"جيل التحذير"
طريق فلسطين موصول من القسام إلى الأمناء العامين الشهداء، ومن كتيبة الجرمق حتى كتيبتي نابلس وجنين، ومن العرين حتى آخر شهدائه وجنوده؛ طريق لا تقطعه كل موائد العشاء التي تجمع الذئب بكل قطيع السذّج السعداء.
هنا في فلسطين، تُنسج النظرية من خيوط الواقع، وتدلنا عليها في كل جيل ثلة لم يرهقها ازدحام الأسئلة في فوضى النظريات. فمنذ استفاق العرب والمسلمون على واقع تخلف مراكبهم، وتعثر مسيرهم، وحتى وصول "دولة العرق" إلى ذروة نفوذها وعلوها الأرضي، ما زال فهم الصراع ونظريته رهناً بثلة أتقنت الثورة والمقاومة سلوكاً يومياً وتلقائياً، وأداةَ تحرُّر، وإطاراً إدراكياً، على حد سواء.
فالشيخ عز الدين القسام لم يقرأ "أدبيات التحرر من الاستعمار"، فهي لم تكن كُتبت بعدُ، بل اكتفى شيخ المقاومة الأول بقراءة واقع التمدد الاستيطاني، والتواطؤ البريطاني مع اليهود من أجل إقامة "الدولة" الصهيونية على خرائب فلسطين، ليعلن انطلاق شرارة الثورة المستمرة على الاستعمار المتواصل فيها، وليكون استشهاده مصداق تجريده النظري الشهير: "إنه لَجهادُ نصر أو استشهاد".
كما لم يتفرغ عبد القادر الحسيني لدراسة علوم الاجتماع والسياسة ليدرك أن كيمياء فلسطينيته تقتضي الموت دفاعا عن الأرض، أو عن فكرة الحق في مقاومة مستعمريها، في معركة لا تكافؤ فيها إلّا بين قوة رغبة المستعمَر في الحياة أمام إرادة المستعمر بنفيها وسلبها.
ولم يحتج مؤسسو حركة "القوميين العرب"، ولا قادة الثورة الفلسطينية، سوى إلى قليل من التبصر ليعلنوا أن لا هوية للفلسطيني سوى ما تنطق به بندقيته. ولمّا تاهت خطى الثائرين في السرادق والدهاليز للسياستين العربية والإقليمية المهزومتين والمأزومتين، كان الشعب الفلسطيني يستعدّ لإنتاج نظريته التحررية من رحم الأرض وعمقها، بحيث يفرز الاحتلال الاستعماري نقيضه المقاوم، وتنتج مقاومته وعياً تحررياً وقراءة متجددة تعي ضرورات الثورة ومركّباتها لكل مرحلة، كما تعي شروط انتصارها وعوامله.
حينما أدركت الكتيبة الطلابية (كتيبة الجرمق في لبنان) أن فلسطين قنطرة الوصال بين الإسلام الثوري، كعمق حضاري، والعروبة، كمضمون ثقافي، وبين الثورة، كخطاب وممارسة تحررية، كان الجهاد في فلسطين، بسراياه وكتائبه، يتولد عن بطولات وتضحيات سيكون لها الدور الأبرز في صحوة الانتفاضة الأولى المباركة. ومن لبنان إلى فلسطين كانت صحوة الشعب المستضعَف تمثل مفردات النظرية التحررية في سياق مناهضة الصهيونية، والتي تمثل فكرة متعدية حدودَ الفصائلية، ومتمردة على كل الطائفية، ومتناقلة بكثافة وعي الغايات وإدراك المسائل لتحقيق الانتصارات.
لقد أهدى انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان إلى فلسطين تأكيداً إضافياً لكوامن الحرية في الروح، إن هي نهضت من سباتها وسلبيتها، فانطلقت انتفاضة الأقصى على كواهل جيل لم يدرك من تاريخ أجيال الثورة التي سبقته إلّا صواب النهج وصدق الغايات. ومع انتهاء الانتفاضة ومحاربة روحها على يد تحالف الغباء والتجارة والتناهي مع الاستعمار، أدرك الجيل الجديد، من هديل الهشلمون وباسل الأعرج وضياء التلاحمة ومهند الحلبي، وحتى جميل العموري وإبراهيم النابلسي وسائر الشهداء، عبء الأسئلة وناصية الإجابة، وليتقن عدي التميمي صياغة عقيدة هذا الجيل وقتاليّته؛ عقيدة الفلسطيني المطارد للاحتلال والمشتبك معه حتى ما بعد الإصابة والشهادة، بحيث ينبغ الشهيد بقتله عدوه كل صور الهزيمة والعبودية التي أرادها له، وليُحيي بكفاحه المقاوم ومصرعه المقدس كرامة الثائرين المنصتين إلى حكمة الكبرياء: "إن السلاح كان وما زال زينة الرجال".
لقد أحيا الجيل الجديد في أرواح الأجيال، التي سبقته وكادت تنهزم، كلَّ بواعث الإيمان لما تفوق حتفه الباسم المقاوم والجميل على كل تجريد النظريات المطلقة، وكان انتصار دمه النازف أصدق وأوضح من كذب الشعارات والابتهالات لمنظّري الخلاص (السريع والمريح) ومنتظريه. لذلك، نفهم قولة الشهيد محمد أبو بكر (الجنيدي) لأمه عند ارتقائه مشتبكاً، رفقةَ صديقه حسام سليم: "نحن لسنا جيل التحرير بل جيل التحذير"؛ جيل لا تعدو وظيفته عن إيقاظ الهمة وإشعال جذوة الصراع، كلما داهمتها رياح التطبيع والتنعّج والهزيمة، إعداداً لانطلاق جيل التحرير العتيد من رحم الأرض المعذبة.
كأنّ حكمة جيل التحذير تقول: إن طريق فلسطين موصول من القسام إلى الأمناء العامين الشهداء، ومن كتيبة الجرمق حتى كتيبتي نابلس وجنين، ومن العرين حتى آخر شهدائه وجنوده؛ طريق لا تقطعه كل موائد العشاء التي تجمع الذئب بكل قطيع السذّج السعداء؛ طريق معبَّد بالدم والرصاص وبزغرودة أمهات الشهداء وكبريائهن.