واشنطن تدير ظهرها لبولسونارو.. قراءة في الأسباب أميركياً وبرازيلياً
بعد أعوام من الدعم.. أميركا تتخلى عن بولسونارو، وتعلن "تأييدها الديمقراطية" في البرازيل. ماذا في الأسباب؟
"الوضع الراهن سيؤدي إلى إحدى ثلاث نتائج: إمّا السَّجن، وإمّا النصر، وإمّا الموت". هي عبارة قالها الرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، قبيل إعلان نتائج الانتخابات النهائية في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2022، راسماً بذلك طريقاً بدأت تتضح معالمه من خلال محاولة الانقلاب الفاشلة، والتي تعرضت لها البرازيل قبيل يومين.
على عكس ما تطلّع إليه بولسونارو، جاءت المحاولة الانقلابية لتعزز موقف الرئيس العمالي، لولا دا سيلفا، بعد أن حاز الأخير تضامناً واسعاً معه. لكنّ اللافت في هذا السياق كان موقف الإدارة الأميركية "الداعم للديمقراطية" في البرازيل، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات بشأن الأسباب الكامنة وراء تخلي واشنطن عن بولسونارو، بعد أعوام من الدعم؟ ولاسيما بعد تورطها في ملفات الفساد المزعومة المرتبطة بلولا دا سيلفا.
الدور الأميركي في سَجن دا سيلفا
تعيد الأحداث الأخيرة في البرازيل الذاكرة إلى الدور الأميركي في تغذية الفوضى في الدولة اللاتينية، في إبّان فترة حكم الرئيس لولا دا سيلفا، وصولاً إلى ضلوعها المباشر في سجنه في نيسان/أبريل 2018، تمهيداً لصعود الرئيس اليميني المتطرف بولسونارو، وهو ما كشفه عدد من أعضاء الكونغرس العام الماضي بعد مطالبتهم وزارة العدل بتوفير وثائق بشأن "دورها السري" في إطاحة دا سيلفا، بموجب اتهامات فساد أُسقطت لاحقاً، واصفين ما يتعرض له الرئيس البرازيلي بالظالم.
الوثائق والتسجيلات المُسرَّبة، والتي نشرها موقع "ذا إنترسبت" الأميركي، لاحقاً، كشفت أنّ وزير العدل البرازيلي السابق، القاضي سيرجيو مورو، وصديقه المدّعي العام دلتان دالاغنول، فتحا خطّاً ساخناً مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI)، الذي كان يشرف على التحقيق وإدارة الملفّ الاتّهامي، الأمر الذي وصفته صحيفة "لوموند" الفرنسية بأنّه "أكبر فضيحة قضائية في التاريخ".
وبحسب التقرير الصادر قبل عامين، تمّت دعوة مورو إلى المشاركة في اجتماع تُموّله وزارة الخارجية الأميركية عام 2007، بمشاركة عدد من مُمثّلي مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووزارتَي العدل والخارجية، بحيث اتُّفق على إنشاء لجنة قضائية متخصّصة برئاسة كارين مورينو تاكسمان، المُتخصّصة بمكافحة غسل الأموال والإرهاب، تعمل داخل السفارة الأميركية، لمتابعة الملفّات الداخلية بالتعاون مع عدد من القضاة البرازيليين. وهو ما يكشف أنّ المحاولات الأميركية لإطاحة دا سليفا لا ترتبط بشخص الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، كما يحاول البعض الترويج، بل هي ممتدة إلى ما قبل ذلك بأعوام، وتهدف في المقام الأول إلى منع اليسار من تسلّم الحكم.
اقرأ أيضاً: اقتحام برازيليا الفاشي: تحذير للطبقة العاملة
وبعد إدانة لولا، وإبعاده عن السباق الرئاسي عام 2018، حصد مورو ثَمن جهده، بتولّيه وزارة العدل. ومن خلاله شرَع الأميركيون في فتح الملفّات القضائية الخاصّة بشركة النفط البرازيلية الرسمية، "بتروبراس"، من أجل إضعافها، بُغية الشروع في تخصيصها، بعد ضمانات من الرئيس الجديد، جايير بولسنارو، بإعطاء الشركات الأميركية الأولوية في هذا الاستثمار.
دعم أميركي لامحدود لبولسونارو اليميني المتطرف
انطلاقاً مما ذكرناه سابقاً، يتّضح كيف مهدّت الإدارة الأميركية الطريق لليميني المتطرف بولسونارو. فانتزاع الحكم من اليساريين الرافضين للهيمنة الأميركية، يُعَدّ أحد أهم الأهداف الأميركية في القارة اللاتينية التي تنظر إليها واشنطن كـ"حديقة خلفية لها"، وخصوصاً في ظل الهزيمة المدوّية لواشنطن هناك، إذ إنّ هناك 7 دول باتت تُحكَم الآن بزَعامةٍ يساريّة بعد فوزها في انتخابات ديمقراطيّة نزيهة جرت في الأعوام الخمسة الأخيرة، مثل الأرجنتين والمكسيك وبوليفيا وتشيلي وبيرو، وأخيراً كولومبيا، التي باتت لأوّل مرّة في تاريخها يتَزعّمها رئيس يساريّ، بالإضافة إلى الدّول اليساريّة القديمة، مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا .
بعد تأمين الفوز لبولسونارو، تحوّلت السياسة البرازيلية تحولاً جذرياً من رفض الهيمنة إلى الانصياع التام للمواقف الأميركية، والتماهي معها في أكثر من محفل، وخصوصاً فيما يتعلق بالدعم الأميركي لتغيير الحكم في فنزويلا. وهو ما لم ينفِه بولسونارو عند لقائه ترامب في آذار/مارس 2019، عبر قوله إنّ "البرازيل، بعد عقود من مناهضة الولايات المتحدة الأميركية، هي اليوم تحت حكم رئيس مقرّب جداً إلى الولايات المتحدة الأميركية".
وعلى رغم فشل بولسونارو في تحقيق الأهداف الأميركية، فإن واشنطن لجأت إلى المحاولة الأخيرة، قبل أن تعلن هزيمتها، عبر زعمها "تأييدها للديمقراطية" في البرازيل. فمحاولة الانقلاب التي شهدتها البرازيل قبيل يومين، تقول صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية إنّ للولايات المتحدة الأميركية يداً فيها، داعية الاخيرة، قبل أن تتحدث عن الديمقراطية، إلى مراجعة سلوكها.
لماذا تخلّت أميركا عن بولسونارو؟
سجّلت تجربة الرئيس العمالي، دا سيلفا، في الحكم، أكبر التحدّيات للسياسية الأميركية واستثمارات شركاتها في البرازيل ومحيطها. وعلى رغم المحاولات الأميركية المستمرة لإطاحة دا سيلفا والحملات المستمرة لتشويه سمعته، فإن الرئيس البرازيلي ظلّ يحظى بقاعدة شعبية كبيرة، نتيجة ما حققه من إنجازات.
دخلت البرازيل، في عهد دا سيلفا، مجموعة البريكس للقوى الاقتصادية الكبرى، بفضل النمو الذي حققته، بالإضافة إلى أنها تمكنت من تسديد جميع ديونها لدى صندوق النقد الدولي، ناهيك بالقفزة التي شهدها مستوى الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية في فترة حكمه، وإنقاذ 30 مليوناً من أنياب الفقر|، - انخفضت نسبة الفقر من 25% عام 2003 في بداية حكم حزب العمال إلى 9% بحلول عام 2012 - وحققت شعبيته عند نهاية فترة حكمه 80%.
في مقابل ذلك، فشل بولسونارو في استمالة أغلبية الشعب البرازيلي، بسبب سياسته المتعالية على طبقة الفقراء، وعدم مبالاته بالقضايا البيئية وضرورة المحافظة على ثروة الغابات الأمازونية، ناهيك بموقفه تجاه كورونا، وانكاره وجود جائحة من الأساس، واستهانته بكل إجراءات الوقاية منها، وهو ما تسبب بتصدّر بلاده قائمة البلدان الأكثر تضرراً من الجائحة، ولاسيّما من حيث عدد الوفيات، فضلاً عمّا شهدته البلاد، خلال فترة حكمه، من تدهور في الوضع الاقتصادي وارتفاع في الأسعار ومعدلات البطالة.
بناءً عليه، تراجعت شعبية الرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، إلى أدنى مستوى لها، إذ بلغت نسبة الآراء المؤيدة له 22% فقط، وفقاً لاستطلاع لمعهد داتافولها قبل عامين.
اقرأ أيضاً: شعبية الرئيس البرازيلي تتراجع.. بولسونارو يفشل في مواجهة كورونا
وعلى رغم محاولات بولسونارو تنفيذ الأجندة الأميركية ومواءمة سياسته مع "إسرائيل"، وإهماله جزءاً كبيراً من الدول البارزة لمصلحة علاقاته بالولايات المتحدة (روسيا والصين على رأس هذه الدول)، فإنّ فشله في تحقيق انتصار في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على رغم الدعم الاميركي، جعل الأخيرة تعيد النظر في حساباتها معه، بعد أن وجدت فيه شخصاً غير مؤهل لتحقيق أجندتها السياسية وأهدافها في البلاد.
ومثلما نُبذ من واشنطن مؤخراً، نُبذ من أوروبا أيضاً في إثر الأزمات التي افتعلها مع دول القارة العجوز. وأدى هذا إلى درجة من العزلة الدبلوماسية للبرازيل لم يسبق لها مثيل منذ التحول الديمقراطي في البلاد في أواخر عام 1980.
بناءً عليه، يظهر جيداً كيف أن فشل بولسونارو في تنفيذ السياسات الأميركية في البرازيل، دفع الأخيرة إلى التخلي عنه، وإلى إعلانها "دعم الديمقراطية" في البرازيل، الأمر الذي يعني إقراراً بالهزيمة المدوّية التي مُنيت بها هناك.
أميركا وإدارة الانقلابات
المحاولات الأميركية بشأن استبدال الأنظمة عبر الانقلابات ليست جديدة. على سبيل المثال، لا الحصر، ما يجري في فنزويلا منذ أعوام، إذ تسعى واشنطن لإطاحة النظام الاشتراكي، الذي أسّسه الرئيسُ الراحل هوغو تشافيز ، ورئيسِ فنزويلّا نيكولاس مادورو، المعارضِ لسياساتها الساعية للهيمنة على أميركا اللاتينيّة. فمع فشل كل الضغوط في إسقاط النظام البوليفاريّ، لجأت الولاياتُ المتّحدة إلى آخر ورقةٍ لها، وهي دعمُ رئيس البرلمان الفنزويليّ خوان غوايدو عبر محاولة انقلاب قادها عام 2019.
ومؤخراً، برز الدور الأميركي أيضاً في الانقلاب على الرئيس البيروفي، بيدرو كاستيو. فمنذ انتخابه في تموز/يوليو 2021، حاولت منافسته في الانتخابات الرئاسية، كيكو فوجيموري، ورفاقها، منعَ وصوله إلى الرئاسة، وعملت مع رجال تربطهم علاقات وثيقة بحكومة الولايات المتحدة ووكالاتها الاستخبارية، وفق ما كشف موقع "eurasia review".
والمتتبّع لكيفية التعاطي الأميركي بشأن إدارة الملفات الدولية، يلاحظ جيداً ازدواجية التعاطي المتّبعة، وفقاً لما يتلاءم مع مصلحتها، فقد تلجأ إلى دعم انقلاب هنا، وترفض انقلاباً هناك.
بناءً عليه، يفسر هذا الأمر سياستها في البرازيل، فوجود رئيس مناهض لها ولـ"إسرائيل"، وقريب من الصين وروسيا وداعم لفلسطين، يشكًل بالطبع خطراً على سياستها في أميركا اللاتينية.
اقرأ أيضاً: بعد فوز لولا برئاسة البرازيل.. ما الذي تخسره "إسرائيل" برحيل بولسونارو؟
وفي هذا السياق، يقول المفكر والفيلسوف الأميركي، نعوم تشومسكي، "إنّ سياسة الولايات المتحدة مع أميركا اللاتينية، تتباين عن مثيلتها مع دول شرق آسيا، بحيث ترى أميركا جيرانها اللاتينيين سوقاً مفتوحة لمنتوجاتها، وهو ما يجعلها ترفض تولي اليسار المناهض لسياساتها. لذلك، عملت على تنفيذ عدد من الانقلابات، في صور متعددة، لمنع اليسار من الوجود في الحكم، وهو ما حدث في البرازيل وفي الانقلاب الفاشل في فنزويلا".
بناءً عليه، من حق أميركا أن تقلق من عودة اليسار إلى أميركا اللاتينية، في وقت تخوض حرباً ضدّ روسيا والصين، وتعاني أزمات إقتصادية متعددة، وتوشك أن تخسر زعامتها للعالم. ولعل الوصف الذي أطلقته صحيفة "غلوبال تايمز" مؤخراً، عبر قولها إن "أميركا زعيم مافيا في أعوامه الأخيرة، يكاد لا يقوى على المشي"، خير دليل على ما تعيشه الولايات المتحدة من أزمات، تكون مضطرة بسببها إلى التخلي عمّن يُلحق بها مزيداً من الفشل والتراجع. وبولسونارو نموذج ضمن هذا المسار.