كيف يوظّف التراث في الأدب الجزائري؟

كيف هي علاقة الأدب الجزائري بالتراث الجزائري؟

الأدب في كلّ العالم، يغرف ويستلهم من التراث ويوظّفه ويستثمر فيه، ويظلّ هذا التوظيف بينهما، حالة فنية إبداعية تشاركية/تبادلية، تُغني/وتُثري الأدب والتراث معاً. لكن تبقى أسئلة تُطرَح هنا وهناك عن هذه العلاقة، وعن الكيمياء الثنائية المشتركة بينهما. ومن أكثر الأسئلة الواردة في هذا السياق: كيف هي علاقة الأدب الجزائري بالتراث الجزائري؟ وما مدى حضور التراث في النصّ الأدبي الجزائري؟ وكيف تمّ/ويتم توظيفه؟ وهل هذا الحضور/التوظيف له إضافة لافتة وفائدة للعمل الأدبي. وهل يستثمر الكاتب في التراث ويوظّفه في نصوصه الأدبية، انطلاقاً من علاقته بالتراث ومن بعض الحيّز المشغول والمشغوف بثنائية التراث والأدب. أو انطلاقاً من قناعاته بأنّ التراث هو مصدر إلهام وثراء ومن الضروري استدعاؤه إلى متونه ونصوصه. حول هذا الشأن، استطلعت الميادين الثقافية آراء بعض النقّاد والأدباء والباحثين المختصّين في التراث.

يرى الناقد الأكاديمي والباحث المُختصّ في التراث، عبد الحميد بورايو، أنّ أيّ إبداع مهما كانت وسيلته متجذّر في التراث بقدر تجذّر مبدعه. وأنّ عمليّة الإبداع تعتمد على كلّ ما هو مخزون في الذاكرة منذ الصغر، قد يكون ذلك عن وعي، وقد يكون جزءاً من التراث يشكل قسماً هاماً من موروث اللاوعي، مضيفاً "من الصعب تصوّر مادّة إبداعية سواء كانت تشكيلاً بالخط واللون (الرسم) أو تجسيماً بموادّ أوّليّة (صناعة التماثيل والمجسّمات والفنون الحرفيّة) أو لغة (أدب) لا تستعمل التراث الّذي ينتمي إليه المُبدع لأنّه يشكّل جزءاً من ذاكرته الجمعيّة". ويوضح بورايو أنّ التراث بالمفهوم العام قد يكون منتمياً للثقافة الشعبية (التي تستند أساساً إلى المُشافهة)، وقد يكون مُستمداً من تراث الثقافة الرسميّة المُدوّنة والْمُلَقَّنَة عن طريق المدرسة ووسائل التثقيف كالكِتاب والمجلة والجريدة والإذاعة والتلفزيون الخ.

صاحب كتاب "عيون الجازية"، يرى من جهة أخرى، أنّه يمكن التمييز بين حضور التُراث بشكلٍ عفويّ في أيّ إبداع، وهو قدر مشترك بين جميع المبدعين، من ناحية، وتوظيفه بصفة واعية ومقصودة في الإبداع، من ناحية أخرى. في هذه الحال يتفاوت المبدعون في ما بينهم في القدرة على استعمال التراث من خلال عناصره الشكلية أو من خلال موضوعاته وما يحتويه من قِيَم.

فالمبدع الّذي يسعى – حسب رأيه- إلى التعرّف على التراث ويتفحّصه ويختار منه قوالب وموضوعات ويستعملها في كتابته، يختلف عن ذلك الّذي يكتفي بما هو موجود في ذاكرته، وكثيراً ما يكون محدوداً، خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة، وهناك من لا يتمكّن من الاستفادة منه، بسبب عدم الاطّلاع عليه اطّلاعاً كافياً بفعل نقص الحمولة المعرفية حول التراث خاصة في برامج التعليم ووسائل التثقيف والإعلام.

بورايو اختتم في هذا السياق مُستشهداً ببعض التجارب: "يمكنني أن أضرب المثل بأدباء عديدين في الأدب الجزائري استخدموا التراث وقدّموا أعمالاً ما زالت إلى اليوم تُعدّ من عيون الأدب الجزائري. مثل رواية (نجمة) لكاتب ياسين، ورواية (إغفاءات حواء) لمحمّد ديب وجميع روايات عبد الحميد بن هدوقة، وخاصة رواية (الجازية والدراويش) وروايات واسيني الأعرج الخ...".

من جهتها، تعتقد الكاتبة والباحثة فريدة إبراهيم أنّ هناك علاقة أكيدة تجمع الأدب الجزائري بالتراث، موضحة أنّ التجربة الروائية العربية الجزائرية -رغم حداثة نشأتها- أظهرت نقلة نوعية، بانفتاحها على الموروث السردي العربي والعالمي باعتباره منجماً زاخراً بالعطاء، حيث استمد منه الكاتب العديد من الأشكال التعبيرية المُتنوعة كالشكل الحكائي والعجائبي والأسطوري. وهو ما تجلّى –حسب قولها- في بعض روايات الطاهر وطار وواسيني الأعرج، التي تعتبر من أوائل التجارب التي غرست بذور التراث في خلايا النصّ، واستوعبت بنياته الدالّة عبر التفاعل على مستوى الشكل والمضمون، بغية التخلّص من جمود السرد التقليدي. كما أسهمت مرونة الرواية، وفق إبراهيم، في تقبّل مختلف الأجناس والأنواع الأخرى وتفاعلت معها فنتج من ذلك ضخّ روح جديدة في نسغ الرواية الجزائرية التي بدأت بوادرها تتشكّل لتثبت أصالتها ضمن خارطة السرد الروائي العربيّ الحديث.

ورغم هذا الحضور اللافت للتراث، إلاّ أنّ إبراهيم أضافت بنوع من الاستدراك: "لا يمكننا الحديث عن توظيف التراث في الرواية الجزائرية بصورة واسعة تجعله ميزة فيها، إذ لم يحدث التراكم الكمّي لهذا النمط من السرد، ولا يمكننا أن نجد منه إلاّ القليل الّذي وُظِّف بصورة ناضجة، وقد يعود السبب إلى صعوبة توظيفه، إذ يتطلّب قدرات فنية كبيرة لدى المؤلّف وتجربة وخبرة، لكي لا يبدو توظيفه كعنصر دخيل لا وظيفة فنية له في بنية السرد". 

كما يمكن الحديث أيضاً عن تقصير أو إهمال في الاستعانة بالتراث كبنيات نصيّة كُلية أو جزئية في السرد المعاصر. لكن رغم ذلك نجد، بحسب إبراهيم، بعض الروايات التي وظّفت التراث، من خلال التفاعل مع مضمون نصوصه أو استلهام أشكاله الفنية واستغلال مقوّماتها الإبداعية لتشييد نصّ روائي جديد، كما تجلّى في "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" لواسيني الأعرج، وهي من أوائل الروايات التي وظّفت عن وعي التراث بأنواعه، إذ تمّ استلهام الشكل الفني لحكايات "ألف ليلة وليلة"، في إطار تفاعل النصوص، ولم يكن الهدف الوحيد للتفاعل النصيّ؛ تحقيق الشرط الجمالي للرواية، بل صدر عن ذات واعية تدرك امتداد الحاضر في الماضي. ويمكن تلمّس ذلك في انفتاح روايات عز الدين جلاوجي والطاهر وطار على الشكل العجائبي والأسطوري، كوسيلة تعبيرية فعّالة لتعرية تناقضات الواقع وانتقاده.

صاحبة رواية "أحلام مدينة"، ترى من جانب آخر، أنّ توظيف التراث في الرواية الجزائرية لم يأتِ صدفة، ولم يكن منعزلاً عن التطوّر الّذي شهدته الرواية العربية عموماً، على المستوى الفني والمضموني في مرحلة ما بعد هزيمة 1967 التي أحدثت خللاً في المجتمع العربيّ، مِمَا حفّز الروائيين على الغوص في تراثهم الغني بصوَر الشجاعة والقوّة والحكمة.

وخلصت المتحدّثة إلاّ أنّ الرواية شهدت استحداث أشكال سردية تعبّر عن الحاضر وتؤصّل للنصّ الروائي الجديد، لذلك تقول إنّ "توظيف التراث في بعض الروايات الجزائرية كان توظيفاً واعياً يهدف إلى إثبات الذات من خلال التحامها بموروثها الأصيل والغني".

من جانبه، يرى الكاتب والأديب رشيد فيلالي، أنّ الأدب الجزائري غرف ولا يزال من معين التراث في جلّ نصوصه، وقد تفاوت بطبيعة الحال هذا الاغتراف كمّاً وكيفاً ومن أديب إلى آخر، لكن في المحصّلة الكل رأى في التراث مصدر إلهام وإبداع ينبغي استغلاله ليس من باب كونه "ديكوراً" وخلفية تزينيّة تصلح للتباهي والادّعاء الأجوف بمعرفته وهضمه وإعادة صوغه في قالب حديث (وقد سقطت في ذلك بعض النصوص التي ظهر الافتعال عليها واضحاً ومفضوحاً ليس هنا مجال ذِكرها!).

فيلالي أكّد في ذات السياق أنّ مقاربة التراث وتوظيفه في النصوص الأدبية تحصيلٌ حاصِل، لأنّ التراث بزخمه التاريخي وتجلّيه الدائم فينا وعبرنا من المفروض أنّ حضوره مفروغ منه. لكن "يبقى السؤال المفصلي هنا هو كيفية استغلال وتوظيف هذا التراث، وإعادة تشكيله في لغة جديدة عصرية لها جماليّاتها ومستوياتها وفنيّاتها، وليس من المبالغة القول إنّ النصّ الأدبي الجزائري من خلال الأسماء المعروفة على الأقل أمثال: عبد الحميد بن هدوقة، بوجدرة، محمّد ديب، مولود فرعون، آسيا جبار، كاتب ياسين، واسيني، لحبيب السايح، وأمين الزاوي وغيرهم من الروائيين، فضلاً عن الشعراء وما أكثرهم، جلّ نصوصهم كانت في الحقيقة ترجمة وتناصاً ومرآة تعكس التراث بكلّ مكوّناته المحلية والأمازيغية والعربية الإسلامية وحتى الأجنبية (التركية العثمانية والفرنسية والإسبانية..) التي تركت بصمات محفورة في لغتنا ووجداننا العام".

يعتقد فيلالي أنّ "هناك ارتجالية في كيفيّة استغلال التراث"، بحيث لم نصل بعد ورغم مضيّ السنين إلى الدرجة التي "تجعلنا نسمو بهذا التراث ونجيد توظيفه مع أنّه شديد الثراء والتنوّع والغِنى".

أما الروائي محمّد الأمين بن ربيع، فيقول إن "التراث في الأدب الجزائري "شكّل مكوّناً ثابتَ الحضور، منذ النصوص الأولى لروّاد هذا الأدب سواء أكان مكتوباً باللّغة العربية أو اللّغة الفرنسية، فالمُطّلع على روايات الطاهر وطار أو مولود فرعون سيكتشف أنّ نصوص هذين الكاتبين تمتح من التراث الجزائري، مادة غنية تُثري كتاباتهما".

مؤلّف رواية "قدّس الله سرّي"، يرى أنّ الأمر لم يتوقّف عند روّاد الأدب الجزائري؛ فقد واصل التراث حضوره في المدوّنة الروائية الجزائرية بشكل مُنتظم، فكأنّما يجد فيه الكتّاب إثراءً لنصوصهم، والمُلاحظ - مثلما قال- إنّ مصادر التراث لم تكن محلية دائماً. فرشيد بوجدرة في روايته "ألف وعام من الحنين" استخدم التراث العربي، من خلال استحضاره لأجواء كِتاب ألف ليلة وليلة.

وقد كان هذا التوظيف فلسفياً أكثر، حيث أنّ الرواية "ذات بُعد عجائبي يتماهى فيه الواقع بالخيال إلى درجة لا يمكن معها الفصل بينهما"، مضيفاً "في حين أنّ كُتّاباً آخرين كان توظيف التراث لديهم عبارة عن تناص مع نصوص قديمة قد تكون شعراً شعبياً أو أمثالاً كما نجده عند بن هدوقة، أو قصصاً وحكايات شعبية كما نجده في روايات الطاهر وطار، أو رشيد ميموني الذي نراه في روايته (شرف القبيلة) يستهلّ السرد بالطريقة التي يعتمدها الحكواتي في سرد خرافته على السامعين".

بن ربيع أكّد للميادين الثقافية على وجود "علاقة تبادلية ذات استفادة مشتركة"، قائلاً إن هذا التوظيف "كان ذا نفع متبادل بين التراث والأدب؛ ففي الوقت الذي أغنى فيه التراث الأدب الجزائري الحديث بمادته المتنوّعة، حفظ الأدب الحديث التراث من الضياع عن طريق توثيقه أدبياً، بالإضافة إلى أنّ النصّ التراثي قد منح الأدب الجزائري عُمقاً ما كان ليكتسبه لولاه". وخلص إلى وجوب توفّر بعض الذكاء في توظيف التراث واستثماره، قائلاً "ولأنّه –أي التراث- جزء من الهُوية وثابت من ثوابت تكوين شخصية الفرد الجزائرية، كما أنّه يُؤثّث المتن الحكائي الجزائري كمصدر إلهام يفرض حضوره. والكاتب الذكي هو الّذي يستطيع استثمار هذا المكوّن في خلق إبداع جديد ومتجدّد لا يكبّل النصَّ ولا النصُ يشوّهه".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]