الدراما والمجتمع: دراما ضدّ الدراما – الجزء السابع
من المتفق عليه أن الدراما التلفزيويونية هي سلعة إبداعية حديثة وحداثية، أو أنها تغامر بمعنى وجودها إذا لم تكن كذلك، وهذا بغض النظر عن الهجومات المتهافتة للمتفلسفين حول الحداثة الغربية والعولمة المتوحشة، ويتفيقهون حول العطب التأسيسي في ثقافة هؤلاء(الغرب المؤذي) وسلوكياتهم وأزماتهم إلخ.
مشهد من مسلسل تاريخي سوري
من المتفق عليه أن
الدراما التلفزيويونية هي سلعة إبداعية حديثة وحداثية، أو أنها تغامر بمعنى وجودها
إذا لم تكن كذلك، وهذا بغض النظر عن الهجومات المتهافتة للمتفلسفين حول الحداثة
الغربية والعولمة المتوحشة، ويتفيقهون حول العطب التأسيسي في ثقافة هؤلاء(الغرب
المؤذي) وسلوكياتهم وأزماتهم إلخ.
تبدو الدراما من
هذه الوجهة كمن يقطع الغصن الذي يجلس عليه، إذ هو يقوم بفعل ما، ولكنه سيؤدي
بالضرورة إلى السقوط عن الشجرة، هذا ما وقع فيه معظم إنتاجات الدراما التلفزيونية
السورية ( طبعاً لا إحصاء ولا إحصائيات فهذه مع تحاليلها من مواصفات الحداثة )،
فالقيم والطروحات والمحتويات التي قدمتها كانت في معظمها تنتمي إلى منظومات
تفكيرية عتيقة ومستهلكة هي ضد الفن أساساً، وتقاومه في منتديات ومنابر أخرى، ولا
ترى في التلفزة إلا منبراً جديداً يمكنها استغلاله عبر مناورات ساذجة تستخدم الدين
والجنس والسياسة كتروس تختبىء خلفها معفية نفسها من إنتاج ما يدعم إيجابياً
وموضوعياً السيرورة المعرفية للتجمعات البشرية الناطقة باللغة العربية، وعلى هذا
الأساس قدمت نفسها كفعل خيري نصائحي، يسبق الممنوعات (التابو) بخطوات بتشاطر
وفهلوة معفية نفسها من إمكانية الجدل معه، هذا الجدل الذي يشكل جوهر الدراما بشكل عام،
فالدين والجنس والسياسة هي ما تسعى كل رقابات العالم إلى كبح تناولها ،بينما تصر
كل درامات العالم على محاولة محاورتها والجدل معها كطرف موضوعي يتناول الحياة
بشروط الحياة نفسها، فاتحة الأبواب على جدل إجتماعي دنيوي، يجعل من الفن والإبداع
شريكاً حياتياً في العيش البشري، وهذا ما عاكسته (وليس ناقضته على أية حال)
درامانا، حيث تبنت هي نفسها ذلك التابو وزاودت به سابقة الرقابات على أنواعها، عارضة
لتجمعات من مؤمنين تشوب تصرفاتهم بعض الأخطاء البشرية الناتجة عن جهل في
الإستحقاقات الناتجة بدورها عن تقصير في الإستماع إلى المنابر، أو عارضة تجمعات من
فاقدي الشهوة إلى الجنس، بسبب فقدان أسباب وجودها في الأصل، فهذا التجمع السكاني
الذي تتناوله هكذا دراما هو تجمع أخوي ولولا ضرورات التناسل أو أحكام التراث
والتقاليد المرعية لما تزوجوا أساساً. أما في السياسة فالرضى هو الغالب ما لم يدخل
الغريب (الآخر الأغيار) ليحول الموضوع "سياسوياً" حفظاً للشعارات التي
تحولت إلى تابو هي الأخرى أيضاً، فالكل راض ٍفي السياسة وعن السياسة، والأمور عال
العال لولا بضع منغصات هنا وهناك يمكن حلها بفعل خيري من هذا المسؤول أو ذاك،
وتنتهي السياسة عند هذا الحد... فإذا كان لايمكن لأية دراما أن تعيش في هكذا بوتقة،
فما بالنا بالجدل والتفاعل الذي هو غاية الفن؟ وما بالنا بالإرتقاء والتطور؟ أو
التعمق في أسباب خيباتنا؟. ما الخلاف الإنساني الوجداني الذي يمكن أن ينشأ بين أي
من شخصيات هذه الأعمال ولا يحل بتبويس شوارب؟ ما هي المصالح المتناقضة التي يمكن
أن تنشأ بين مختلفين وينتج منها دراما( صراع )؟...لا شيء تقريباً، وهنا يبدو
"الغريب" ضرورة على الرغم من رفضه وتأثيمه وتثريبه، ولكنه عضو لا يستغنى
عنه في هكذا دراما.
المشكلة في تجاهل
وتغييب هذه التابوهات الثلاثة، ليس بالإبتعاد عن شرط الحياة في الدراما فقط، ولا
بفقدانها للأسئلة الملحة والضرورية فقط أيضاً، بل بتكريسها قناعاتها هي
بالرقابات وجعلها على حق ( وليس على صواب بأية حال)، حيث تبدو هذه الدراما على
قناعة تامة بالممنوعات وضرورتها، لا بل وتحاول إقناع المشاهد بها، مخربة عليه
فرصة التساؤل والجدل، محولة التلفزة نفسها إلى منبر تراثي، يبث وسائل إيضاح (
كالتي تستخدم في المدارس) لشرح مسألة انتهى فيها الجدل منذ زمن طويل. ليظهر من بين
ثناياها ذلك المشاهد الذي يسألك ذاك السؤال المنحرف الشهير: وهل ترضى لزوجتك أو
أختك أو أمك أن ترى مناظر الفحشاء وقلة الحياء على الشاشة؟ حيث تتحول المسألة كلها
إلى قضية عرض وشرف وهميان للمسؤول، فلا يستطيع جواباً يحوله إلى فاحش، بينما أم
وأخوات وزوجات السائل يتفرجن على ما يستهوهن عبر النت أو الكايبل أو الـ (دي في دي)
هذا المثال هو بعض مما تقدمه الدراما كذريعة لتخلفها وفقدان مهامها، متحولة إلى
منبر تراثوي، لا يستطيع جلب التراث إلى الحاضر، فيقوم بأخذ الناس إلى الماضي
الآفل.
إن تحطيم هذه
التابوهات الثلاثة هو جزء من عقلية الفن المبدع، والتلفزة مرحلة تكاد تنتهي
بشروطها ولسوف تنتقل إلى آفاق أخرى أكثر حداثية واستهلاكاً، تاركة المشاهد
"العربي" بلا ذخيرة معرفية تذكر، اللهم إلا الإقرار بأن مجتمع هذه
الدراما سليم مئة بالمئة ( ديناً وجنساً وسياسة)، ليظهر دور الآخر بمحاولته غزوناً
بإكتشافاته التكنولوجية من أجل تخريب هذا الإستقرار، هذه التكنولوجيا سنتعلم
تشغيلها أيضاً ونرد كيده إلى نحره.
يمكننا رصد أنواع
متعددة من هذه الدراما تفيد في معنى التجاهل الذي ذكرناه للتابوهات الرقابية التي
تدعمها هذه المسلسلات، ولكن وعلى الرغم من ابتعاد مواضيعها عن هذه التابوهات إلا
أنها تبدو شوهاء معرفياً، وتقوم على التزوير في الوقائع كما في الرؤية والتفسير،
مثل المسلسلات التاريخية (على أنواعها، قديم، جاهلي، إسلامي، أندلسي، عثماني، مملوكي،
حديث، الخ) وتكريسها تاريخاً غير مدروس ولا هو محقق بدقة وبرؤية تبشيرية عنصرية (
الأمثلة كثيرة جداً ولكن أهمها أخوة التراب بجزئيه وكذلك التغريبة الفلسطينية ) مخضعة
مشاهديها إلى عصاب جماعي يتبدى في الكثير من المفاصل الحياتية وأهمها كره الأجانب
وتثريب تقليدهم والخ من هذه الخطابات التهذيبية الخيرية، حتى أصبحت القبلة على
الشاشة مثلاً كفعل إجرامي مسيء على الرغم من معناه الإنساني الرائع، في
تكريس عنيد لمعانٍ معاكسة لمعنى التقبيل والحب كما تراه الإنسانية. فإذا أضفنا إلى
الأعمال التاريخية مسلسلات الفانتازيا التاريخية ومسلسلات البيئة الشامية، وما
تحملان من تهويم ومغمغة، نكون قد حصرنا جل إنتاجات الدراما السورية في خانة ثقافة
التجهيل، وما أقوله ليس حكماً بقدر ما هو ملاحظات مجمعة من طرفي المعادلة، المادة
الدرامية المقدمة، والجمهور المتلقي لهذه المادة.
لقد ساهمت
الدراما التلفزيونية بشكل أساسي في صوغ الثقافة العامة التي تبدو في يومنا هذا...
حمقاء على الأقل.