الدراما والمجتمع.. الاتجاه المعاكس - الجزء الثاني

الدراما ولدت في حضن ألإعلام، ما يجعل منها منتوج ذو محتويين، فني وإعلامي ( توعوي تعبوي الخ ) بالضرورة، خصوصاً من جهة الرقابة، التي تداخلت في أولوياتها وظائف مختلفة، سياسية وثقافية ودينية وفلكلورية، وأصبحت لوائحها النافذة (والقابلة للتكييف) وسيلة التحكم بالإنتاج الدرامي، على تعدد أنواعه ومراحله وموجاته.

الرقابة على الدراما العربية
التكنولوجيات، بالنسبة لنا كشعوب تأتي من فراغ، نتعلم تشغيلها بالتجربة والخطأ ليظهر لدينا معلمو مهنة، يستفاد منهم بإدارة وتشغيل ماكينات هذه التكنولوجيات، وما أن تنتهي موضة منها وتظهر موضة تالية، حتى تعاد الكرة وتظهر عاهات الفوارق المعرفية بين هذه التكنولوجيات ومشغليها ومستهلكي إنتاجها، وهذا ما كان وحصل، وعلى سبيل المثال في ظهور التلفزيون ( العربي أيام الوحدة الناصرية )، فمحطتي التلفزيون العربي ( دمشق والقاهرة ) اللتان ظهرتا إلى الوجود في 23 تموز/ يوليو 1960، كانتا هدية مجانية من الحكومة الأميركية إلى "دولة الوحدة" وذهب لفيف من موظفي الإعلام  الأقليم الشمالي ( سورية) إلى نيويورك للتدرب على تشغيل هذه الماكينات في الإنتاج الإعلامي. وبالترافق تمّ إنتاج أول درامة تلفزيونية باسم ( الغريب) عام 1960 عن قصة المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد، من إخراج سليم قطايا.

 

ما يهمنا من هذه المقدمة، أن الدراما ولدت في حضن ألإعلام، ما يجعل منها منتوج ذو محتويين، فني وإعلامي ( توعوي تعبوي الخ ) بالضرورة، خصوصاً من جهة الرقابة، التي تداخلت في أولوياتها وظائف مختلفة، سياسية وثقافية ودينية وفلكلورية، وأصبحت لوائحها النافذة (والقابلة للتكييف) وسيلة التحكم بالإنتاج الدرامي، على تعدد أنواعه ومراحله وموجاته. وهذا ما أخضع تكنولوجيات التلفزة الحديثة والحداثية إلى مرجعيات وصائية ذات عقلية ما قبل هذه التكنولوجيات على الأقل، وهذا ما يمكنه قلب مهمة التلفزة إلى إتجاه معاكس تماماً ( كما يحصل اليوم بين الأرهاب وتكنولوجيات الإتصال كمثال )، ومع هذا وحتى نهاية السبعينيات أنتجت التلفزة الحكومية السورية، أعمالاً درامية، يمكن وصفها بالحداثية وقتها، كما يمكن وصفها بالفاحشة اليوم، بالمقارنة ما تمّ إنتاجه منذ نهايات السبعينيات حتى يومنا هذا، وهنا يجب الملاحظة،.. فإذا كانت تكنولوجيات التلفزة جاءت من فراغ ما، فإن الدراما التي أنتجتها لم تأت من فراغ بل من تراث رواد الفن في القرن العشرين، وعلى رأسهم أبو خليل القباني، وأتباعه الكثير، بالإضافة إلى مبدعي الدراما الإذاعية، مثل حكمت محسن ووليد مدفعي، وهذا ما أدخل الأدباء في دائرة صناعة الدراما التلفزيونية كمحمد الماغوط، وعادل أبو شنب وغيرهم طبعا، وكانت ذروة هذه المسلسلات في مسلسلي ( أسعد الوراق وحارة القصر ) ومن بعدها بدأ الخط البياني بالهبوط بسبب الرقابة ليصل إلى مسلسل ( ألوان وظلال ) لعبد العزيز هلال وهاني الروماني، حيث أوقف عرضه لشبهة خدشه للحياء العام مع أنه أول مسلسل بالألوان ينتجه التلفزيون السوري، في خلط واضح بين الرقابة الفنية. كما أدعت وقتها، والرقابة على المحتوي كما مارست وقتها أيضاً، في تكيف علاني للوائح الرقابة الرسمية.

لا أسوّق هذه الأمثلة للتأريخ أو محاولة التوثيق، بل للإشارة إلى العلاقة الوطيدة للسلوك الاجتماعي بالثقافة (والفن منها)، بغضّ النظر عن تقدم الطرفين أو تخلفهما، وفي حالتنا المعروضة الآن يمكننا أن نرى بوضوح أن التلفزة كانت تتعامل كمنبر أكثر علماً من جمهوره ( وليس كمعرفة على أية حال )، آخذة على عاتقها توعية هذا الجمهور والإرتقاء به إلى موقع حداثي "ما"! هذا ما ظهر على الأقل في الموجة الأولى للدراما التلفزيونية، وهو ما ظهر أيضاً في الآداء والسلوك الاجتماعي آنئذ، فرواد هذا الفن المحدث والمفاجىء ينتمون في جلهم الى مثقفي الخمسينيات ذات التجربة "اللبيرالية" ثقافياً على الأقل، وهو ما حقن في شرايين الثقافة العامة وبالتالي السلوك الأجتماعي ببعض المدارك الحداثية، خصوصا ًبما يخص العلمانية، وإنتقاد الأفكار التراثوية البالية، وكذلك التأكيد على أن ما يجمع المجتمع ويولده هو وحدة المصالح (كما في منتجات نهاد قلعي الدرامية ) القصدية الإرادية، وليس مجموعة الصفات الفلكلورية المتنوعة، وكان الإحتكاك الأول الذي حصل وأودى بمسلسل ( ألوان وظلال )، كان مع الطبقة المثقفة الرسمية مؤسساً لرافد رقابي غير رسمي أو لوائحي قانوني، أو ما يمكن تسميته ( رقابة الظل )، تحت ذرائع أو حجج أهمها خدش الحياء العام الذي خدشته المسلسلات السابقة بأعمق مما خدشه هذا المسلسل في حلقاته الأولى ولم تخرب الدنيا، بل اتسعت مدارك المتلقي ليستوعب حياء أكثر مصلحية، وهذا ما أسس وبقوة لما يمكن تسميته الرقابة الاجتماعية وهي رقابة فالتة بلا عقال ( على ألأغلب كانت بعقال شديد السواد ) حلت عرفياً مكان لوائح الرقابة الحكومية التي بدت عندها كرقابة شديدة الإنفتاح، رافقت هذه النوعية من الرقابة المسلسل التلفزيوني السوري ( واللبناني إلى حد ما) منذ إنطلاق الموجة الثالثة للدراما التلفزيونية، متمثلة بلوائح رقابية وضعتها محطات البث المستجدة ( عرفت وقتها بلوائح 28 بنداً )، حتى قيل من يخضع لهذه اللوائح لا تطاله أية رقابة في العالم، وخضعت لها كل الشركات المتنتجة للدراما التلفزيونية بما فيها المؤسسات المنتجة الحكومية، وتمّ سحب الدسم من جل الأعمال الدرامية إما بمقص الرقيب أو بالشراء المسبق المشروط، لدرجة أنه كان هناك مسلسل للكاتبة ريم حنا اسمه ( طقوس الحب والكراهية ) أشيع له أسم ساخر آخر، بعد بثه في بعض هذه المحطات وأصبح مختلفاً تماماً عن الأصل وصار أسمه ( طقوس الكراهية فقط )، ولا أطرح هذا المثال للتندر، بل أسوقه، كي أوضح أن ما وصلت إليه "اللادرامة " التلفزيونية لم يأت من فراغ على الرغم من أن تكنولوجيا التلفزة برمتها جاءت من فراغ، بالنسبة لهؤلاء من صناع التلفزة الذين ينطقون عن وعلى الهوى والهوا .

لقد كان تأثير المسلسل الدرامي واضحاً في السلوك الاجتماعي، خصوصاً في مستهل الموجة الثالثة، بل ومتحكماً في ثقافة "مجتمعات" نادرة القراءة، وتقاطع السينما والمسرح في آخر 35 سنة من عمرها، والتلفزة شريك فاعل في هذه الندرة وهذه المقاطعة .