72 عاماً.. و"هربيا" تزهر وتثمر وتنتظر أهلها
"هربيا" من قرى فلسطين المهجرة 1948، وقرية كمال عدوان. تقع على الشاطئ، ومنها تبدو البيوت الجنوبية من قطاع غزة، واضحة وجلية.
في روايته التي لم تنشر "إرهاب خلف الحدود"، كتب كمال عدوان عام 1958: "وامتد بصره أكثر، ها هي، إنها تبدو واضحة، دير سنيد، هربيا، بيت جرجا، بربرة، حتى بيارة رودولف تبدو من هنا واضحة.. لله ما أحلاها من ذكريات. أحس بعاطفة تدفعه يتقدم، ولكن إلى أين! إنه لا يجرؤ أن يتخطى الحدود، وهو يرى الموت على خطوات منه، وأرضه ومزارعه لم تعد له. لقد بات لِصاً فيها، فكيف يتقدم؟"
-
لقطة لثابت ورويدة وأبو ريا أمام منزل العلمي بهربيا
"يفصل وادي الحسي بيننا وبين الحاجز مع القطاع. إنها ليست حدود. إنه حاجز. حاجز الموت، يمنع أهالي الوطن الواحد من التواصل، ويمنع أصحاب البيوت من الوصول إلى بيوتهم". يتابع "ثابت" ابن البلدة، مازحاً أنه لو صرخ عالياً، من التلة التي نقف عليها، فسيسمعه أخواله، وخالاته من الجهة الثانية للحاجز.
"ثابت" هو ابن المرحومة شريفة ابو راس، ابنة قرية "هربيا". تزوجت شريفة في السابعة عشرة من عمرها، قبل النكبة بأربع سنوات، بعبد الرازق ابو راس من قرية "قلنسوة" في منطقة المثلث، بعيداً عن "هربيا". لقد اعتاد أهالي "هربيا" التزاوج مع أهالي القرى المجاورة مثل "بربرة" و"دير سنيد"، و"دمرة"، و"بت جرجا"، و"الجية"، و"سمسم"، و"الجورة"، و"الخصاص"، أما نصيب شريفة فقد كان بعيداً، عند أقربائها في "قلنسوة".
هجر أقارب شريفة سويةً مع أبناء "هربيا"، وباقي القرى المجاورة إلى قطاع غزة، وبقيت هي وحيدة في الجزء الشمالي من الوطن، يفصلها هذا الحاجز اللعين عن أهلها ويفصلهم عنها. كذلك هي، لم تتجرأ أن تتخطى الحاجز نحو أهلها، وهي ترى الموت على خطوات منه. سنوات طويلة تمر، وهي تنتظر أن يزيل أهلها الحاجز. أن يزيلوه هم، من الجهة الجنوبية، ليلتقيا داخل بيتهم في "هربيا"، داخل البيارات، وعلى شاطئ "هربيا".
في عام 1967 احتلت "إسرائيل" الجزء الجنوبي من الوطن، وأزالت هي الحاجز. لقد أزيل الحاجز من الجهة الشمالية. إنها علامة شؤم لشريفة لأنه لن يكون بمقدورها أن تلتقي مع أهلها في بيتهم في "هربيا"، وإن الظلم، والاقتلاع سيستمر، لكن ذلك كان كافياً لكي تعانقهم بعد غياب طال 19 عاماً.
تقاسم المستوطنون البلاد بينهم كما يتقاسمون الضحية، فكانت "هربيا" وأملاكها، وأراضيها، وخيراتها، وبحرها من نصيب منظمة "هشومير هتسعير"، التي تعرف نفسها أنها منظمة اشتراكية يسارية ترفع العلم الأحمر، وشعارها "إصلاح الإنسان، إصلاح العالم".
هدمت المنظمة بيوت القرية، ومسجدها، ومقبرتها، وطمست كل معالمها، وسلبت خيراتها، وأملاكها، وأبقت مدرسة القرية فقط. بقيت المدرسة لتكون شاهداً على النهب والسلب الذي مارسته المنظمة. بقيت المدرسة لتكون شاهداً على حق أهل هربيا في هذا المكان، وشاهداً على الثقافة والتعليم في هربيا من قبل قرن من الزمن.
-
ثابت يتذكر طفولته في مدرسة قريته المهجرة
أقامت منظمة "هشومير هتسعير" على أنقاض القرية مستعمرة جديدة، هي كيبوتس "كرميا". لقد أبت عليهم إنسانيتهم إلا أن يختاروا اسماً يشابه اسم القرية "هربيا"، أما مدرسة القرية فقد أطلق عليه اسم "يد للأبناء"، الأبناء الجنود الذين قتلوا وهم يمارسون جرائم القتل، والتهجير، والاغتصاب ضد "هربيا" وجاراتها.
أما على أراضي "هربيا" فقد أقامت المنظمة كيبوتس آخر، اسمه "زيكيم"، وداخل هذا الكيبوتس هناك مبنيان كبيران جميلان تعود ملكيتهما لعائلة العلمي المقدسية، تم بناؤهما قبل النكبة. خلال سنوات طويلة أهمل كيبوتس "زيكيم" هاتين البنايتين، لكن قبل عدة سنوات قام الكيبوتس بترميم إحداهما، تلك القائمة على التلة المطلة على البحر غرباً، وعلى وادي الحسي جنوباً، وأطلقوا عليها اسم "بيت العلمي".
أطلقوا على المبنى اسم "بيت العلمي"، واحتفلوا وتفاخروا بـ "إنسانيتهم"، ودعوا صحافتهم لتشهد على ذلك، وبحثوا عن أبناء عائلة العلمي ليدعوهم للمشاركة في هذا الاحتفال، احتفال المغتصِب مع المغتصَب. وعلى مدخل بيت العلمي ثبتوا لافتة، تضم صورة من يوم تهجير، واقتلاع "هربيا"، كتب عليها "علم أحمر آخر في الطريق"، علم ملطخ بدماء الأبرياء. إنه لا يشبه العلم الأحمر الذي كان يرفع في "قلنسوة" و"سخنين"، سوى بلونه.
ننطلق من حيفا شمالاً لنلتقي في "قلنسوة"، مع أصدقائنا ثابت ورويدة، لنستمر جنوبا إلى "هربيا". رويدة أيضاً مهجرة، من قرية "مسكة". فقط في فلسطين، يتزوج المهجر من المهجرة، وينجبون أطفالاً، وأحفاداً مهجرين.
-
ثابت وأبو ريا وعنب هربيا -
كرم الخيرات في هربيا: الصبار الوفير
غريب أمرنا في فلسطين، نقضي أيام أعيادنا على أنقاض قرى مهجرة. لسنا بعيدين عن قرية "معين ابو ستة"، القرية التي ولد فيها الدكتور سلمان ابو ستة. إنها مناسبة رائعة للتواصل معه، ومعايدته في مقر إقامته هناك في الكويت. يستقبل ابو ستة اتصالنا بشغف كبير، ويبدأ مباشرة برسم خارطة "هربيا"، و"بربرة"، و"دير سنيد" أمامنا على تفاصيلها الدقيقة، كأنه لم يترك يوماً هذا المكان.
"ثابت" هو حارس هربيا، أخذ على عاتقه هذه المهمة بعد حصار غزة. يشعر أنها أمانة في عنقه. يحفظ عن ظهر قلب كل شيء يتعلق بـ"هربيا". يشرح بفخر تاريخ القرية، عن أهلها، ومدرستها، وبحرها، وعن بيوتها، ومقبرتها المهدمة، وعن خيراتها.
-
هربيا وخيراتها
"هربيا" اسم على مسمى. "هربيا" الوفرة، والكثرة، والعطاء. حدثنا عن صبرها، وتينها، ونخيلها، وزيتونها، وجميزها، وكروم عنبها. نعم كروم العنب في حقول الرمال على شاطيء "هربيا".
مر عليها أكثر من اثنين وسبعين عاماً، ولا زالت تزدهر وتثمر وتنتظر أهلها.