العودة إلى الفحم.. حلول أوروبية مؤقتة ومدمرة للبيئة
تسعى أوروبا إلى إيجاد إمدادات وقود بديلة كالفحم؛ للتغلب على نقص تدفقات الغاز الروسي، ما يهدد بتفاقم الأزمة البيئية.
توقّعت وسائل إعلام غربية أياماً أسوأ لأوروبا، وعودة القارة العجوز إلى العصور القديمة، حيث كان الاعتماد على الفحم كمصدرٍ أساسي للطاقة، وذلك بعد تعرّضها لضائقة شديدة من جرّاء تضاؤل إمدادات الغاز من روسيا.
وعقب الحرب الروسية الأوكرانية، والعقوبات الغربية على صادرات الطاقة الروسية، واشتراط موسكو دفع ثمن غازها بعملتها (الروبل)، تناقصت واردات الغاز الروسية إلى أوروبا وقطعت عن بعض الدول، ما سبب أزمة طاقة بدأت تداعياتها تظهر بشكل جلي في كل دول القارة.
إثر ذلك، وفي محاولة لتلافي النتائج الكارثية، قرر عدد من الدول الأوروبية تشغيل محطات الطاقة التي كانت تعمل بالفحم قديماً، ولكن القرار فجّر خلافات داخلية، وسط تساؤلات حول جدوى العودة إلى استخدام الفحم، وإن كان بإمكانه إنقاذ أوروبا من البرد، وسط تساؤلات حول تأثيره في التلوث والتغير المناخي..
أوروبا والعودة إلى "عصر الفحم"
تأمل الدول الأوروبية أن تساعد محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في تخفيف حدّة ارتفاع أسعار الغاز، في وقتٍ تكافح القارة العجوز لكبح التضخم المالي، وزيادة أسعار الطاقة والغذاء.
اللجوء إلى محطات الفحم شمل غالبية الدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا التي أعلنت إجراءات طارئة لتغطية نقص الغاز الروسي، بينها العودة إلى استخدام الفحم، فيما وصفته بأنّه خطوة "مريرة، لكن لا غنى عنها". هذه الخطوة جاءت بعد أنّ أصبح الغاز "سلعةً نادرة"، بحسب تصريحات وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، الذي زار "إسرائيل" ودول الخليج بحثاً عن بدائل للغاز الروسي..
إيطاليا أيضاً قررت إعلان حالة تأهب شديدة بشأن الغاز، ففرضت تقنين الغاز لمستخدمين صناعيين محددين، وزادت الإنتاج في محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم، بينما اتفقت حكومة النمسا مع مجموعة "فيرباند"، المورّد الرئيس للكهرباء في البلاد، على إعادة تشغيل محطة مدينة ميلاخ جنوب البلاد، والتي كانت آخر محطة تعمل بالفحم في البلاد قبل إغلاقها سنة 2020.
أما هولندا، فرفعت سقف الإنتاج في محطات الطاقة التي تعمل بالفحم حفاظاً على الغاز، وستقوم الحكومة بتفعيل مرحلة "الإنذار المبكر" لخطّة من 3 أجزاء لمواجهة أزمة الطاقة.
فرنسا، بدورها، أعلنت إعادة تشغيل محطة كهرباء تعمل بالفحم (أغلقت في آذار/مارس 2021)، وذلك بهدف ضمان توفير إمدادات الطاقة خلال الشتاء.
ما هي العوائق التي تواجه أوروبا بعد العودة لاستخدام الفحم؟
أسهم الاعتماد على الطاقة النظيفة في أوروبا، في السنوات الماضية، في تسريع وتيرة خروج محطّات الكهرباء العاملة بالفحم من الخدمة، بنسبٍ كبيرة.
وتقول وكالة "رويترز" إنّه بعد قرونٍ من الثورة الصناعية لم يعد الفحم قادراً على التنافس مع الوقود، الأقل تلويثاً، في مجال توليد الكهرباء، الأمر الذي دفع الحكومات والشركات إلى إغلاق مناجم الفحم والمصانع التي تستهلكه.
رغم خطط أوروبا للتخلي عن الفحم، لا يزال يُمثل حوالى خُمس إجمالي إنتاج الكهرباء في الاتحاد الأوروبي، كما أنه محرّك اقتصادي مهم، وكان يُوفّر فرص عمل لنحو 230 ألف شخص في المناجم ومحطات الطاقة عبر 31 منطقة و11 دولة في الاتحاد الأوروبي، ولكن، وفق الاتحاد الأوروبي، أدى انخفاض استخدام الفحم إلى إغلاق المناجم وإيقاف تشغيل محطات الطاقة في عددٍ من المناطق في جميع أنحاء أوروبا.
ومع عودة استخدام الفحم في أوروبا، يبرز عائق العقوبات الأوروبية على روسيا، فأوروبا تستورد نصف الوقود الأحفوري الصلب (الفحم) من موسكو أي نحو 54%، بقيمةٍ تبلغ 4 مليارات يورو سنوياً، في حين أنّ الاتحاد الأوروبي حظر استيراد الفحم من روسيا ضمن الجولة الخامسة من العقوبات، وسيدخل هذا الحظر حيّز التنفيذ في بداية آب/أغسطس القادم. وصدّرت روسيا 238 مليون طن من الفحم إلى أوروبا في العام 2021، وفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأميركية.
ولكن، بحسب الكثير من الخبراء، فإن التحرّكات الأوروبية هذه لن تنقذ القارة العجوز من الوقوع في أزمة إمدادات فحم، تضاف إلى أزمة إمدادات الغاز، وهي التي خفَّضت إنتاجها من 277 مليون طن سنة 1990 إلى 57.2 مليون طن سنة 2021. وتعتمد في سدّ فارق الإنتاج هذا على استيراد الفحم الروسي.
ووفق مكتب "الإحصاءات التابع للاتحاد الأوروبي"، استحوذت بولندا على 96% من إنتاج الفحم الأوروبي. بالمقابل، عودة الأوروبيين إلى الاعتماد على بولندا في إمدادات الفحم، قد تمنح البلاد التي يديرها حزب "PiS" اليميني المتطرف حجماً سياسياً أكبر داخل المنظومة الأوروبية، وتزيد وتيرة الصدام بينها وبين باقي دول الاتحاد.
لا بديل متوفراً للفحم الروسي
يقول رئيس فريق أبحاث سوق الطاقة في "ريستاد إنرجي"، كارلوس توريس دياز، إنّه "لا يوجد بديل سهل للفحم الروسي في أوروبا".
وأورد تقرير شركة أبحاث الطاقة الأميركية "ريستاد إنرجي" أنّ هناك صعوبة في العثور على مصادر بديلة لإمدادات الفحم بسهولة في السوق، وهذا يعني أنّ المستهلكين الأوروبيين سيدفعون قيمة مالية أعلى لجذب مصادر مرنة للإمداد إلى موانئها.
وكشف التقرير، أن الموردين في سوق الفحم الحراري المنقول بحراً وصلوا إلى الحد الأقصى بالفعل، من حيث حجم الصادرات، لذلك هناك نقص حقيقي في الفحم المتاح لسد الفجوة الروسية.
من ناحيته، يرى نائب الرئيس التنفيذي لمجموعة "أنجيليكوسيس" للشحن، سفينونغ ستولهي، أنّ نمو تجارة الفحم سيدعم سوق الشحن، خصوصاً أن الفحم يُشْحَن لمسافات طويلة، وستزداد أجرة نقل شحنات الفحم.
يُضاف إلى العوائق أعلاه، ارتفاع أسعار الفحم في ظل التضخم الاقتصادي الذي بدأ ينهش العائلة الأوروبية، وبحسب شركات الطاقة العالمية فإنّ أسعار الفحم وصلت إلى مستوى 462 دولاراً للطن في 10 آذار/ مارس الماضي، مقارنةً مع 186 دولاراً للطن في 23 شباط/فبراير، أي قبل بداية العملية العسكرية الروسية، وتتوقع شركات الطاقة ارتفاع أسعار الفحم إلى أعلى من 500 دولار للطن بحلول نهاية العام الجاري.
هل تتخلى أوروبا عن سياساتها البيئية؟
يُعدّ الفحم مصدراً أساسياً للتلوث المحلي وتغير المناخ، إذ يساهم بنسبة 44% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم. وحين يُحرق الفحم لتوليد الحرارة أو الكهرباء، تعادل كثافته 2.2 كثافة الغاز الطبيعي، أي أنّ حرق الفحم يولّد ثاني أكسيد الكربون بمقدار الضعفين أكثر من حرق الغاز الطبيعي، لتوليد الكمية نفسها من الطاقة.
وعند تشغيل محطات الطاقة الحرارية التي تعمل بالفحم، فإنّ ثاني أكسيد الكبريت، وثاني أكسيد النيتروجين، والزئبق وجسيمات دقيقة، تنطلق كلها في الهواء وتستقر في الأنهار والجداول والبحيرات. وهذه الانبعاثات لا تتسبب في تدهور البيئة وحسب، بل إن هناك أدلة مستقرة منذ وقت طويل تؤكد الخطر الذي تشكله على صحة الإنسان؛ إذ قدرت التقارير الطبية الصادرة عن الحكومة البريطانية أنّ "الضباب الدخاني العظيم" في لندن، الناجم عن حرق الفحم وعادم الديزل، كان السبب المباشر بوفاة 4 آلاف نسمة في عام 1952.
اليوم، تتجاهل العديد من الدول الأوروبية التعهدات المناخية والشعارات الضخمة التي أطلقتها قبل سنوات، والتي حدّت في إثرها من استخدام الفحم، في الوقت الذي تحذّر الهيئات الدولية من أن العالم لا يفعل ما يكفي لمواجهة التغيرات المناخية وآثارها المدمرة.
وتُشير المديرة الإدارية في مؤسسة "أوروبا ما بعد الفحم" المعنية بالتخلّص من الفحم كوسيلة لتوليد الطاقة، ماهي سيديريدو، إلى أنّ "سياسات الطاقة والبنية التحتية الفاشلة دفعت الحكومات الأوروبية للعودة إلى الفحم، وهو الوقود المسؤول عن ملايين الوفيات".
والعودة الأوروبية إلى الفحم تقوِّض بشكلٍ خطير، طموح الاتحاد الأوروبي الجريء إلى أن يصبح محايداً مناخياً بحلول عام 2050، وأثيرت مخاوف، من قِبل المفوضية الأوروبية ومنظمات غير حكومية، من أنّ أزمة الطاقة قد تؤدي إلى تأخير انتقال أوروبا بعيداً عن الوقود الأحفوري، إذ قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إنّه "على أوروبا التراجع عن استخدام الوقود الأحفوري القذر، ولو اضطرّت في الوقت الحاضر إلى استخدامه".
وعلى حدّ تعبير مسؤولين أوروبيين، فإنّ التحول إلى الفحم مسألة مؤقتة، وأن أهداف تغير المناخ طويلة الأجل لن تتغير، لكن في الوقت الحالي، لا يمكن لأحد أن يتأكد إلى متى ستستمر "الحلول الأوروبية المؤقتة".
بينما قالت ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا وأكبر مستهلك للطاقة فيها، إنها لا تزال تخطط للخروج من استخدام الفحم في عام 2030، إلا أنّ الجماعات البيئية تشكك في ذلك، مع العلم أنّ ألمانيا تُعدّ موطناً لـ7 من أكثر 10 محطات للطاقة تلويثاً في الاتحاد الأوروبي.
وحذّرت إدارة المحيطات والغلاف الجوي الوطنية الأميركية، الأسبوع الماضي، من أنّ تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي خلال شهر أيار/ مايو لعام 2022 بلغ مستوىً أعلى بنسبة 50% مما كان عليه خلال حقبة ما قبل الصناعة، ولم يسبق أن سجّل له مثيل على كوكب الأرض.
تبدو المحاولات الأوروبية للاعتماد على أقذر أشكال الطاقة (الفحم) في أزمةٍ كبرى، ولا سيما مع ارتفاع معدّل التضخم في أوروبا، وحظر استيراد الفحم الروسي، فهل تنجح أوروبا في الاختبار، أم أن محاولاتها لن تنجيها من أزمة طاقة متفاقمة وبرد قارس سيدق أبواب القارة العجوز بعد أشهر؟