرد السفير الليبي من أراضيها بعد توقيع الاتفاق، فيما ذهب الرئيس التركي أبعد من ذلك، بقوله إن بلاده استناداً إلى اتفاقها مع حكومة "الوفاق" لن تكتفي بالبحث عن الثروات النفطية والغازية في البحر المتوسط، و"إنما ستقوم بالحفر شرقي جزيرة كريت اليونانية"، التي تعتبر إحدى أهم النقاط التي يجب أن تمر بها أنابيب "إيست ميد".
التطورات العسكرية في ليبيا لصالح تركيا
التصميم التركي على دعم حكومة "الوفاق" عسكرياً وأمنياً، وبشكلٍ علني ومباشر، له دلالات جيوسياسة لا ترتبط فقط بالنفوذ التركي في الشمال الأفريقي عامةً وليبيا خاصة، بل أيضاً بالرغبة التركية في فرضِ وجودها وقرارها على مصادر الطاقة في المتوسط.
وعلى هذا النحو، فإن الاتفاق بين أنقرة وحكومة العاصمة الليبية يعتبر الأرضية التي استندت عليها تركيا لمحاولة فرض هذا القرار، وبات نفوذ تركيا في مسألة غاز شرق المتوسط يتعلق بقدرة حليفتها حكومة "الوفاق" التي أبرمت معها الاتفاق، على الصمود ومواجهة خصمها المشير خليفة حفتر المدعوم من أطراف "منتدى شرق المتوسط" وعلى رأسهم مصر واليونان. ويذكر، أنّ بدء حملة عسكرية للسيطرة على العاصمة طرابلس بعد أشهرٍ قليلة من تأسيس منتدى "غاز شق المتوسط".
لذا، فإن تركيا التي وجدت نفسها معزولة في شرق المتوسط، سعت خلال الأشهر الأولى من العام الحالي، إلى تقديم كافة الدعم لحكومة "الوفاق" الليبية ضد قوات حفتر، بدءاً من استقدام آلاف المسلحين من سوريا، وصولاً إلى الامدادات العسكرية واللوجستية، وليس انتهاءً بالطائرات المسيرة التركية التي لعبت دوراً بارزاً في ساحات المواجهة الليبية.
وبعد أن كانت قوات المشير خليفة حفتر تحرز تقدماً تلو الآخر باتجاه العاصمة طرابلس، فإن الأمور عادت وانقلبت في شهر أيار/مايو الماضي وبداية حزيران/يونيو الحالي نتيجةً للدعم التركي المباشر لصالح قوات حكومة "الوفاق"، التي تمكنت من استعادة السيطرة على كافة المحاور التي تقدمت باتجاهها قوات حفتر في العاصمة طرابلس وضواحيها، وبدأت بالتقدم نحو مدينة سرت الساحلية.
وتكمن أهمية سرت، بأنها تقع في منتصف الساحل الليبي بين طرابلس معقل حكومة "الوفاق"، وبنغازي معقل قوات حفتر.
مستقبل الصراع في المتوسط على ضوء التطورات في ليبيا
سقوط حكومة "الوفاق" أمام تقدم قوات حفتر، كان يعني حتماً سقوط الاتفاقية الموقعة بينها وبين أنقرة، لا سيما وأن حفتر توعد بالتصدي لما أسماه بـ"أطماع الأتراك" في البلاد، من خلال مواجهة هذا الاتفاقية تحديداً. لكن، وعلى ضوء التطورات العسكرية الأخيرة، فإن تركيا باتت في وضعٍ أفضل ليس فقط في ليبيا بل أيضاً في صراعها مع "منتدى غاز شرق المتوسط"، لما تمثله حكومة "الوفاق" من أهمية في هذا السياق.
وفيما كانت المواجهة العسكرية متعذرة بين الأطراف المتصارعة في شرق المتوسط، لا سيما بين اليونان وتركيا المنتميتان إلى حلف "الناتو"، فإن الساحة الليبية كانت مسرحاً لمواجهةٍ غير مباشرة، دعمت خلالها القاهرة ومعها أثينا حفتر الذي زارها أكثر من مرة كان أبرزها زيارته التي سبقت مؤتمر برلين، في حين دعمت أنقرة حكومة "الوفاق". لتصبح بذلك ليبيا ونتائج المعركة فيها، أبرز المؤثرين على تطورات الصراع في شرق المتوسط، ومآلاته من النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية. فجزء أساسي من أهداف إسقاط حكومة "الوفاق" في طرابلس، كان إسقاط الاتفاقية الأمنية والبحرية التي أبرمتها الأخيرة مع أنقرة.
تمكّن قوات حكومة "الوفاق" من صدّ زحف قوات حفتر على طرابلس والتحرك بعدها شرقاً باتجاه سرت، يسلّم تركيا زمام المبادرة، ويقدّم لها أوراقاً بالغة الأهمية في نزاعها مع منتدى غاز شرق المتوسط" ومع الأطراف لمعنية بخط "إيسد ميد". وأولى الرسائل التي بعث بها إردوغان لخصومه في شرق المتوسط بعد التطورات العسكرية الليبية، هو إعلانه خلال لقائه السراج في أنقرة في 4 حزيران/يونيو الجاري، "بدء التنقيب عن مصادر الطاقة قبالة السواحل الليبية".
تبدو المواجهة العسكرية المباشرة بين الأطراف المتنازعة في شرق المتوسط، صعبة وغير متوفرة العوامل أيضاً بعد التطورات العسكرية في ليبيا كما كانت قبلها، رغم إعلان اليونان أنها "مستعدة لكافة السناريوهات" من ضمنها العسكرية، وأنها تراقب "خطط تركيا لاستخراج الطاقة" قرب جزرها في المتوسط لكنها تبقى تهديدات خجولة غير مكتملة العناصر الإقليمية والدولية الداعمة، في حين أن تركيا التي تناور على "حافة الهاوية" تسعى ولا تزال إلى تحسين شروطها في أي مفاوضات قادمة بما يتعلق بغاز شرق المتوسط، من دون الإنزلاق إلى أي صدامٍ عسكري ممكن أن تتوسع دائرته لتطال المنطقة برمتها.
خيارات محدودة أمام "إيست ميد"!
وبانتظار تلك المفاوضات، فإن جولات جديدة من القتال غير مستبعدة في ليبيا بين اللاعبين غير المباشرين، لكنها ووفق المعطيات العسكرية الحالية ستزيد من خسائر أطراف "المنتدى" وخط "إيست ميد"، هذا ما يمكن لمسه من المبادرة المصرية السريعة في الأيام الماضية خلال زيارة حفتر للقاهرة بالتوازي مع زيارة السراج لأنقرة، والتي دعت إلى وقف إطلاق النار في ليبيا والعودة إلى المفاوضات.
إذا ما استمر الميدان الليبي ضمن مساره الحالي لصالح حكومة "الوفاق" فإنه لن يكون أمام أطراف "المنتدى" لا سيما اليونان ومصر وقبرص و"إسرائيل"، إلا التعامل مع الرغبات التركية في شرق المتوسط كأمرٍ واقع لا يمكن تجاوزه، والذهاب نحو مفاوضات ستضع خلالها تركيا اتفاقيتها المبرمة مع ليبيا كأول بندٍ على الطاولة.
تلك الاتفاقية مدعومةً بـ"صمود" طرفها الثاني في طرابلس، وتراجع خصمه حفتر حليف "المنتدى"، ستعزز من موقف أنقرة وستخولها التفاوض على مطلبها الأساسي من أطراف "المنتدى"و"إيسد ميد"، إذ أن تركيا ستتوجه لهم بصراحة: "تريدون إرسال غاز من شرق المتوسط إلى أوروبا؟.. أريد حصتي من الغاز ومن مسار أنابيبه وإلا سأواصل قطع الطريق!". وهنا، ليس مهماً من يعترف بالاتفاقية التركية-الليبية أو من يعتبرها "غير قانونية"، المهم هو الميدان ونتائجه وتموضع الدول الداعمة لحفتر فيه في مواجهة الدعم التركي لـ"الوفاق".