حلف المستضعَفين والغرباء المتين
مشروع مقاومة العدو الصهيوني هو المشروع الوحيد الثابت والحقيقي في المنطقة في واقع مقاومته للمشروع الاستعماري الصهيوني.
"السياسة استمرار للحرب بأدوات متعددة"، يُستنتج من هذا التعريف، الذي قدّمه ميشيل فوكو، للسياسة، أن الحرب تمثّل الحالة الثابتة والطبيعية في العلاقات بين اللاعبين السياسيين على اختلاف توجهاتهم، في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين، أعلن الاستعمار حرباً على الأمة الإسلامية المتشظية عن شروطه الكبرى، فكانت الصهيونية حربة الاستعمار المشهرة على صدورنا، وكانت "إسرائيل" رأس تلك الحربة ومصلها القاتل. لذلك، في الخامس عشر من أيار/مايو من عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين لم يعلن قيام "دولة" جديدة في الشرق الأوسط فقط، وإنما أشهر، عبر ذلك الإعلان، حرباً للاستعمار المستمرة على كل دول المنطقة. وهي حرب لا تسكن إلّا بالزوال المباشر لقسم من دول المنطقة (بإنهاء وجودها وحيويتها واختلاف ممتلكاتها)، أو بصورة غير مباشرة تتمثّل بهزيمتها الكاملة وإذعانها وتسليمها المطلق لوجود هذا الكيان في قلب الأمة، وعادة ما تكون النتيجة الثانية مقدمة لازِمَةً للأولى.
بناءً على مثل ذلك الفهم، تولَّدت في المنطقة، نتيجةً للتفاعلات المستمرة للأعوام الخمسة والسبعين الأخيرة، قوى مقاومة للوجود الصهيوني. وهي قوى دفاع عن حق الأمة في الوجود والبقاء وصد العدوان الصهيوني المتنامي على محيطنا، ونحن في مثل هذه الأيام في كل عام نحتفل بذكرى الانتصار الكبير الأول لقوى المقاومة المتمثل بانتصار المقاومة الإسلامية في لبنان على الصهيونية، وتمكّنها من فرض انسحاب مُذِلّ للجيش الصهيوني من معظم الأراضي اللبنانية.
نقف اليوم على مسافة 23 عاماً من ذلك الحدث المؤثّر، وشهدت المنطقة برمتها في هذه الأعوام تحولات وأحداثاً عاصفة، كانت محصّلتها حتى الآن استمراراً للعدو الصهيوني من جهة، وتعاظماً للقوى المقاومة له من جهة أخرى، وهي قوى امتلكت من الخبرات والقدرات والشرعية ما يؤهّلها لإدارة مواجهة كبرى معه. وفي الخلفية ازدادت دول التطبيع وقاحةً، وتوسعت دائرة الانهيار العربي نحو الإذعان والتسليم بوجود "إسرائيل" في المنطقة.
اللافت أنه على الرغم من تناقض المشهد، فإن صورة الحال في المنطقة تجسّد مقولة فوكو السابقة. فالحرب الصهيونية المعلنة على المنطقة مستمرة، ونتيجتها تتمثل بمزيد من الإذعان والتبعية لدول التطبيع، الذي يسوَّق على أساس كونه ممارسة ذكية وبراغماتية للسياسة، بينما هو في الحقيقة تجسيد أليم لما تنص عليه النظرية الأمنية الصهيونية، وفي قلبها نظرية الجدار الحديدي، والتي تحدد أن غاية الصهيونية تتمثل بتحقيق السلام المؤسس على اقتناع العرب باستحالة هزيمة "إسرائيل".
لذلك، فإن مشروع مقاومة العدو الصهيوني هو المشروع الوحيد الثابت والحقيقي في المنطقة في واقع مقاومته للمشروع الاستعماري الصهيوني. وهذه القراءة لا تمثل انحيازاً مشروعاً ومباركاً إلى هذا المشروع، وإنما هي في الأساس قراءة لموازين القوى الفاعلة في المنطقة، والتي تمثل السياسة فيها ساحة اشتباك وصراع على مزيد من السيطرة والنفوذ.
وحينما سيق العرب إلى حظيرة التطبيع كان ذلك استكمالاً لمجهود حربي ظهر العرب فيه للوهلة الأولى كمنتصرين، بينما كانت الترجمة الحرفية لذلك الانتصار متمثلةً بارتماء - مثل السادات - في مهاوي التطبيع والاستجداء. وعندما وقّعت منظمة التحرير ثم الأردن معاهدات "السلام"، كانا في الحقيقة يوقّعان معاهدات إذعان وتسليم، ليمحو العرب، في سلوكهم هذا، الفارق اللغوي بين النقيضين: الحرب والسلام.
وأعادت قوى المقاومة إلى الأمة العربية ما فقدته من معانٍ، حينما امتلكت هذه القوى ما يؤهّلها لتكون نداً مكافئاً ومناوئاً للمشروع الاستعماري الصهيوني، لذلك تفزع "إسرائيل" (النووية) وتخاف من مناورات حزب الله بالأمس القريب عند الحدود، لأنها باتت تعلم بأن مستضعفي لبنان وغرباء فلسطين وأنصارهم وأولياءهم في المنطقة باتوا قوة قادرة أكثر من أي وقت سابق على إلحاق الهزيمة الكبرى بالمشروع الصهيوني؛ هزيمة كافية لقطع ذراعه الطويلة ونيّاته العدوانية. وهذه ستكون الخطوة الأولى في طريق تحقيق الانتصار الأكبر، المتمثل بإزالة الوجود الصهيوني الخبيث والطارئ.